صفحات الثقافةنبيل سليمان

بعد الواقع… الجثث السورية تحتل الروايات/  نبيل سليمان

 

تحتفل هذه المقالة بالذكرى الحادية والسبعين لعيد جلاء الاستعمار الفرنسي عن سورية (17/4/1946)، وهو العيد الذي بددته في السنوات الخمس الماضية الاحتلالات الإيرانية التركية الروسية الأميركية، والإسرائيلية أولاً، حتى صح في العيد قول المتنبي: “عيدٌ، بأي حالٍ عدتَ يا عيدُ”.

فمتى تعود يا عيد الجلاء؟

قذيفة عشوائية هنا وبرميل متفجر هناك وانتحاري هنالك. عبوة ناسفة هنا ومعتقل هناك ومخطوفة هنالك. مجزرة هنا وقارب يغرق بمن عليه هناك وكيميائي هنالك… والموت في كل مكان، والجثة/ الجثث/ الأجثاث (جمع الجمع) التي هي الشاهد الناطق الوحيد. شرعت تحتل الروايات، بعد احتلالها الواقع. أما الريادة في ذلك فقد كانت للكاتب السوري الراحل مروان طه المدور في روايته (جنون البقر) التي تمحورت حول الجثة، ولكن في جحيم الحرب الأهلية اللبنانية التي تبدو اليوم نزهة بالقياس إلى ما يزلزل سورية.

الذين مسهم السحر:

من موقع (القصير) على الحدود السورية اللبنانية، تحضر الجثث في رواية روزا ياسين حسن (الذين مسهم السحر)، ابتداءً بالمعركة بين شباب المدينة والجيش، والجثث من الطرفين المرمية في الحقول وعلى إسفلت الشوارع. وفي الرواية أن المقاتلين الذين غنموا ثلاث دبابات من حاجز للنظام، حاصروا بها مبنى البلدية الذي يحتله الجيش. ومن أربعمائة وخمسين جندياً لم ينجُ أكثر من أربعين. وقد دفن أهل القصير جثث الجنود في مقابر جماعية، وكانوا إثر كل اشتباك يتركون جثث رجال الحواجز عليها، ليأتي رفاقهم ويأخذوها، كما كان هؤلاء يتركون جثث شباب القصير، ليأتي رفاقهم ويأخذوها.

وتحضر الجثث في الرواية أيضاً فيما أفردت لمجزرة قرية (التريمسي) التي وقعت فجر 12/7/2012. وقد وثقتها كاميرا الصحافي فراس الصفدي الذي قضى في حي الخالدية في مدينة حمص، فعاد عصام مرافقه وتلميذه في التصوير بصور – وثائق المجزرة. ويروي عصام أنه وفراس كانا برفقة ثلة من الصحافيين الأجانب الذين تسللوا من لبنان عبر (القصير) إلى حمص فريف حماة، حيث بلغوا قرية التريمسة إبان انسحاب الجيش الحر منها، واقتحام الجيش النظامي لها، ويقول عصام مخاطباً من لا تريد أن ترى جثة حبيبها فراس: “رأيت بعيني هذه يا آنسة هبة جثثاً مشلوحة على جوانب الطريق، مكبلة أيديها إلى الخلف ومقتولة برصاصة في الرأس”. ويروي عصام أن أسراً بكاملها قد قتلت، والصور تظهر الجثث متراكمة فوق بعضها، وثمة نساء وأطفال غارقون في دمائهم في البيوت، ورائحة غريبة: رائحة أجساد متعرقة ممزوجة برائحة دم، وثمة أطفال مذبوحون، ونساء طارت رؤوسهن بالرصاص، وجثث محروقة قد تساقط لحمها عن العظم… وحين تسلل عصام لينجو بالصور – الوثائق، صادف في البساتين جثثاً تتلامع في ضوء القمر الساطع، وتعثّر بجثة، ورأى جثثاً ربما كانت لهاربين من القصف، تتماوج مع مياه نهر العاصي المجاور للطريق، وضوء القمر يعكس خيالاتها على الماء.

لعنة الكاميديوم:

في رواية ابتسام التريسي (لعنة الكاميديوم) يقتحم مسلحون منزل فايز بالرصاص، ويجرون جثته من رجليها فوق أربعين درجة تفصل المنزل عن الشارع. وإذ ترك الرأس بقعة من الدم على كل درجة، رمى المسلحون الجثة في الشارع ساعات كي يكون عبرة “لكل من تسوّل له نفسه رفع رأسه”.

في كلية الطب في جامعة حلب، وعلى طاولة التشريح، ترى الطالبة جنان جثة حبيبها وزميلها فايز مثقبة بأربعين ثقباً، فترمي المشرط وتشتم القتلة وتتقيأ وسط الغرفة. وزميلها أسعد أصابه الذهول إذ رأى جثة زميله فايز، وتقيأ، ثم غادر الكلية بلا رجعة، وقد جُنّ.

ومن مجزرة مدينة حماة التي وقعت عام 1980 أثناء الصراع المسلح بين السلطة والإخوان المسلمين، تحضر في الرواية المشاهد المروعة، كما في عودة من فروا إلى منازلهم ليجدوا الجثث مكومة. وإذ افتقد العائدون آخرين تبين أن ضابطاً قد ربط بعض الجثث من الأرجل إلى الدبابات، وجرها في أحياء المدينة، ثم رماها في مدخلها. أما في منزل الراوية فلم يكن سوى شقيقتها كريمة التي عثر عليها ملقاة على السرير وسط بركة من الدماء، وحولها ثوب عرسها. وحين رفعت الراوية عن شقيقتها الملابس الممزقة بالمقص، شاهدت اليد اليسرى مقطوعةً ومرمية على الأرض، ومقص الخياطة مغروساً في قلبها، وعينها السليمة تحدق في الفراغ، وتقلصات الألم لم تفارق ملامحها بعد الموت.

موسم سقوط الفراشات:

ويعود القبر الجماعي في رواية عتاب أحمد شبيب (موسم سقوط الفراشات) ليبتلع خمس عشرة جثة، في مدينة حمص، كما يصف نزار في هذيانه وهو يتقيأ ويبكي حين يرى مجنداً ينبش القبر، ثم تتكاثر المعاول التي يصوّت معدنها وهي تدقّ الطين في الحفرة. ومما يرى نزار الذي يؤدي الخدمة العسكرية: جثةً محتفظة بأظافر سليمة، طليت بلون القرنفل المزهر. وفي مشهد آخر من الرواية يظهر جنود في مهمة سرية هي التخلص من خمسين جثة قيل إنها لإرهابيين أرعبوا الناس، وبينها جثتان لامرأتين، بينما يسأل الضابط عن امرأة اخترقت الرصاصة مؤخرتها، وأخرى ثقبت رأسها، وهو يفاخر بقتل هذه الإرهابية القادمة من ليبيا.

وتعود المشرحة أيضاً إلى هذه الرواية لتصور أربعاً وثلاثين جثة مجهولة. وبالسخرية المريرة نقرأ: “فرسان حربنا لا يحرسون المشارح بل يملؤونها”. وقد أتى الحارس حسن بجثة إلى قريته، ليوهم أم نايف بأن الجثة لابنها. وتتواطأ معه القرية كي تهدأ الأم التي أقضّت المضاجع منذ بلغها خبر مقتل ابنها.

اختبار الندم:

تتقد المخيلة في رواية خليل صويلح (اختبار الندم) وهي تمتح من واقع الحرب، فإذا بالجثث المطمورة تحت التراب تئن من آلام الاعضاء المبتورة من دون مخدر. وفي أرشيف جمانة سلوم صورة لمحرقة جثث، كانت مروحية قد ألقت بها عند تخوم حقل قمح. وفي الرواية ما تدعوه بحكاية نموذجية لإنشاء سيناريو محكم. إنها حكاية الشابة (ر.ع.س) التي اكتشفت جثتها بعد تسعة أيام من انتحارها، وحولها كلباها اللذان استبد بهما الجوع، وأثارتهما رائحة الجثة فنهشا جزءاً من جسدها. ولما أودعت الجثة في ثلاجة الموت، لم يسأل عنها أحد من ذويها. وفي الرواية أن ضحية أخرى قد كانت للوحدة القاتلة. فقد انتحرت الشابة يارا بغدادي بشنق نفسها في شرفة منزلها، بعدما تركت ورقة كتبت عليها أن هذه المدينة – دمشق – متوحشة، لا يلتفت فيها أحد إلى عزلة آخر، إلى أن تفشو رائحة الجثة.

من المخيلة كما من الواقع، ترسم الرواية ضحية ملفوفة ببطانية قذرة، تحمل إلى حاوية القمامة ليلاً، ثم تسحب البطانية من تحت الجثة، لتستعمل ثانيةً مع ضحية جديدة. وترسم الرواية أيضاً شخصية نارنج وهي تروي عذابات سجنها وعذابات حكايات إحدى وأربعين امرأة سجينة، حتى لتغدو الرواية مثل عربة إسعاف متأخرة، تجر خلفها عشرات الجثث، قبل أن تودعها ثلاجة الموتى.

زجاج مطحون:

ليس في رواية إسلام أبو شكير (زجاج مطحون) إلا جثة واحدة هي جثة الشاب الثلاثيني الذي يتحدث عنه الآخرون الذين رمتهم معه المخيلة، كما رماهم واقع الحرب، في غرفة مصمتة.

صباحاً وجدوا جثة الشاب متخشبة، وأطرافه باردة وشفتاه زرقاوان وعليهما آثار العضّ جلية، لكنّ عينيه مفتوحتان، وما يشبه استغاثة لا تزال عالقة فيهما. وقد عثر رفاقه على قصاصة ورق تحت وسادته تخاطب الأعداء، ولتحولات الجسد فيها إشارة: “علقتم بهذا الوحل الممزوج بدمائنا/ فخ نصبناه لكم/ وقريباً ستتحلل أجسادكم، ستصبحوا (ن) سماداً/ وعليه ستتغذا (ى) أشجار ليموننا، وحقول حنطتنا”.

قرر الرفاق أن يضعوا الجثة في الحمام لتكون وحيدة، متعللين بأنه من حق الجثث أن تكون بعيدة عن أنظار الآخرين، وأن تعيش موتها في صمت وهدوء وعزلة، فالموت شأن شخصي جداً، وليس لأحد أن يقف فوق رأسك ويسجّل تحولات جثتك، بدءاً من الجسد الممدد البارد، وصولاً إلى كومة العظام المنخورة.

كانت تحولات الجثة تصيب الرفاق بالرعب، فتتملكهم الرغبة بالإقياء: “تورم الجثة… واسودادها.. وتشقق جلدها.. واندلاق أحشائها.. ورائحة العفن وهي تتسرب من مسامات جلدها المفتوحة كفوهات البراكين على شكل بخار سرعان ما ينعقد غمامةً زرقاء كتيمة، تحوم فوق رؤوسنا.. أسراب الدود تقرض اللحم في إيقاع رتيب يتلف الأعصاب.. الدمامل وهي تحتقن بالسؤال، وتنمو شيئاً فشيئاً، ثم تنفقئ ليلاً دون صوت، ويتطاير منها رذاذ القيح الاصفر اللزج، عندما نستيقظ من نومنا وقد لطّخ وجوهنا وملابسنا”.

يمكن للرفاق أن يعيشوا مع كومة نفايات، لكن أن تتحلل، أمر آخر يفرض أن تودع الحمّام، مهما يكن في ذلك من خسة، فالحياة في غرفة النوم إلى جانب جثة في طريقها إلى التفسخ أمر لا يطاق، ثم إنها الحرب. لكنّ الحمام حلّ مؤقت، لذلك فكروا بالثلاجة التي ستضطرهم إلى تقطيع رفيقهم كذبيحة، ووضعه في أكياس. ثم إنهم في حرب، وقد تنقطع الكهرباء في أية لحظة، فلا بد من قبر إذن، ولكن ما من أداة، فليطلبوا المعاول ممن رموهم في الغرفة المصمتة، لكأنهم في رواية كافكاوية ستنتهي باختفاء الجثة التي كانت قد تورمت، فضاقت الملابس عليها، ما أدى إلى انقطاع زرّ، فانكشف البطن، وبرزت السرة كثمرة جوز جافة وتسللت الرائحة في الليلة الأخيرة من أسفل الباب: بخاراً أزرق في موجات متتالية، لم تجد معها الخرق المبللة التي سدت أسفل الباب، فخاطوا من قطع القماش التي حشوها بالقطن، كمامات رشوها بالعطر.

الموت عمل شاق:

تتمحور رواية خالد خليفة (الموت عمل شاق) حول جثة واحدة أيضاً، ولكن جثثاً أخرى تعبر في الرواية على إيقاع الزلزلة السورية. أما الجثة/ المحور فهي للأب الذب أوصى بدفنه قرب قبر أخته في مقبرة القرية البعيدة شمال حلب. وينفذ الأبناء وصية الأب فينقلون جثة أبيهم من المشرحة في دمشق، حيث كاد حسين أن يتقيأ وهو يفتح الصناديق المكتظة بالجثث. وقد دفع الرشوة للقيوم على المشرحة لقاء السماح لممرض بغسل وتكفين الأب في حمّام الموتى القذر. واشترى حسين أربعة قوالب كبيرة من الثلج لحفظ الجثة أثناء نقلها، كما اشترى علبة من ملطف للجو، ووضع الجثة في المقعد الجانبي من السيارة كيلا يراها إن نظر في المرآة أثناء قيادته السيارة.

في المشرحة كانت تصل في الفجر جثث الجنود من أطراف دمشق (الغوطة) حيث المعارك. وفي الطريق إلى خارج المدينة استطال رتل سيارات الإسعاف المليئة بالجنود المرافقين للتوابيت. وعلى حاجز عسكري يكتشف الضابط أن الأب كان مطلوباً للأمن منذ سنتين، ويشرح للابن بلبل أن الأب ما زال حياً في السجلات: “لا يهم إن كان جثة أم جيفة”. ويروي عسكري الحاجز للابن بلبل أنهم اعتقلوا جثة منذ شهر، وأرسلوها مخفورة بالحرس إلى المشفى حيث فحصتها لجنة، ولم تسلم لذويها إلا بعد الانتهاء من دوامة شطب المتوفى من السجل المدني، ومن (الفيش المركزي)، وإصدار برقية بكف البحث، بينما الجثة معتقلة. وقد طلب العسكري رشوة باسم رسم عبور بضاعة، كما رفض رئيس الفرع أن يزود الأبناء بورقة كف بحث تمنع الحواجز التالية عنهم، لكنه سمح بعبور الجثة.

قذفت الدوامة بالابن بلبل في زنزانة مكتظة، فهجس بأنه سيكون جثة تحت التعذيب، لا يهمها إن حرقت أم تركت للكلاب، ولسوف يتمدد قرب أبيه غير هيّاب، ويستذكر شغف زملائه برواية حكايات عن إهمال البحث عن الجثث بعد سنوات من الحرب، حتى بات الأهل يضطرون إلى الذهاب إلى مكان المعركة التي قضى فيها أبناؤهم، والبحث عن الجثث في قبر جماعي وسط ركام الدمار.

ليلاً، وقد طال السفر وتعثر، فكر بلبل بأن الجثة لن تتفسخ في هذا الشتاء البارد، وبأنه من حسن الحظ أن الأب لم يمت في الصيف حين ينهش الذباب الأموات. وبلبل ضد وصية الأب، لأن الجثث غالباً لا تعنيها الأمكنة. والأبناء يداورون ليلاً السؤال عما تعنيه جثة الأب. والابنة فاطمة تفتح نافذة السيارة ليلاً، وتفكر برائحة الموتى، وتقترح كشف الغطاء عن الجثة، وتجفف من أرض السيارة ذوب ألواح الثلج المربوطة بالجثة. ولئن كان الأبناء لم يلاحظوا في الظلام ما طرأ على الجثة، فسيكتشفون نهاراً انتفاخ الوجه وازرقاق واخضرار اللون قريباً من العفن. وستصدع رائحة الجثة حسين، إذ لم تعد تنفع العطور، ونسيج الجسد بدأ يتراخى، والزرقة غطست إلى أسفل البطن المنفوخ. وبلبل يفكر في أن الجثة هي الحقيقة الوحيدة الباقية له، والتي تشعره أنه كائن حقيقي. وعلى حاجز جديد لا تكون الجثة بضاعة ولا بشراً، بل شيئا يثير الغثيان، فالبشر بعد الموت يتحولون إلى نوع ثالث، ليس من الأحياء ولا من الجماد.

ومن حاجز للجيش النظامي إلى آخر للجيش الحر إلى ثالث للإسلاميين المتشددين، وصولاً إلى القرية، تنبه البنت أخويها إلى تفتق الجثة، وإلى خيط قيح كريه ينسل من الفتق، فالأموات يتحولون إلى براز، ولا يستطيع الأبناء تنظيف أنفسهم من جثة أبيهم، وحسين يشتم أباه وأسرته، ولا يهمه إلا الخلاص من الجثة، بينما تحاصر الكلاب السيارة، وتحضر إلى بلبل صورة الكلاب في ريف دمشق وهي تلتهم الجثث التي لم تدفن، كما تسلقت الديدان نوافذ السيارة وغطت المقاعد. وفي هذا الختام أحس بلبل بأن الكلاب تنهض رأسه، فهو الآن جيفة، وجرذ كبير، وكائن فائض.

إنه اللامعقول السوري المتفاقم منذ ست سنوات، وفيه حقاً، ومن أسفٍ، أن الجثث السورية، بعد الواقع، تحتل الروايات، فتدوّم أسئلة الحياة والموت والجسد والحرب والوحش في الإنسان و.. وماذا أيضاً؟

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى