صفحات المستقبل

بطء غير مبرّر/ باسل الحمادة

 

 

لا داعي لأن نستعرض الأحداث السياسية في الأعوام الماضية من الثورة السورية، فجميع مكونات المعارضة السياسية والدول الإقليمية ذات الشأن، بتوافقهم أو باختلافهم، لم ينجبوا إلا أولاداً مشوهي التفكير الأخلاقي والإنساني ومعدومي التفكير السياسي، وانعكس ذلك بالمراوحة السياسية، فكان البطء غير المبرّر لإيقاف الصراع السوري من دون حلول، ما أدى إلى رمي شعوب المنطقة بمبرّرات ونظريات وتحليلات، بعضها خارج عن سياق الأحداث، أو ليس له أي أساس اقتصادي أو سياسي أو منطقي، وبعض آخر مجرد طرح لهمهمات غير مفهومة، تسربت من الكواليس، مثل ضمّ الشمال السوري لتركيا، وتأمين مدّ خط الغاز القطري التركي، والسيطرة على آبار النفط السورية، والملف النووي الإيراني، وغيرها من العبارات الإعلامية التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

وجاء التهاب الميدان العسكري في حلب مذيباً لذلك البرود السياسي، فاشتعل واشتعلت معه رغبات الدول المنخرطة في الصراع لقطف ثمار سياسية على طاولة التفاوض، فكان الهدوء المريب والباعث للقلق، نتيجة ضغوط دولية عسكرية، تُمارس يومياً، وضغوطٍ خفية تمارس على قادة فاعلين في الميدان.

وعاد البطء غير المبرّر، وعادت التحليلات والنظريات تطفو من جديد بانفصام سياسي للمعارضة وتقسيم سياسي يراعي مصالح دول الجوار، بتقسيمين، ديموغرافي وفيدرالي يضمن استمرار الهيمنة، ليعتلي الشعور بالريبة والمؤامرة والانكسار والإحباط وجوه غالبية السوريين عموماً، ووجوه العرب خصوصاً.

بعد مرور عقود، يجد السوري نفسه بمواجهة “سايكس بيكو” من جديد تتعب كاهله، وتلزمه بحمل جواز سفره لاجئاً يسعى إلى العيش تحت كنف المنظمات الدولية، فإلى متى؟

يبدو أنّ مشاريع التقسيم لن تتوقف عند “سايكس بيكو”، فكلّ له مشروعه، وكلّ له مصالحه، لكنها جميعاً التقت هنا على الأرض السورية، وجعلت من حجم الصراع أكبر وأكثر دموية، لأنها جوبهت بما لم يكن متوقعاً منها. ولكن، في الوقت نفسه، لم يكن صراعاً مع أصحاب تلك المشاريع فحسب، بل كان مع نظامٍ سهلّ لهم الولوج في الفوضى تحت أسماء مختلفة، وكلٌ أوجد لنفسه بيئة حاضنة، ليس فقط في صفوف السوريين، ولكن أيضاً في صفوف من يدّعون حرصهم على البلد، وهنا كانت المأساة كلها، فخطّط لمشاريع تقسيمية للمنطقة، ولكن بأشكال مختلفة غير معهودة، وقد تبنت بعضها دول وساهمت في إزكائها بالسلاح والدم وخلق النزاعات.

كانت الأحداث في سورية أبعد ما تكون عن فكرة التقسيم، فشعار (واحد واحد واحد الشعب السوري واحد) كان أولى الهتافات التي انطلقت، ليفهم العالم بأسره أنّ السوريين المنتفضين ضد النظام على قلب رجل واحد، وأنّهم أبعد ما يكون عن أيّ رغبة بالتقسيم، ولعلّ هذا ما دفع النظام وداعميه إلى استنهاض المصطلحات الدينية والعصبية والطائفية والقومية والإثنية وتغذيتها، وزجها في بيئات عفنة، فكانت تنمو وتتكاثر كالفطر، لتبدأ فكرة التقسيم تطفو بمساندة دولية من أصحاب المصالح، وتُغرق كل التكهنات والنظريات والتحليلات، وتجعل الأماني تبدو كأضغاث أحلام.

نحن اليوم، أمام سؤال: هل حقاً إنّ التغيير القادم هو تطبيق فكرة التقسيم، كونه الحل السياسي للصراع الدائم من خلال التحالفات السياسية والضغوط الدولية والمال السياسي والوعود بالمناصب وتناغم لأصوات الرصاص وتزكيتها؟

إن كان كذلك، فهذا يعني أنّ المنطقة كلها مدفوعة نحو أتون التقسيم، وأنّ بلداناً أخرى في المنطقة صغُرت أو كبرت ستوضع قريباً على هذه المقصلة. وإن صح ذلك، فإنّ سورية تعيش حالة من مخاض لفيدراليةٍ تكاد تكون حتمية، فهل الحلول السياسية هي السبيل للمعالج أم لا صوت يعلو فوق صوت المدافع؟ وكلا الحالين يجعلنا نستمر في السؤال: لماذا البطء غير المبرّر؟

البطء الذي رسم بالدم خريطة سورية مقسّمة إلى شمال يكاد يصبح تحت السيطرة الكردية المدعومة لبعض فصائلها أميركياً، وغرب علوي مدعوم من روسيا والصين وإيران، وقد تمّ رسم خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها من الفصائل، وهذا ما يفسر هدوء أغلب الجبهات عند خطوطٍ تمتد من حوران إلى ريف دمشق إلى إدلب، باعتبارها، بشكل أو بآخر، حدوداً لدويلات محتملة. وتبقى حلب نقطة الخلاف والصراع والتوّسع ومركزاً للضغط العسكري، بنية استثمارها جغرافياً وطائفياً وسياسياً، لفرض الشروط في أثناء التفاوض وعرض العضلات، فهل نبرّر خذلان السوريين من المواقف التي اتخذها حكام الأرض جميعاً، الأشقاء قبل الغرباء، كما برّر ابن خلدون موقفه، بأنّ فكرة التغيير أمر حتمي قادم إلينا، على الرغم من المعيقات، ولا جدوى من مواجهتها، فزمن المعجزات ولّى، كما فهمنا من مسرحية سعد الله ونوس “منمنمات تاريخية”، وهل سورية التي استوطنها واقتسمتها في الماضي شعوب وأقوام ستتداولها الآن شعوب وأقوام أخرى وتقتسمها؟

ألن يشفع لها كونها منبت الحضارات، وأن يكون هذا التداول بفعل سياسي، أو ثوري حضاري، أم من الضروري أن يتم ذلك بالنزاعات والحروب والدم؟ وهل كتب على السوريين خصوصاً، والعرب عموماً أن يردّدوا إلى أبد الآبدين عبارة: حمرٌ مواضينا.

(سورية)

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى