حسان شمسرسائل الجولانصفحات مميزة

بعثٌ وأسدَان، وخمسة وأربعون عاما والجولان محتلّ!؟


*حسان شمس

إعادة طرح ملف الهضبة السورية المحتلة في حضرة دماء أكثر مِن عشرين ألف شهيد ومئات آلاف الجرحى والمعتقلين والمهجرين ومليوني نازح في الداخل، ليس أمرا سهلا، وفيه الكثير مِن المجازفة والخوف مِن تجرّع كأس مرارة تكرار الذات. فكاتب هذه السطور، تناول ذات الموضوع عشرات المرات في الصحف والمواقع الإلكترونية خلال السنوات المنصرمة؛ والمفارقة القاصمة، أنّنا عشنا لنشهد بأم العين كيف جعل النظام مِن قضية الجولان تفصيلا صغيرا أمام ما يذيقه للوطن مِن كوارث ومآس وآلام!؟ أولم تجعل الستة عشر شهرا مِن عمر الثورة السورية لغز ضياع الجولان كتابا مفتوحا؛ مكثّفة في خلالها مشهدا تراجيديا سوريا يعيشه السوريون بالتقسيط على مدار الساعة والدقيقة منذ ما يزيد عن أربعة عقود؛ إن لجهة هول معاناتهم وأحزانهم وشظف عيشهم، أو لناحية تعرية قبح النظام وفضح فائض الإجرام اللذين طبعا مسلكه منذ اليوم الأول لاغتصابه الحكم؟

لا حاجة بعد اليوم إلى استحضار ما كنّا نسمعه في صغرنا ونعتبره هذيانا؛ أو في أحسن الأحوال دعايات احتلالية تبثّها إسرائيل لـ”وهن عزيمتنا” وزرع جدار كره بيننا وبين وطننا! إحدى تلك الروايات كانت تشي همسا، أنّ عناصر أمن سوريين زاروا المنطقة، أياما قليلة، قبيل حرب عام سبعة وستّين، مستوضحين الأهالي عن إحداثيات وأسماء أراض زراعية بعينها ليضعوا علامات عندها، وليتفاجأ الأهالي بعد الحرب أن تلك العلامات صارت حدود إسرائيل!؟

ما كان يكلّف سنوات بحث وتنقيب، ويتطلب عودة إلى الكتب والمراجع وشهود تلك الحقبة لفكّ لغز ضياع منطقة بأهمية هضبة الجولان، تكفّلت الثورة وتسارع الأحداث على الأرض بتقديمه لنا على طبق مِن ذهب، وبلا عناء. فالثورة أصابتنا بما يشبه التخمة، لكثرة ما باتت تفكّك مِن أحجيات وتحمل مِن وقائع. أوليس نقل ألوية مقاتلة مِن جبهة الجولان، يُفترَض أنها موجودة لحماية أمن الوطن، ودفعها إلى دمشق وريفها لقتال أهلها يجيب عن ألف سؤال وسؤال!؟ أليس خرق اتفاقية الهدنة مع إسرائيل على مرمى ومسمع جنودها، ودكّ قرية (جبّاثا الخشب) على بعد بضعة كيلومترات مِن أبراج المراقبة الإسرائيلية بمدافع صدئة صائمة عن إطلاق، ولو قذيفة واحدة باتجاه العدو، يثبت حقيقة أن هذا الصراع مع “أبناء العم” لم يكن إلا عهرا مغلّفا بكثير مِن القرقعة والجعجعة والبعبعة والتبجّح بالممانعة والمقاومة والصمود والتصدي!؟

عام اثنين وثمانين، كانت المرّة الأولى التي يأتي بها ذكر الجولان المحتل، جهارة، على لسان مسؤول سوري. جاء ذلك، مِن قبيل الاستثمار الرخيص والمبتذَل في غمرة صراع النظام مع “الإخوان المسلمين”؛ يوم أطل حافظ الأسد مِن على شرفة قصر الضيافة في دمشق، مشيدا بتمسّك أهالي الجولان بهويّتهم السورية وببسالتهم وتصدّيهم لقوات الاحتلال الإسرائيلي التي حاولت تطبيق قانون ضم الجولان وفرض الجنسية الإسرائيلية عليهم بقوة السلاح. قال الأسد يومها: “أهلنا هؤلاء، يخوضون معركة الشرف وهم عزّل مِن كل سلاح إلا انتماءهم لهذا الوطن وإلا انتماءهم لهذا الشعب”، بل جاوز ذلك مهدّدا إسرائيل ومتوعّداً: “وإذا عمل الإسرائيليون على أن يكون الجولان على حدودهم، فسنعمل على أن يكون الجولان في وسط سوريا وليس على حدودها”!

ذلك بالتحديد، كان تاريخ بدء المتاجرة العلنية بقضية الجولان المحتل، بعد إبقائها طي الكتمان منذ توقيع اتفاقية فصل القوات مع إسرائيل عام أربعة وسبعين، وعملية البلف القسري والمنظّم التي مارستها سلطة الأسد الأب على الشعب السوري بغية إقناعه أن الجولان تحرّر؛ فيما الحقيقة أنّ إسرائيل أعادت لسوريا ما مجموعه 50 كم2، مبقية على احتلالها لـ 1250 كم2.

“الجولان في ظل عهد الأسد”، الذي طرحته إدارة موقع “صفحات سورية”، عنوانا لملفّها هذا، ربما يحتاج إلى جيش مِن الباحثين والمؤرخين، مع هامش زمني ليس بقصير؛ فإشكالية بهذا الحجم، رغم كل ما كُتب فيها وعنها، تبقى قضية بكراً يصعب تكثيفها أو حصرها ببضعة سطور. الثورة اليوم، وكما أسلفنا، تقدّم أجوبة مجانية على بعض أحجياتها وما لفّها مِن غموض. فمسألة مهجّري الجولان، على سبيل المثال، أو ما باتوا يُعرفون بـ”النازحين”، والتي طالما تساءلنا مع غيرنا عبر السنوات المنصرمة عن سرّ منع النظام لأهلها بالتعبير عن مأساتهم ووجعهم، أو امتناعه، هو نفسه، عن استثمارها وتفعيلها على كلا المستويين، العربي والدولي، باعتبارها فرسا رابحا بكل مقياس؛ تعاملَ معها النظام، جريا على عادته، كورقة وطنية جاهزة للحرق والاستثمار لرفع سعره في بورصة التعاملات الدولية، وذلك على نسق ما فعله العام المنصرم مرّتين، بدفعه بعض المهجّرين الجولانيين والفلسطينيين إلى حدوده مع إسرائيل، ليثبت للأخيرة، عملا لا قولا، أنّ أمنها مقرون بأمن النظام! ألم ينقل رامي مخلوف ذلك التهديد بحرفيته عبر الـ”نيويورك تايمز”، أياما قليلة قبل العبور؟

بكلام آخر، فإنّ الجولان المحتل الذي عمل النظام المستحيل لمحوه مِن ذاكرة السوريين في سنوات حكمه الأولى، عاد ليجلد الشعب به وبحجّة تحريره فيما تلاها مِن عقود، بعد الإحراج الذي لحق به جرّاء انتفاضة الجولانيين الشهيرة وإضرابهم المفتوح الذي جاوز الخمسة أشهر عام اثنين وثمانين، وإعادة تذكيرهم لشعبهم أنه ما زال في الجولان شعب وأرض محتلة. فالنظام، لم يتعامل مع الجولان وأهله وفق أي معيار سياسي أو وطني أو منطق أخلاقي أو فقهي؛ إنما استثمر تلك العلاقة في كل ما مِن شأنه مساعدته على تأبيد حكمه وتبرير بطشه لشعبه! بل إن بعض الجولانيين يذهبون حد القول، إن نظام الأسدين ظل على الدوام يضبط تعامله مع عموم السورين ومعهم بحسب قاعدة استعبادية، هوجاء وظالمة، مؤدّاها: “لا أرحمك، ولن أدع رحمة الله تنزل عليك”.

الإهمال والتطنيش إذن، هما السياسة التي اعتمدها النظام في تسيير علاقاته مع أهالي الجولان المحتل؛ ففيما كانت تقديماته لا تأتي إلا بالقطّارة، وفقط بعد كثير مِن الصراخ والمناشدات عبر وسائل الإعلام ووسائط أخرى؛ والتي هي في المحصلّة مِن جيوب المكلّف السوري، دافع الضرائب، لا مِن تَرِكَة آل الأسد أو مخلوف وشاليش؛ أنشأ لنفسه في قرى الجولان المحتل جوقة مِن الطبّالين الزمّارين المنافقين، الذين لم يألوا جهدا في تصوير ذلك على أنه “مكرمات وعطايا مِن القيادة”؛ سيّما مِنح طلبة الجولان المحتل في جامعة دمشق والسماح بتسويق تفاح الأهالي في الأسواق السورية! زد على ذلك التعامل الأمني الذي خصّ به النظام الأهالي، وما ألحقه ذلك مِن أضرار فادحة على الساحة الجولانية، لا تقلّ خطورة ولا قذارة عما تمارسه سلطات الاحتلال الإسرائيلي. وهذا ما يرتّب على كل قيادة مستقبلية في الوطن أعباء جمّة ومسؤوليات جساما تجاه هذه المنطقة المحتلة وأهلها، لجهة إعادة بناء هذه العلاقة على أسس وطنية وأخلاقية وعلمية لا تشوبها شائبة، تعزّز صمودهم تحت الاحتلال وتعيد ترميم ووصل ما انقطع بفعل سياسات “نظام الممانعة” التخريبية.

كثيرون من أهالي الجولان تمكنوا، بوقت مبكر، مِن فك “شيفرات” النظام السوري، غير المعقّدة مِن الأصل؛ وقد كُتبِت في السنوات المنصرمة عشرات المقالات بأيادٍ جولانية تفضح بؤس النظام وسلوكه اللاأخلاقي واللاوطني في التعامل معهم، واستثمار قضيتهم لجلد شعبهم في الداخل السوري. لكن اندلاع الثورة السورية التي لفح عبقها قراهم المحتلة، جاء ليحدث انقلابا نوعيا لجهة تظهير مواقفهم المناوئة لنظام الأسد إلى العلن. فهم استجابوا لأول صرخة أطلقها أطفال درعا، معلنين ولاءهم الكامل لثورتهم، عبر الكثير مِن النشاطات والاعتصامات الداعمة لها. وقد عبّروا عن ذلك بأرقى الأشكال في بيانهم المؤيد للثورة “أنتم الصوت ونحن صداه”، الصادر بتاريخ 24 آذار 2011 بالقول: “إن إبقاءنا تحت الاحتلال ليس معناه أن نكون شياطين خُرس على ما يمارسه النظام السوري بحقّ شعبنا مِن انتهاكات. فالاحتلال والقهر هنا صنو للذل والبطش والقمع هناك”. وفي موضع آخر: “إن التلطّي خلف أنظمة الطوارئ وتأبيدها بحجة المقاومة والممانعة والصراع مع العدو، أثبتت زيفٌها وعجزها عن استرجاع حبة واحدة مِن تراب الجولان، مبيحة سماء الوطن وبحره وبرّه للعدو يجوبه في أربع جهاته، ومشرعة أبوابه لشتى أنواع الفساد والإفساد والنهب المنظم! ويقيننا، أنّ تحرير الجولان لن يكون ممكنا إلا بتحرير الوطن مِن قيده. فشعب محتل، مقموع ومقهور داخل وطنه لن يقوى على تحرير أرضه مِن أعدائه!”.

قد يتساءل مراقب، في زمن سقوط الأقنعة هذا، وبكثير مِن الحيرة والدهشة عن سرّ إصرار بعض الجولانيين على بيع مواقف أهلهم البطولية تحت الاحتلال وتضحياتهم المشرّفة لنظام يرتكب، في وضح النهار، كل تلك الفضاعات والمجازر والأهوال بحق وطنهم وشعبهم!؟ لكن الغوص في دقائق الواقع الجولاني عن قرب، يكشف عن أبعاد متشعبة ومعقدة لمواقف مؤيدي النظام مِن الدائر على ساحة الوطن. تلك المواقف المركّبة مِن خلطة غريبة عجيبة مِن اعتبارات نفعية وهواجس ذات أبعاد طائفية منبعها الشعور الأقلّوي والخوف مِن البديل، مضافا إليها بعض السذاجة الوطنية المستمدّة مِن حساسية يحيلها أهلها إلى وجودهم تحت الاحتلال، وما يرتّبه ذلك مِن ضرورة العض على الجرح! وفوق هذا وذاك، شريحة مِن أصحاب السيَر غير النظيفة، وطنيا، تحت الاحتلال، استغلت ما يشهده المجتمع الجولاني مِن انقسام إزاء ما يحصل في الوطن لتلميع صوفتها والانتقام لما لحق بها مِن إبعاد عن المجتمع وإقصاء وتهميش، وأخيرا وليس آخرا، الفئة التي تضرب بسيف النظام، وهي الأكثر شراسة وتحريضا على أنصار الثورة؛ ما أوصل المجتمع الجولاني إلى اصطفافات حادة، وصلت بعض الأحيان إلى تعدّيات فعلية، لم يعرف لها تاريخ المنطقة مثيلا.

عهد “سوريا الأسد”، ظل عند الكثيرين في الجولان محكوما بانعدام الأمل في تحرير أرضهم، ولسان حالهم يقول، إنهم باقون تحت الاحتلال الإسرائيلي إلى الأبد. الثورة، أفاقت ذاك الميّت مِن قبره، منعشة الحلم مِن جديد. هم، في المحصّلة، ليسوا سذّجا، وقناعتهم أنّ ذلك قد يطول؛ فالأسد لن يترك البلد وفيها حجر على حجر، لكن على الأقل، صار عندهم أمل!

*صحافي/ مجدل شمس السورية المحتلة

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى