صفحات مميزة

بشير هلال وداعا

عن بشير هلال/ حازم صاغية

كنت مازحاً أسمّيه «المواطن اللبنانيّ الأوّل»، مستعيراً اللقب الذي أُطلق على شكري القوتلي حين وُصف بـ «المواطن العربيّ الأوّل». فبشير هلال، منذ ترك هذا البلد إلى فرنسا، وهو يتهيّأ للعودة إلى لبنان، لا العودة التي كان يعودها كلّ سنتين أو ثلاثاً لبضعة أيّام يقضيها بين أهله، بل تلك المشروطة بعودة لبنان إليه. لقد كان في الأمر شيء من طلب التبادل الذي لم يتحقّق.

فبشير انتابه، منذ 1975، أنّ البلد لم يعد بلده، ولم تفعل السنوات المُرّة اللاحقة إلاّ رفع مستوى اليقين لديه. فحين حزم حقائبه واتّجه غرباً بدا في غربته شيء من النفي الطوعيّ المصحوب بالإصرار على استعادة البلد.

وهو، في انتظاره المديد، كان يستعيض بمتابعة أدقّ التفاصيل اللبنانيّة التي أضاف إليها، منذ نشوب الثورة السوريّة، التفاصيل السوريّة. لم تزحزحه الاجتهادات ولا التسويات والترقيعات التي حاولت دائماً أن تصوّر الأشواك ورداً، فواظب سنة بعد سنة على التمسّك بما يراه صواباً يتحايل عليه كثيرون. وبابتسامة صفراء ظلّ يواجه الاحتيال المتذاكي الذي يصدر من هذا والكذب الصريح الذي يأتي من ذاك. أمّا زاده في مواجهة الذين ظنّوا أنّ التاريخ ولد يوم أمس فكان معرفة مدهشة بتاريخ البلد، المكتوب منه والشفويّ، العالِم المصفّى كما المتداوَل المزغول.

لكنّ استعاضة بشير عن غربته اتّخذت أشكالاً أخرى. فهو بذل وقته الكثير وماله القليل في استضافته أصدقاءه اللبنانيّين حين يحلّون في باريس. وبالفعل صارت زيارة تلك المدينة كأنّها زيارة لبشير هلال المصحوب دوماً بحسن شامي وهاشم معاوية وباقي رفاقه في الضيافة.

وبشير كريم في صداقته، ومترفّع أيضاً، حاول توريط نفسه في مشاريع تجاريّة لا صلة له بها، وفي مشروع مكتبة عاد عليه هو الآخر بالخسارة. بيد أنّ الخسارة كانت تمدّه بأسباب جديدة للسخرية من النفس والتندّر على أحوال الدنيا.

وما أهّل بشير لأن يسخر ويتندّر أنّه عاش حيوات عدّة تفيض عمّا تتيحه سنوات عمره. فهو المحامي الذي لم يمتهن المحاماة إلاّ لفترة قصيرة، والصحافيّ النقابيّ الذي ما لبث أن انقلب كاتباً سياسيّاً (نشرت «الحياة» مقالاته الأخيرة)، والشيوعيّ الذي لم يعد شيوعيّاً.

فهذه الحيوات السخيّة بوعودها كانت بخيلة في تنفيذ تلك الوعود. هكذا شارك بشير في تأسيس «اليسار الديموقراطيّ» وعاد منه خائباً، ثمّ ألهبت الثورة السوريّة مخيّلته إلاّ أنّ وطأة الواقع بدت ثقيلة على المخيّلات.

لكنّ تساقط الآمال لم يفتّ من عضده. فهو ظلّ حاضراً ناضراً في كلّ نشاط لدعم الحرّيّة في سوريّة أو لدعم السيادة في لبنان. وفي هذه الغضون راح الحصاد المُرّ، المتحالف مع كميّات من السجائر يمضغها بشير مضغاً، يرسم له وجهاً أقرب إلى وجوه المسنّين الذين لم يكنْهم.

وبتهذيب درزيّ رفيع، يخالطه ميل مكتوم إلى السخرية، كان يقدّم قناعات راسخة لديه على شكل أسئلة هو منها على شيء من الحيرة. فصلابته العميقة كانت تملك واجهات عدّة تغلب عليها المرونة واللين وتدوير الزوايا، فضلاً عن حماية الصداقات التي تغاير السياسات وانحيازاتها.

هكذا تعدّى أصدقاؤه العالم الواقعيّ. وفي العالم الافتراضيّ، حيث احتلّ رقعة فيسبوكيّـة، كتـب كأنّه يودّع نفسه ويودّعنا: «يكفي أنّني لن أرى زهر اللوز». أمّا الذين يعرفون «المواطن اللبنانـيّ الأوّل» فيحدسون بأنّ ذاك الزهر لم يكن إلاّ لبنان.

 

 

وداعاً بشير هلال/ أحمد عيساوي

كأنه ينام في خصائص ابتدائه، كأنّ عالماً كاملاً يكنّ في تلك الجاكيت الجوخ السوداء. كأنّ الضي في طلّته هدهدة رقي في كيمياء مع الشيب الجذاب في رأسه. بقليل من سلامة الصوت وبعض من التئام أنسجة الرئة، كانت المسافة بين الكلام والصمت انحناءة قلب على بلاد. كأنّ صوته مئذنة للدمع وهفهفة للضحك في آن. كأنّ قلوباً قد اجتمعت في قلبه الواسع، الأبيض، العارف بما ترنو إليه عيوننا.

نحن الذين أحببناه قريباً وبعيداً وأضعناه حيناً فوجدناه في كل فضاء مفتوح الأفق حاضراً بالتعليق والمداخلات والهتافات، لأن كلامه انعتاق من سطوة الطغاة وانسياب كامل المعنى لهذه الذات الهادئة والصاخبة، لأنّ حنجرته الأخاذة بنغماتها ـ بين طنين الضحك وهزء المزاح وصرامة الموقف ـ لم تعد تعريفاً عن هوية فردية بل جمعاً وجموعاً من الراغبين بكسر الصمت، ولانّ زوال الغشاوة عن عيوننا بات كافياً لنمتدح نضارته وصفاء بصيرته بخجل شديد يقارب الحياء الذي فيه.

ضرب لي الموعد الأول في مقهى Le Select الذي يقع في الدائرة 14، في باريس. ولدى وصولي، قال لي: “عادةً بـ (مقهى) Daguerre القعدة”. لم أنتبه للحظات إلى أنّ هذا الشخص هو نفسه الذي يكتب على الفيسبوك، واستعدت الفكرة التي يعتقد بها جميع متابعيه الذين لم يعرفوه شخصياً: شاب مندفع في مقتبل العمر، يتكلم بجرأة غير معهودة، مرن المزاج ومتقبّل للآخرين، واسع الاطلاع والثقافة، شديد الاحترام وكبير في الأخلاق والسماحة.

وفعلاً، هذا هو بشير، مع فارق وحيد لم يصبه محبّوه الفسابكة، هو سنوات عمره التي تغيّبها أناقته ولباقة حديثه والاحترام الكبير الذي تفرضه شخصيته الكاريزماتية.

صديق السوريين الأكثر وفاء والأشد قدرة على حمل قضيتهم بنبل وذكاء وشهامة قلّ مثيلها. دائم الحضور في كلّ نهار سبت، في ساحة “شاتليه”. حتى عندما يغيب أصحاب القضية كان يأتي لأن تضامنه كان منطلقاً من المبادئ التي يحملها.

كنت أرمقه وهو مغمض العينين وآلة القلب والرئة تعاند نبضاته، فقلت له إنني هاتفته لأطمئن على صحته وهذه المرة الأولى التي يهمل اتصالاً أو رسالة، لكنه لم يحرّك ساكناً. سألته عمّا إذا كان يحب أن نلتقي مجدداً في مونبارناس فلم يجب.

خلف باب غرفة الإنعاش في مستشفى السان جوزيف في باريس، رأيت وجه أبي ورأيت الإبر المغروزة في الجسد المنهك والمصل يقطر ألماً، ورأيت يده الضئيلة التي لن تقوى على حمل السيجارة بعد اليوم؛ فتذكرت حضوره القوي ورباطة جأشه على المنبر، ومرّت في مخيلتي مقالاته في الجرائد وصورته وهو يحمل لافتة تؤيد حق الفلسطينيين والسوريين في الحرية وصورة أخرى له في “عيد الإنسانية” في خيمة اليسار الديمقراطي اللبناني في باريس خريف عام 2005.

فسلاماً سلاماً أيها الجسد المتعب، وسلاماً سلاماً أيها الملح الذي لا يفسد، وسلاماً سلاماً أيها العائد إلينا.

العربي الجديد

 

 

في صداقة بشير/ حسن داوود

لن يكون بشير هناك هذه المرّة. نحن لم نكن نتأخّر على ملاقاته. فنسرع، بعد قليل من وصولنا إلى باريس، إلى تلك الساحة التي نجده في مقهاها. لا ننتظر إلى اليوم الثاني، إذ أن سنة مرّت من دون أن نلتقي، وها هو منتظر في ذلك الشارع، أو في فاصل الشارع، الصغير، البادىء من مكتبة هاشم والمنتهي عند المقهى الذي إسمه إيتوال دور.

في السنوات الخمس الأخيرة، أو السنوات العشر ربما، اختصرتْ تلك الأمتار باريس كلها. باريس صارت تعني ذلك “الحيّ”، بحسب تسمية بشير والشباب. ذلك الحيّ فقط. وأنا كأنني تركت للسياح أن يجولوا في الصور التي جهدت المدينة في تزيينها والإحتفال بها. في المقهى نجلس بعد الظهر، وفي أحيان نجتمع هناك كثيرين، في المساء. صحبة لبنانية في باريس. صحبة لبنانية بنسبة 95 بالمئة حتى أنني أروح أتحرّج من أصحاب المقهى كلما ارتفعت أصواتنا. يقول لي بشير أن لا أهتم. تعوّدوا علينا هكذا، يقول، بل وإن النادل هناك صار يردّد أمامنا كلمات عربية مكسّرة كان قد حفظها من كثرة سماعها.

بشير كان هناك، منتظراً على الدوام أن يأتي الأصدقاء من بيروت لكي يعرف منهم ما يعرفه أصلا عن أحوال البلد. حتى أنني كنت أستفهم منه، وهو هناك، عن أمور حصلت في بيروت التي كنت قد أتيت منها لتوّي. في أحيان كنا نشبّهه بمبعوث أرسله بلده إلى هناك من دون أن يُعْلمه ماذا عليه أن يفعل، فظلّ مهتماً بما يجري فيه بما يفيض عن اهتمامه بما يجري في فرنسا، المقيم فيها من حوالى ثلاثين سنة. وعلى التلفون الذي تعدّدت أنواع اتصالاته وأشكالها كنت أبدأ بسؤاله: شو يا بشير جايي هالصيفيّة؟ ودائما كان يجيب بما لا يؤكّد أو ينفي. مرّة واحدة جاء، وكان ذلك قبل ست سنوات أو سبع. كانت بهجته لا توصف، ذاك أنّه يستطيع وهو هنا أن يعيش كلّ ما يحبّه، كلّه معاً، بدل أن ينتظر الأشياء تأتي متفرّقة، أو لا تأتي، على غرار أسفه على زهر اللوز كما كتب في تعليق أخير في “فايسبوك”.

تلك الطاقة التي تنضح من حركته هناك في فرنسا هي مما يبذله لأصدقائه. كان محرّضا على الصداقة ومستدعيا لها. تكفي مبادرة من شخص، أو إشارة، حتى يواصل بشير تلك البداية، بمودّته واهتمامه. على التلفون كان يسال عن أصدقائه الذين هنا، لا السؤال العرضي، بل سؤال الحريص المهتم. وكان إلى ذلك مهتما بالكتب، وساعيا إلى أن يجد مكانا لها هناك في باريس. حتى أنه راح يسمّي لي الكتب الجديدة في معرض الكتاب الأخير، الكتب التي يريدها. أرسلت بعضها مع جورج الذي جاء في زيارة لعشرة أيام، ولم أعرف إن تمكّن جورج من أن يرسلها إليه في وقت كان فيه بشير قادرا ما يزال على القراءة.

ثم أسأله أنا إن كان بدأ بالعمل على الكتاب الذي استعدّ له طويلا. كان يؤجّل، وكان يبدو معتذرا في كلّ مرّة عن ذلك، كأن لسائله حقّا عليه. وهذه واحدة من خصال بشير، أو واحدة من ألطافه. ألمعرفة المقترنة بالإستحياء، والحماسة للموقف، إن تعلّق الأمر بما يجري في بلدنا، بل في بلداننا، من دون أن يرفع الراية أعلى مما يجب.

على أننا استطعنا أن نكون صديقين حتى من دون أن يحضر النشاط العام، نشاطه العام، في موقف الصداقة، بحسب لغة الصوفيين. ولا أحسب أن ذلك حضر بين أصدقائه الكثيرين الذين اجتمعوا، هناك وهنا، من عرفه مؤخّرا ومن كانت له ذكريات معه، من أيام الجامعة، من كان قريبا إليه ومن لم تجمعه به إلا حادثة متذكَّرة واحدة، كلّ هؤلاء شعروا أنهم فقدوا صديقا يحبونه.

المدن

 

 

الموت أسرع من الصداقة يا بشير/ روجيه عوطة

حين قررت، صباح الإثنين، توجيه تحية نصية إلى بشير هلال، لم أدرك أن موته أسرع من إمكانه. إذ قلت إنني لن أرثيه، بل سأدعوه إلى استرجاع قواه، وسأتمنى له الشفاء. كان بشير لا يزال طريح الفراش، يتنفس اصطناعياً، لكنه، وعلى غفلة منا، رحل.

لقد مات الرفيق الفايسبوكي، الذي كان يحضر على جدراننا بدماثته، التي لا تُزعج ولا تنزعج. فهو، على ما عرفناه في “كتاب الوجه”، صديق لبق، يسجل آراءه بكياسة، حتى لو كانت غاضبة على رغبتها في مناوءة معسكر الممانعة واستبداده. ذلك، أن بشير، صاحب الطلعة البيضاء، يبدو، مثل صورة بروفايله التي يظهر فيها طفل من أطفال سوريا، صافياً، بلا ضغينة تمسك عباراته أو تصلبها.

فعلياً، خسرنا صديقنا الذي كنا نتابعه ونلاحق ما يكتبه، في حائطه الشخصي أو مقالاته الصحافية، قارئاً الوقائع هنا وهناك، ومعلقاً عليها، قبل أن ينشط في إشكالياتها عبر التجمعات أو المحاضرات أو الندوات في فرنسا. فبشير كان من اليساريين الذين خرجوا من الحزب الشيوعي اللبناني، بلا أن يعتريهم الحنين أو الندم على فعلهم هذا، لكنهم واظبوا على الإهتمام بالقضايا والإستفهامات السياسية، التي انصرفوا إلى معالجتها بطريقة أو بأخرى.

وهو، على الأرجح، عندما كان يحتضر، فضّل الرحيل على الرجوع. صحيح، أنه تركنا على أحوالنا من دونه، نذكره في “بوستاتنا”، طالبين منه العودة إلى حياته الزرقاء، غير أنه، بوفاته، يقول رأيه الأخير، رأي يحتفظ بمضمونه. أما نحن، فنتفرج على صوره، صورة شبابه التي انتشرت بيننا، كأنها تنبهنا إلى أنها علامة على موت الصديق الممكن.

الموت أسرع من الصداقة. هذا ما يقوله رحيل بشير، وهذا ما تشير إليه مفاجأتنا بتوقفه عن العيش. كما لو أنه كان مصراً على إيجاز احتضاره ببعض الأيام، التي غاب خلالها عنا، فلا نشر على جداره، ولا واظب على “التلييك” للأصدقاء. فلما كان النوم يمتنع عليّ، أو أظل مستيقظاً حتى الصباح بداعي الإنشغال بأمرٍ ما، كنت أتسلى بتسجيل الـ”بوستات” في “فايسبوك”، وهي غالباً ما تتضمن سخرية من صحافة الممانعة أو اللاممانعة، التي أقرأها باكراً. وما أن أنشر “ستاتوس”، حتى يكون بشير أول المعجبين بها، أو المعلقين عليها، الساعة الثالثة أو الخامسة فجراً. فبشير لا يترك صديقاً من أصدقاء قائمته إلا ويتفاعل معه بالنقاش أو الضحك أو غيرهما، حتى ولو كان على اختلاف معه.

فيوم حملة “شارلي إيبدو” الشهيرة، كان بشير مشجعاً ومتحمساً لها وللمشاركة في تظاهرتها الباريسية. في حين، وبعد حصولها، نشرت صورة تتهكم على المظاهرة، وعلى صفها الأول. علق الرفيق قائلاً أنها مجرد “فوتوشوب” تحتاج إلى معنى فعليّ، وذلك بلا أي انفعال سلبي، ومن دون الوقوع في كره منتقديه.

فرغم اختلافه مع الآخرين، الذين يتشارك معهم التصدي للممانعة، ظل بشير لطيفاً، لا جفاء في علاقته معهم. لنقل، بعبارة واحدة، أنه كان قريباً من القلب، وصديقاً ممكناً، بمعزل عن التباين في وجهات النظر. والآن، يرحل بشير، رفيق الإشكالية، وكاتب الرأي، كأن الأصدقاء في عالم الممكن، في “كتاب الوجه”، من سمتهم أنهم يموتون على عجلة من مشاعرنا.

وداعاً بشير، كنتُ أرغب في لقائك خارج “فايسبوك”، لكنك سرحتَ شيبك، وذهبت. كنتُ أرغب في سقوط نظام بشار الأسد قبل موتك، علّك لا تموت.

المدن

 

بشير هلال/ زيـاد مـاجد

قلّةٌ هم اللبنانيّون والسوريّون في باريس الذين لا يعرفون بشير هلال، الكاتب اللبناني الذي رحل يوم أمس الاثنين في 23 شباط 2015. فالرجل وصل فرنسا بعد اندلاع الحرب اللبنانية، وكان يومها من المحامين اليساريّين المتناثرين عن الحزب الشيوعي.

منذ وصوله، ثم طيلة الثمانينات، نشط هلال في أكثر من حملة مناهضة للحرب وللعنف الطائفي، وانتسب لأكثر من رابطة ونادٍ ثقافي، ثم صار اسمه مرتبطاً في التسعينات بمكتبةٍ في شارع “كاردينال لو موان” في الدائرة الباريسية الخامسة أدارها وجعلها ملتقىً لمثقّفين لبنانيين وسوريين وفلسطينيين وعراقيين، يجتمعون فيها وينتدون ويتحاورون بشؤونهم وشجونهم.

في العام 2004، انخرط هلال في إطلاق “حركة اليسار الديمقراطي”، وواكب من خلالها انتفاضة الاستقلال في آذار من العام 2005، وتحوّلت مكتبته مساءً الى مركز اجتماعات وسجالات واتفاقات واختلافات، وشهدت بعد اغتيال سمير قصير، تأسيسَه وعدداً من الكتّاب اللبنانيين والسوريّين والفرنسيين “جمعية أصدقاء سمير قصير” التي نظّمت أكثر من ندوة ومسيرة لإحياء ذكرى المؤرّخ والصحفي الشهيد.

بين العامين 2006 و2010 شارك بشير في جميع اللقاءات والاعتصامات المدافعة عن حرّية لبنان، كما شارك في جميع الأنشطة التي كانت المعارضة السورية مُمثّلةً يومذاك بـ”إعلان دمشق” تُقيمها في العاصمة الفرنسية. ومع اندلاع الثورة السورية في آذار 2011، صار بشير صديق السوريّين الدائم في أنشطتهم الباريسية وفي حواراتهم ونقاشاتهم التي رأى في حيويّتها لفترةٍ ما عوّض عليه تراجع الحيوية في العمل العام اللبناني.

كتب بشير عشرات المقالات في الصحافة العربية، لا سيّما في جريدة “الحياة”، وكتب كذلك تعليقات سياسية وخواطر أدبية في مواقع التواصل الاجتماعي (الفايسبوك)، حيث كثُر أصدقاؤه ومتابعوه.

وكان يسعى في الأشهر التي سبقت وفاته المفاجِئة والمُفجعة – بسبب مرض عضال لم يكشف لأحد عن معاناته منه – الى إقناع مثقّفين لبنانيّين ببدء عريضة سياسية تتحوّل شعبية للمطالبة بانسحاب حزب الله من سوريا كشرط لبدء حوار وطني يقي البلد المخاطر التي يستجلبُها قتال الحزب اللبناني للسوريّين…

مثّل بشير في سيرته التي لم يُتَح له استكمال سنواتها ثقافة المواطنة والعلمنة اللبنانية المشتهاة. وكان في ليبراليّته السياسية لا يقطع مع خلفيّته اليسارية، إذ ظلّت العدالة الاجتماعية وحقوق الناس مسائل يدافع عنها، وينتخب في فرنسا بموجبها. وفي الوقت عينه، كان بشير يوازن بين وطنيّة لبنانية اكتشف مقوّماتها ومقتضياتها خلال غربته، وانتماء لقضايا عربية – فلسطينية وسورية بخاصة – أبقتهُ على تماس دائم مع مسألتي التحرّر والديمقراطية.

رحل بشير هلال في باريس بهدوء وصمت. لم يشأ البوح بوضعه الصحّي لأحد، ولم يشأ الإثقال على أحد. رحل بخفَرٍ وتهذيب يُشبهانه، وتجمّع حول سريره وحول زوجته ناديا وابنيه سلام وجاد جمعٌ من اللبنانيين والسوريين من أجيال مختلفة، تعرّفوا جميعاً إليه “مواطناً صالحاً” كان في حياة أُخرى ليستحقّ العيش طويلاً في “وطنه الحرّ” وسط “شعبه السعيد”.

له الرحمة والسلام، ولذويه وصحبه الصبر والدفاع عمّا جمعهم به…

موقع لبنان ناو

 

 

 

 

إلى بشير هلال/ نجوى بركات

مضت الأيام التي ينبغي من بعدها أن يهدأ ذاك الحريق الذي يأكل القلب، لكنه لم يهدأ.

كنتُ أنتظر أن تأتي إلى لبنان، فأودعك قريتَك التي لم تغادرك ذكرى شمسها يوماً، وأرتاح. لا بد وأن أرتاح. أن أنزع صورتك البيضاء التي التصقت بعيني، والتي تجعلني، كيفما التفتّ، أغالب هذه الغصة التي تعصر روحي. كلما طال الوقت، ونأت المسافة، جفّ الحزن، كما يجفّ عود من دون ريّ أو نور. لكنني والموت على خصومةٍ لا تنتهي، يا صديقي، منذ مات أبي وأنا بعيدة، ومتّ أنت وأنا بعيدة. بين تاريخيْ غيابكما ثلاثة أيام، لا أكثر، وبين موعد قدومي المرتقب إلى باريس ورحيلك المفاجئ، بضعة أسابيع. أسبق أن أخبرتك أني، عند بداية كل عام، أجلس في السنة، مكتومة الأنفاس، مرعوبة، مترقبة انقضاء شهر شباط اللعين بسلام، لكي أتنفس الصعداء، واثقة أن مكروهاً لن يصيب أحبّتي، إلى حين عودته بعد عام؟ كأني بذلك قد عقدت هدنة مع الموت، أن يبقى محصوراً في مدة يأتيني فيها، لو كانت مشيئته أن يأتي، ثم يتركني في حالي. لكنه، هذا العام، جاءني بفارق ثلاثة أيام، وبالطريقة نفسها جاء.

يتحايل عليّ الموت، يا صديقي، فلا يجعلني أحضره، أو أراه، حتى لا أصدّق غياب أحبتي ولا أقتنع أني لن أراهم بعد الآن. يموتون في غيابي، ويبقون يعودون إليّ، من دون هوادة، أحياء أكثر من يوم كانوا على قيد الحياة، فألوم نفسي كيف صدّقت رحيلهم، أو كيف حتى قد خطر لي. أفكر، وأنا داخل الحلم، أنه كابوس لن يلبث أن ينقطع، فأستفيق منه، على كابوس غيابهم الذي لا ينقطع.

لا أريد أن أذكر منك، عنك، شيئاً. أريد أن أبقيك في ذاكرتي كاملاً، مكتملاً، أنا التي عرفتك أكثر من نصف عمري، حين وصلتُ إلى باريس، من الحرب، غريبة وصغيرة وفقيرة، ولم تبدأ تلك المدينة تهون عليّ إلا بصداقات قليلة، على رأسها صداقتك. نصف عمري الذي أمضيته هناك، كنت أنت فيه، كما كنتَ في حيوات آخرين مثلي، دائم الحضور، والسؤال، لا تسمح لأصدقائك بالغياب، وتتوقد عيناك امتناناً وفرحاً، إذ يسألك أحدهم المساعدة. كأنك، يا صديقي، لم تكن تجد اكتمالاً لمعناك أو لحياتك، إلا باتحادك بالآخرين.

يوماً بعد يوم، وأكثر فأكثر، سوف ندرك جميعاً حجم فقدك، لأنك المحب والمبالي أكثر من طاقة أيٍّ منا على الاحتمال، أنت الذي كنت تحب كما تحب الأمهات، وتقلق وتواسي وتسامح ولا تريد اعترافاً أو مقابلاً. كنت ممن يجلسون على ضفاف الحياة، كي لا يأهلوها كثيراً فيُنقصوا على غيرهم مساحة، أو هواء. يضرمون نيران الصداقة، ثم حين تنطفئ، يمضون بخفر، مستحين من الألم والحزن اللذيْن قد يخلفونهما.

أكثر ما شغلني حين عرفت خبر مرضك، ثم موتك، هو أن أعرف إن كنت قد عرفتَ، أنا التي تعرف جيداً رعبك من المرض، والشيخوخة، والأطباء، والمستشفيات. أصابني مسّ السؤال: أتراه عاشها تلك اللحظة القاسية المخيفة القاتلة؟ ثم قرأت ما كتبتَه على “فيسبوك” ذات يوم من خريف 2012، “لا حاجة بي لشيء. فقط أن تستقر هذه الغيمة إلى جانبي في مقعد واحد. لن نكون مائلَين متعانقَيْن. سنكون فقط في المنطقة الرمادية بين حافتي كارثة. حين تلتف على روحي، سأرجوها أن تبقى الوقت اللازم لموت عادي”. لقد عانقتك الغيمة، يا صديقي، ولن يكون موتك عادياً أبداً، أيها الحالم الأنيق النبيل.

أنظر إلى ابنتي التي تسألني لم تبكين ماما؟ ولا أعرف كيف أخبرها كم أن خسارتنا عظيمة، لأنها لم تعرفك، لأنك لم تمسك بيدها الصغيرة، لتأخذها في نزهة على ضفاف النهر الفرنسي، كما كنتَ قد وعدت.

بشير، يا صديقي الغالي، لا أنساك، ما حييت.

العربي الجديد

 

 

 

الثائر الحالم بلبنان متعدّد وواحد/ كاظم جهاد

«يكفي أنّني لن أرى زهر اللّوز»، عبارة في رثاء النّفْس خطّها قبل أيّامٍ صديقنا الكاتب والناشط اللبناني بشير هلال، وكرّرها غير واحدٍ ممّن كتبوا في توديعه. وبدَوري لا أريد التهرّب من سِحر هذه العبارة، بل سأعرّج عليها كما فعل مَن رثوه قبلي. ولا أدري هل تأمّل أحدٌ من قبلُ مبلغ الهول في الصفة «صاعق» التي نُلحقها في لغتنا اليوميّة ببعض العلَل: «فلان غيّبه مرضٌ صاعق»! لم يكد نبأ اعتلال بشير يطوف على محبّيه وأصحابه، ولم تكد تنعقد الزيارات الأولى حتّى صارت تنبغي مسابقة الوقت لرؤيته قبل أن تصبح هذه الرؤية في عداد ما هو متعذّر. بعض الأصحاب كانت صدمتهم لا تُطاق. جاؤوا ليعودوه مريضاً فألفوا أنفسهم في عزاء: كان بشير قد سبق زيارتهم له إلى دنيا الأموات. ومَن زاروه مثلي قبل أيّام وجدوه وهو ما يزال مثلما كان في أقصى صحوات شبابه: يضاحكهم متشاغلاً عن ذلك الزائر غير المرغوب فيه والذي أقحم نفسه في الجلسة متوعّداً باختطافه عمّا قريب. كان بشير بليغ النكتة، فلم تخسر بلاغته شيئاً، وكان سيّد التحكّم بالذّات، فلم يدع الموتَ، «هذا النهر الصغير»، كما كان يسمّيه مالارمه، يُسقطه في كآبة كانت مع ذلك ستكون مفهومة وطبيعيّة. أطلق بالعكس العنان لدعابته، ومن جديدٍ وجدَ في تطمين أحبابه على مصيره فرضاً آخر اضطلع بالنهوض به بكامل أمانته المعهودة.

بصورة فاضحة، تأخّر تشخيص المرض الخبيث الذي أودى بحياته في بضعة أيّام، إلّا أنّ عوارض خفيفة كانت قد دهمته منذ مطلع هذا العام. ضؤل صوته مثلاً، وهو ما اعتقد الأطبّاء أنّه يمكن أن يكون نتيجة نزلة صدرية أسيئت معالجتها، وأنّ زوال الصوت ذاك أمرٌ زائل. وحده بشير، بقوّة الحدس هذه التي تُعزى للراحلين الكبيري النباهة، المتوافقين مع جسدهم والذين لا يخطئون ترجمة بلاغاته أبداً، فكّر في أنّ الحياة ربّما كانت بصدد الإفلات منه عبرَ ذلك المنسرَب ذاته الذي أفلتت فيه من والده في سنّ مبكّرة: سرطان الرئتين. هكذا كتب في الثامن من شباط الفائت في صفحته على «الفايسبوك» عبارته المذكورة: «يكفي أنّني لن أرى زهر اللّوز».

طويلاً ينبغي الوقوف عند هاجس التواصل هذا الذي رفعه بشير إلى مصاف الإبداع، والذي قد يكون له في بواعث موته نصيبٌ ما. فهو قد أفرط فيه مثل مَن يفرط في تناول عقارٍ مؤذٍ، وكما أفرط هو نفسه في التدخين حتّى صحّ عليه القول إنّه كان يتغذّى من السّجائر. ذلك أنّ بشيراً، وهنا تكمن فرادته، كان كتلة من النشاط وينبوعاً من الحيوية لم يكفه كلّ دخان العالَم لتطويعه. كان محبّاً للمحاورة، بيد أنّ محاوراته كانت غايته منها الإصغاء أكثر منها طمعاً بإسماع صوته. كان له بالطبع صوته، وآراؤه الصارمة، وفلسفته في العالم وفي السياسة، التي كانت هي والمعرفة والأدب تشكّل نوافذه الكبرى على الكون. بيد أنّه كان يُحسن الاستماع بالقدر ذاته، ويجد فيه متعة كبيرة، ويحتمل من أجله ما لا يحتمله الكثيرون: تأجيل كلامهم الخاصّ احتفاءً بالصوت الآخر، أصديقاً كان أم لم يكن. وكان في توجّهه للصداقة نوع من مقاربة دينيّة، بالمعنى الذي يرى فيه الفيلسوف جاك دريدا أنّ الصداقة تُعتنَق كديانة وتُلزِم قبل أيّ شيء آخر بالقبول بالآخر كما هو، أي كآخرَ مطلق الاختلاف.

كان بشير كثير المعارف والعلاقات، لكن لا ينطبق عليه القول المنسوب إلى أرسطو: «من كثُرَ أصدقاؤه بإفراطٍ كان بلا أصدقاء». فعلاقات بشير كانت متنوّعة بصورة مذهلة، ولكنّه كان يعرف أن يُحلّ كلّاً منها في المنزلة التي بها تليق. كان مضيافاً بلا انتهاء، وفي عالم ضيافته اللّا متناهي كان يعرف أن يمنح لأصدقائه الصدارة من دون أن يكون في ذلك إجحاف للآخرين.

صديق المنفيين

آمنَ بشير بالحوار، حتّى مع مَن هم أشدّ اختلافاً عنه، كوسيلة وحيدة لاستعادة عالم عربيّ ممكن العيش، ومضى في لعبة المحاورة، أعني في فنّها الرفيع، إلى أقصاه. كان مُحاوِراً للأفراد والجماعات، ومحفّزاً على لقاءات فكرية وندوات جماهيرية. دأب على حضور تجمّع السوريّين الاحتجاجيّ الأسبوعيّ في ساحة شاتليه بباريس، وقبله نظّم اعتصامَ اللبنانيّين الشهير إبّان العدوان الإسرائيليّ على لبنان في 2006 أمام جامعة السّوربون. ينطبق عليه في اعتقادي قول عروة بن الورد: «أوزّع جسمي في جسومٍ كثيرةٍ/ وأحسو قراحَ الماءِ والماءُ باردُ». ولعلّ أكثر مَن سيفتقدونه هم إخوتنا السوريّون الذين فُجعوا باضطرارهم إلى اللجوء إلى فرنسا، هي التي كفّت منذ عقودٍ عن أن تكون بلدَ لجوء، وذلك بالرغم من مواصلتها التباهي بأنّها كانت يوماً كذلك. لهؤلاء الثائرين المنفيّين، كان هو الأخ الكبير الحَدِبِ، الحاضر في قوّة الهتاف كما في العمل على تذليل مصاعب الحياة اليومية، مناصر قضية الجميع والسّاعي لتخفيف معاناة كلّ واحد.

بدأ بشير نضاله، لا بل نضالاته، يدفعه حنين جارف إلى لبنان تعدّديّ وواحد، لبنان غير طائفيّ؛ ذاق هو حلاوة وجوده في العقد الستّينيّ من القرن الماضي، يوم كان بعدُ تلميذاً في الثانوية ثمّ في كليّة المحاماة، ومن ذاق طعم هذه الأندلس الفذّة هيهات يطيق رؤيتها وهي تزول. «هل من ومضةٍ تدوم؟»، يتساءل أبولينير متحسّراً إزاء التجارب المطلقة الجمال وأمام اللّغز الفادح، لغز زوالها السريع. ولعلّ هذه الحسرة وجّهت نضال بشير كما لم توجّه نضال إلّا القلائل.

بشائر

من أجل هذه الحركيّة الدائمة ضحّى بشير بالكثير الكثير. كانت مشاريعه المهنية محكومة بالخسارة بادئ ذي بدء، لفرط ما كانت ثقته بالآخرين غير متناهية، ولفرط ما كان مسعاه هو تحريك المجموع لا إكثار ذات اليد. أذكر منها خصوصاً مكتبته، «مكتبة البحر المتوسّط» التي دامت تجربتها خمس سنوات أو ستّاً هي بلا أدنى شكٍّ من أجمل التجارب الثقافية العربية التي قيّض لها أن تولد في قلب باريس. بسرعة حوّلها من مكتبة إلى منتدى سياسيّ وثقافيّ، لا بل حتّى إلى بيت ضيافة، ودار صداقة، ومأوى للمعزولين، وورشة لجديد الأفكار. مَن كان يعتمل في ذهنه مقال أو كتاب جاء إليها يعرض بنات أفكاره على الرفاق قبل أن يغامر بخطّها بقلمه. ومن هزّه لاعج الشعر رفع فيها عقيرته بالإنشاد. كنّا مرضىً كثراً تحدونا إلى زيارته في مكتبته حاجتنا المشروعة إلى التداوي بالكلمات. والحال أنّه جعل من محلّ رزقه مشفىً لمهيضي الأجنحة، ومحطّة باذخة لاستعادة الرّوح. وإن أنسَ فلا أنسى يوم عدت إلى باريس بعد نفيٍ عشته في المدن الفرنسية الصغيرة النائية قذفتني فيها طيلة سنواتٍ تجربتي في التعليم. عدتُ ذاهلاً مشتّت الوعي على إثر ملاقاتي في الأردنّ والدتي بعد ربع قرن من الانقطاع واكتشافي أنّ فوجاً من أبناء عمومتي ورفاق صباي حصدتهم رشّاشات فصائل الإعدام الصدّامية أو الحروب التي دُفع إليها الجيش العراقيّ في الكويت وإيران وكردستان. كنت أمضي في مكتبة بشير ساعات لا أقول شيئاً، وما أكثر ما تندّر عليّ من لا يفقهون في لغة الحِداد حرفين اثنين! إلّا بشير ورفاقه الأقربون ساعدوني، باحتمالِ وجودي لا غير، في إبعاد شبح الحزن الشالّ واستعادة وقفة ممكنة بين الأحياء. وما أقوله هنا عن نفسي يمكن أن يقوله عن أنفسهم، بخصوص بشير وصداقاته اللبنانية – السورية – الفلسطينية، كثيرون وكثيرون.

بدأ بشير نضالاته في محاولة لاستعادة لبنان متعدّد وواحد كما أسلفت، لبنان لا تشكّل الطائفية ألفباء وجوده ولا مرتكز السياسة فيه. ثمّ سرعان ما اتّسع أفق صداقاته ومسرح معتركه السياسيّ والفكريّ ليشمل مساحات أخرى، هو الأمميّ تكويناً وغريزة. راجِعوا المقالات التي دأب على كتابتها في «الحياة» في الأعوام الأخيرة تجدوا متابعاً لا يكلّ لكلّ ما يمسّ شرط الحريّة في العالم. من الموصل إلى كابول، ومن أوكرانيا إلى تركيا، ومن غزّة إلى كوباني، ومن تونس إلى القاهرة، ومن لبنان إلى لبنان، صارت المعمورة وحرائقها الأليمة وبشائر التمرّد والأمل فيها شغله الشاغل وديدنه الأوحد. قلت «بشائر»، وكيف يمكن أن يكون الأمر بخلاف ذلك وهو البشير؟ ها أنا أسمعه في واحدة من ندواته يُجهر، أمام تباكي محاوريه، بتفاؤله بمستقبل الشعبين اللبنانيّ والسوريّ وفرص التعاون بينهما، رغم المذابح الجارية وما أشيع من «عنصريّة» بعض اللبنانيّين البرمين من وفود آلاف السوريّين إلى بلدهم.

أعوده إلى مقولته الشعريّة، حسرته البليغة، وهو يحسّ بأنّ لحظة الوداع قد حانت. «يكفي أنّني لن أرى زهر اللّوز». بعيداً عن فخاخ التحليل البلاغيّ أودّ أن أشير إلى قوّة الإضمار في عبارته هذه. لم يقل «يكفيني فاجعةً أنّني لن أرى زهر اللّوز» مثلاً. لم يقل حتّى «يكفيني أنّني…». قال «يكفي» وكفى، وكان في ذلك غزارة واكتفاء. قبله توسّل شعراء كبار (وكان بشير شاعراً يكتب ويُضيع ما كتب، وفي هذا أيضاً واحدة من آيات اكتفائه)، أقول توسّلوا بالنّبات واستمدّوا منه كنايات واستعارات فذّة عن الموضع الأثير أو المحلّ الأصليّ الذي يتّجه إليه حنينهم اللّا شفاء منه. مَن لا يتذكّر في هذا السياق بيت الصمّة بن عبد الله القشيري: «تمتّعْ من شميمِ عرارِ نجدٍ/ فما بعد العشية من عرارِ»؟ أو أبيات مالك بن الرّيب في يتيمته المتفرّدة والشّهيرة في رثاء النّفْس؟ لقد عمد مالك بن الرّيب في لوعة توديعه للعالم إلى تكرير مفردة «الغضى»، هذه المفردة التي صارت كمثْلِ بؤرةٍ تكثّف مسعاه الحنينيّ كلّه، ستّ مرّات في مواضع شديدة التقارب، ذاهباً في ذاك إلى أقصى ما يمكن احتماله من التكرار. أمّا الصديق الكبير الرّاحل بشير هلال، فبانخراطه العميق في حداثة القول الشعريّ اكتفى بجملة وحيدة وامضة: «يكفي أنّني لن أرى زهر اللّوز». وفي هذه الكناية تنتصب جميع حقول لبنان، ويرتسم عالمه الشخصيّ الأثير وصِباه كلّه.

(كاتب عراقي ـ باريس)

السفير

 

 

 

أسميك الأسف/ عباس بيضون

يأتيني من بعيد خبر رحيل بشير هلال، من بعيد لكن المسافة مع ذلك ليست فارغة، انها مسافة للروح. مدى موصول يمتلئ فجأة بنحيب مدفون في اللحم والعظام. يبكي هذا الجسد من داخله ولا يتصبب دمعاً، ليس هناك من شيء على شاشة العيون، الجفاف قاس وعقيم حتى كأن العين امتلأت ترابا، حتى كأن الطعنة غارت في القلب، حتى كأن نوراً انطفأ وظل مع ذلك حاضراً كشبح. لا تستحق الحياة أن يكون المرء بهذا الجمال، لا تستحق أن تعاش بهذا الحنو. لا شيء، كأنه أرسل هذه الابتسامات للريح. كأنه بعثر في الخواء هذه النظرات اللاهفة، كأنه أعار صوته للسديم. كم اجتهد ليكمل إنسانيته وها هي تُقطف من فوق الضباب، كم بذل ليكون رفافاً وها انه ذهب في رفة وأخذته نسمة عابرة. كان أكثر احتفالاً بالحياة لكن الحياة ليست احتفالاً. خبطة صغيرة ومجرد دمدمة، فقط اسم صغير وحرف أصغر وليس أكثر من غرغرة. ليس هناك سوى ما يُلتقط من فوق الريح، ليس هناك ما تمكن مقايضته بغير الأسف. الأسف الذي لا حجم له ولا ثقل، الأسف الذي لن يوجد من يبادل به، الأسف على أنفسنا التي لن نجد من يقايضنا بها، من يتسلّمها بمثقال ذرة أو مثقال جرعة. الحياة لا تأسف على من يكترثون لها، على من يبتكرون لها معنى، على من يُقتلون من أجلها. الحياة التي نحوكها من كلمات وأحياناً من أصوات وأحياناً من دموع. لا أحد سيقبل هذه التقدمة، لا أحد سيلتقطها من وراء الجدران، لا أحد سيحاول تهجئتها أو يكسر قلماً من أجلها. ستكون وحدها دائماً ولن يوجد ما يساويها، لا معنى لأن نعاود الكرة، لا معنى لأن نعطي أكثر مما نملك وأكثر مما يزاد لنا.

على الباب ثمة من يرتفع فوق الباب، من يرفع يده أعلى منه، من ينظر إلى أبعد من الباب الثاني، من يزرع أغنية في الريح. ثمة من يحاول مثلك أن يعقد صحبة تحت الأغصان، مثلك ثمة من يلقى الجمال في عرض الهواء، من يكون أكرم من الشجرة، من يملك قلباً للطيور المفارقة، من يعطي ناراً لأبناء السبيل. مثلك ثمة من يعطي لكلمته مثقالاً من أثير، من يرسم على السراب، من يملك أرشيفاً للأحلام، من يبذل ليكوّم ذهباً وطيباً في داخله، من يدفع ثمناً أكبر لتكون الحياة أغلى وليكون مسارنا فيها أكثر قيمة. انها صفقة مع الحياة قلما تربح، لكن ماذا تعني الخسارة حين اللاشيء هو المقابل، ماذا تعني حين لا وجود للعبة ولا وجود حتى لعكسها. فقط هناك مبادلات البؤس. هناك فقط أسعار الشفقة.

انها فقط مقايضة، أن تكون نبيلاً، أن تبتكر للحياة نبلاً فريداً فهذا قد يكون فقط ثأرك منها، أنك ترميها بما لا تفهمه، تقذفها بمعان ليست جاهزة لها. ما هو أكبر منها لكن لا تعرف لمن تتركه، لمنتحرين جدد على السياج، انها فقط مقايضة غير مفهومة. إنسانيتك بلا سعر في الغالب، لكنك استطعت ان تكسر لحظة، أن تستخرج زيتاً منها. هذا ما سوف نظل نراه من بعدك، هو ضوء فحسب، ضوء خبا، ضوء كان، ولن يكون إلا ضوءاً. لقد كان هذا اسمه وسيبقى إلى أن تزول الأسماء.

هناك أسف، أسف كياني، لا نعرف إلى من نهبه وأين ننفقه وماذا نستحق به، أسف لأن الصداقة لا تغني، لأن الحب، زيت نفوسنا، لم يعد شيئاً، لأن كل هذا الطحن الداخلي ليس سوى معركة أحشاء. هناك أسف لا نستطيع أن ننظر إليه، انه حيث تنفقد الصور، حيث لا نجد كلمة. أسف هو بالتأكيد الخطأ الأول الذي وجدنا بسببه، النواة الأولى التي تشرنقنا حولها، الروح التي تملأ المسافات. سأسميك الأسف، سأجدك في مرور هذا الأسف على قلبي، في الماء الذي يترسب منه في باطني، في الحسرة التي لا اسم لها والتي تقضم فقط في أحشائي. أسميك الأسف وأسمّي كذلك نفسي.

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى