صفحات الثقافة

بسام حجار.. أو كيف نمدح الخائن/ يوسف بزي

 

 

في خانة البحث على موقع جريدة “المستقبل”، كتبت اسم بسام حجار، واخترت عشوائياً عام 2005. أتت النتيجة سلسلة طويلة من المساهمات والكتابات. المدهش فيها هو كمّ النصوص المترجمة ونوعيتُها، أذكر منها:

“مفارقات الفن السياسي” لجاك رانسيير، “كشمير.. عهد الموت” لسلمان رشدي، حوار مع فرناندو سباتر أحد أبرز الفلاسفة الإسبان، خطابات الكاتب المسرحي هارولد بينتر إلى السياسيين، “إنهم قادمون” للطاهر بن جلون، “رسائل من السجن” لأكبر غانجي السجين السياسي الإيراني، “نيو أورلينز، أو مثال التخطيط المديني الحديث” ثلاثة مقالات عن إعصار كاترينا وما حل بالمدينة الأميركية. إضافة إلى عشرات النصوص لكل من ريجيس دوبريه، بول ريكور، ميشال غيران، ميلان كونديرا، مارك سيمو، غي سورمان، أمبرتو إيكو، بيار روزانفالون، أندره كونت سبونفيل، فيم فاندرز وآخرين.

هل من جريدة أو “موقع أنترنت” يتيح اليوم مساحة لنشر هكذا نصوص؟ هل من مؤسسة صحافية راهناً “توظف” مثقفاً كي يمارس مزاجه ويختار ما هو مهم للقراءة والترجمة؟ لسوء الحظ، ما كان سائداً قبل سنوات قليلة فقط، صار فجأة كأنه من ماض سحيق.

إذا أردنا جمعَ ما ترجمه بسام حجار في الصحف التي عمل فيها: السفير، النهار، الحياة، المستقبل.. إضافة إلى ما نشره في المجلات الثقافية الكثيرة، فإننا سنقف أمام إرث كبير مبعثر، وغير منظور الآن.

مع ذلك، أتجرأ على القول أن جهد بسام حجار ما زال ماثلاً في رصيد المعرفة التي اكتسبها قراؤه. فنحن كجيلين أو ثلاثة أجيال ندين بثقافتنا ومخزون اطلاعنا لنمط من الصحافة المكتوبة كانت تولي عناية خاصة لما نسميه فن “الكتابة والترجمة”. أذكر هنا مثلاً صفحة يوم السبت في جريدة “النهار” التي كان يُعدّها الراحل عصام محفوظ، أو صفحة “صحافة العالم” التي كان يعدها وضاح شرارة في جريدة “الحياة”، إضافة إلى الملاحق الأسبوعية (رحمها الله). ونحن معشر الأدباء والشعراء، ندين لذاك التقليد الذي كان حجار من مكريسه ورموزه، أقصد النشر الصحافي لما لا يُعد ولا يُحصى من الشعر المترجم، والحوارات الأدبية الأجنبية، والنصوص الثقافية، الفكرية منها والنقدية المكتوبة باللغات الأخرى.

أدعي هنا، أن واحدة من أكثر المهمات الجليلة التي اضطلع بها أمثال بسام حجار، في بيروت خصوصاً، هو إدخال الأجنبة والعجمة والهجنة إلى لغتنا وثقافتنا. كان حجار يدرك خطورة ما يقترفه، بل إنه نشر كتاباً بعنوان “مديح الخيانة”، يكتب فيه مسوغات سعيه المتمادي في الترجمة بوصفها أصل كل ممارسة ثقافية وكل كتابة.

أعود إلى ترجماته الصحافية التي لا تُحصى: بعد 11 أيلول 2001، مثلاً، تحول بسام حجار إلى جوال مستكشف لكل ما كان يُكتب حول هذا الحدث، وعلى امتداد سنتين تقريباً ترجم أفضل المقالات لعشرات المفكرين والفلاسفة والمثقفين من حول العالم. كانت مساهمته جوهرية بالنسبة لنا للإبتعاد والارتقاء عن البديهيات السياسية والصحافية المبتذلة التي راجت حينها.

حدث هذا أيضاً عام 2003، فالسجال الفكري والسياسي والأخلاقي الذي اندلع في العالم حول الحرب في العراق، ما كنا لنقرأه حقاً لولا تفاني بسام حجار وسخاء ترجماته وصوابية اختياراته. ولن أنسى مثلاً انتباهه المبكر قبل 15 عاماً حين أعد وترجم ملفاً بديعاً عن صعود الفاشيات في أوروبا.

لم يترجم حجار ما هو أدبي أو سياسي وحسب. إذ كان فهمه لمعنى الثقافة والصحافة، يدفعه لأن يسوقَنا نحو قراءة نصوص تتعلق بالموضة مثلاً، بالعمارة، بتصميم السيارات، وأن نقرأ مقالة عن حادثة سقوط المكوك الفضائي “تشالنجر”، أو عن التحولات المناخية..إلخ.

هكذا، كي نفهم أكثر، كان علينا أن ننتظر ما يختاره لنا.

لست أدري ما مقدار أثر أعماله هذه على وعينا السياسي والأخلاقي وعلى نظرتنا إلى العالم، بل وعلى صياغة عباراتنا وأفكارنا.. لكن بالتأكيد من دونها لكنا أكثر جهلاً من جهالتنا الحالية.

ركزت هنا على عمله الصحافي، لأن هذا الجانب نادراً ما تحدثنا عنه. لكن لا أغفل دوره الأساسي في نشر الروايات المترجمة وأعمال شعراء من العالم. ولنتخيل ما هو حال أدبنا لولا ترجماته لميشيما وكواباتا وبورخيس، وسالنجر وهاندكه وكالفينو وهرابال وكريستا فولف و..و..آخرها ترجمة باتريك موديانو.

إن أفضل ما أختم به، هو مقتطف من ترجمة لبسام حجار لنص بول ريكور عن الترجمة:

“الترجمة هي التوسّط بين تعدّد الثقافات وواحدية الإنسانية. لذا سأتحدّث عن معجزة الترجمة وعن قيمة الترجمات الرمزية. فأقول إنّ الترجمة هي ردّ على ظاهرة التعدّد الإنساني الذي لا يدحض بكلّ أوجه تبعثره والتباسه، مجسّدةً بأسطورة بابل. نحن في عصر ما بعد بابل.

الترجمة هي الردّ على تبعثر وتشوّش بابل. والترجمة لا تُختَزل بتقنية تُزاوَلُ، تلقائياً، من قبل رحّالة وتجار وقناصل ومعبرين ومهرّبين وخونة، وفي النطاق المهني، من قبل المترجمين وخبراء الترجمة الفورية: إنها تشكّل نموذجاً لكل أشكال التبادل، ليس فقط من لغة إلى لغة، بل أيضاً من ثقافة إلى ثقافة. إنّ الترجمة تشرع الآفاقَ على كلّ شاملٍ محسوس، لا على شاملٍ مجرّد، منقطعٍ عن التاريخ.

إن الترجمة هي التي تنتج لا المبادلات وحسب بل والمعادلات أيضاً: فالظاهرة المذهلة للترجمة تكمن في أنها تحوّل المعنى من لغةٍ إلى لغة أخرى أو من ثقافة إلى ثقافة أخرى، ومع ذلك، من دون أن تسبغ عليه الهوية بل تقتصر على منحه المعادلَ فحسب. الترجمة هي ظاهرة المعادلة تلك من دون هوية. وعلى هذا النحو تخدم مشروع الإنسانية من دون أن تكسر التعدّد الأوّلي. ففي ذلك صيغة للإنسانية التي تولّدها الترجمة في صلبِ التعدّد بالذات”.

ربما مات بسام حجار أقل حسرة منا، لأنه رحل قبل أن يموت في الصحافة “فن الكتابة والترجمة”.

(*) مداخلة في ندوة نظمتها دار أنطوان – هاشيت، تكريماً للشاعر والمترجم بسام حجار، بمناسبة صدور ترجمته لرواية باتريك موديانو “أزاهير الخراب”.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى