صفحات سوريةعمر قدور

بشار الإيراني طوعاً..الروسي قسراً/ عمر قدور

 

 

 

لم يكن الأول من نوعه تهديد وزير الدفاع الإسرائيلي ليبرمان بشار الأسد بأنه سيُستهدف إذا أبقى على تحالفه مع طهران، ومطلب فك التحالف مع طهران في أعلى قائمة المطالب بالنسبة للعديد من القوى الدولية والإقليمية، إن لم يكن المطلب الوحيد لدى بعضها. الجزرة التي يُلوَّح بها في هذا العرض بقاء بشار في السلطة، تحت الوصاية الروسية وحسب، وربما تصل أبعد من ذلك ربطاً بمشاريع إعادة الإعمار. لكن ذلك الذي فعل ما لم يسبقه إليه مستبد متوحش، فقط من أجل الاحتفاظ بالسلطة، لا يُظهر رغبة في قبول العرض المغري، بل تشير التطورات الأخيرة بين تل أبيب وطهران إلى إيغاله في التحالف مع إيران.

في المقابل، تنتشر بكثرة آراء وتحليلات تفيد بأن موالاة بشار أقرب إلى الحليف الروسي، وأنهم ليسوا مستعدين لتحمل المد الإيراني المترافق بالتبشير الشيعي، ويتقصى بعض التحليلات أثر البعثات العسكرية القديمة إلى الاتحاد السوفيتي وتأثيرها لصالح التقارب المستجد مع روسيا. هذه التحليلات، وإن كانت محقة لجهة الاختلاف مع المد الشيعي المتزمت، تخاطر إذ ترى في سلطة عائلة الأسد تمثيلاً لرغبات مواليها، بينما دأبت هذه العائلة طوال عقود “ومنذ بدء الثورة على نحو خاص” على الترويج لما هو معاكس تماماً، أي أن وجودها وبقاءها هما الكفيلان بالإبقاء على مواليها. يبرز ذلك أكثر ما يبرز في الجانب الطائفي، فبخلاف المُشاع تأبى عائلة الأسد تصوير نفسها بحاجة إلى دعم العلويين، وإنما تصرّ على أن العلويين كانوا مسحوقين قبل حكمها وأنها من صنعت لهم مكانتهم.

لا شكّ أن الخيار المفضّل لدى بشار الأسد هو الوضع الذي يسمح له باللعب على الحبال الروسية والإيرانية معاً، على أمل الاستفادة القصوى منهما، وعلى أمل ألا يستفرد أحدهما إلى الحد الذي يقرر فيه بسهولة الاستغناء عنه. في ما عدا هذا الخيار ثمة عوامل كثيرة ترجح كفة بشار الإيراني على بشار الروسي، وقسم منها إن لم يكن كلها يجعل منه الخيار الوحيد إيرانياً ضمن الظروف الحالية.

أول هذه العوامل نفور بنية تنظيم الأسد من الاندراج في أية منظومة دولية، فالأسد الأب رغم تحالفه ظاهرياً مع الاتحاد السوفيتي أبقى على العلاقة في حدودها الدنيا، وفي العديد من مقابلاته مع الإعلام الأمريكي كان واضحاً بأن الضرورة هي ما يدفعه إلى علاقة جيدة بالسوفييت، ولو غيرت الإدارة الأمريكية سياساتها تجاهه لما كان لديه مانع من إقامة علاقات أوثق معها. الشيوعيون، الذين يُفترض أنهم امتداد ثقافي للسوفييت، إما انضووا تماماً تحت استبداد الأسد أو أودعوا في السجون، ولم يكن مسموحاً بأن تنسج السلطات السوفيتية والروسية بعدها علاقات مباشرة مع الجيش الذي تتولى تسليحه على غرار ما قد نراه في تجارب مشابهة.

العلة الأساسية أن أية منظومة دولية تتطلب من تنظيم الأسد التلاؤم مع معاييرها، وهذا مرفوض لأنه يتنافى مع البنية الاستبدادية العائلية القصوى التي لا تقبل إلا أن تكون نسيج ذاتها فحسب. على ذلك أيضاً يمكن أن نقرأ تهرب الأسد الأب والابن من كافة المغريات الغربية لإدماجه في المجتمع الدولي، فتلك المغريات على أهميتها لا تساوي شيئاً قياساً إلى ما هو مطلوب لجهة إدخال تحسينات “ولو شكلية” على المنظومة الحقوقية والسلطوية في البلاد. هذه نقطة التقاء شديدة الأهمية مع حكم الملالي، فالأخير أيضاً لا يريد تماساً بالغرب أو الشرق يتعدى العقود الاقتصادية، ومهما بلغت المغريات لن يقبل إدماجه في المجتمع الدولي؛ إننا بالأحرى أمام نسختين معدّلتين من دولة أنور خوجا الألبانية وكوريا الشمالية.

يشترك حكم الملالي وتنظيم الأسد أيضاً في نفورهما من المؤسسة العسكرية، على رغم ما هو ظاهر من اعتماد خيار عسكرة المجتمع. لتنظيم الأسد أسبقية زمنية في الانتقاص من المؤسسة العسكرية عبر ميليشيات تنتمي إلى الجيش، لكنها تحظى بوضعية خاصة جداً من جهة مرجعيتها وتدريبها وتسليحها. عندما نتحدث عن الفرقة الرابعة التي تأتمر بقيادة ماهر الأسد أو الحرس الجمهوري، وقبلهما سرايا الدفاع، فإننا نتحدث عن قوى ضاربة لا تتبع عملياً لقيادة أركان الجيش، وهذه الميليشيات أقوى من المؤسسة بحكم مرجعيتها المباشرة، وأقوى منها بحكم احتكارها لقوات النخبة ولنخبة الأسلحة والذخائر.

تجربة الحرس الثوري والباسيج في إيران تعني تماماً الالتفاف على مؤسسة الجيش، لصالح ميليشيات تأتمر مباشرة بأوامر المرشد، وكما هو الأمر في الحالة السورية هناك خوف من وجود مؤسسة عسكرية بالمعنى الكلاسيكي للكلمة بسبب الخطر المحتمل لوجودها على احتكار السلطة. ومنذ تدخلها المباشر في سوريا اعتمدت إيران على ميليشياتها، وعلى دعم قليل لميليشيات الأسد لحساب إنشاء ميليشياتها السورية الخاصة وتوطيد العلاقة بأجهزة المخابرات. يُذكر هنا أن الروس حاولوا الالتفاف على الميليشيات الموجودة سابقاً في سوريا، وإثر تدخلهم العسكري أوعزوا بإنشاء ما يُسمى “الفيلق الخامس-اقتحام” كقوة مدرّبة ذات مزايا خاصة بهدف منافسة ميليشيات الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري ونظيراتها الإيرانية، إلا أن تنظيم الأسد التفّ على الاقتراح الروسي بفتح باب الانتساب إلى الفيلق المذكور لأشخاص لا يتمتعون بالبنية الجسدية المطلوبة، بما في ذلك سوق مطلوبين للخدمة العسكرية من كبار السن.

على صعيد متصل يتشارك تنظيم الأسد مع حكم الملالي بتفضيله البقاء في حالة اللاسلم، وإن كان يتميز عنه بتفضيله أيضاً حالة اللاحرب. هكذا دأب الأسد الأب ومن ثم الابن على جعل السوريين تحت وطأة حرب محتملة في أي وقت، بينما كان يمنح للعدو المفترض ضمانات عدم حصولها. الأساس في هذه الوضعية أن أياً من احتمالي الحرب الحقيقية أو السلم الحقيقي سيكشف النظام على حقيقته، فخيار الحرب الكبرى يكشف زيف استعداده لها، ويكشف تالياً أن الثمن الباهظ الذي دفعه السوريون كان سدى. بينما السلام، أي سلام مهما كان عادلاً، يُفترض به إعفاء السوريين من حالة التأهب المعنوية والاقتصادية، وأيضاً من حالة التأهب السياسية التي كانت تعفي الأسد من أي تغيير. حتى بعد الثورة، وبعد الانكشاف الذريع لأكاذيب الممانعة، دأب بشار على ترويج فكرة عدم انتهاء حربه على السوريين هذه المرة، وفي جميع خطبه ومقابلاته تقريباً دأب على القول أن حربه على “الإرهاب” طويلة جداً، وعلى الأرجح يقصد بذلك أنها باقية ما بقي في السلطة بصرف النظر عن نتيجة المعارك وما يحققه له الحلفاء من انتصارات.

لعل الردود الإسرائيلية الأخيرة على شحنات الصواريخ الإيرانية تحيي لبشار عداء عزيزاً ليستثمره، وهذه نقطة افتراق إضافية مع موسكو التي تربطها من جهة أواصر قوية بتل أبيب، ومن جهة أخرى تسعى لتحقيق أكبر استقرار ممكن في منطقة نفوذها الجديدة. على أية حال، ليس امتداحاً لروسيا القول وصف بشار بأنه إيراني طوعاً بحكم بنيته، وروسي قسراً بحكم الحاجة الماسة، فالمافيا الروسية الحاكمة لا تقدم لمواطنيها ما يبشّر بأن يكون لاحتلالها أي وجه إيجابي.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى