صفحات سوريةعمر قدور

بعد ثلاثين عاماً: حماه أيضاً.. وأيضاً


عمر قدور

قبل ثلاثين عاماً وفي الثاني من شباط 1982 اقتحمت ألوية خاصة من الجيش السوري مدينة حماه. كانت المدينة، كما تم تداوله في ما بعد، قد أعلنت العصيان على النظام السوري. وتذهب بعض التقديرات إلى أن نحو 300 مسلح من الإخوان المسلمين أحكموا سيطرتهم على المدينة معلنين تحريرها، من دون استبعاد للأهالي المتعاطفين معهم. كانت المواجهة بين السلطة والإخوان قد بدأت قبل ثلاث سنوات، تم في أثنائها القضاء على التنظيم في المدن السورية الأخرى، وفي طليعتها حلب، ومن دون أن تأخذ المواجهة طابعاً شعبياً شاملاً، وإن اكتسبت تعاطفاً من قبل بعض الناقمين على النظام أو على أيديولوجيته.

حتى الآن لم يُعرف ما الذي حدث بالضبط في حماه. لا توجد حتى رواية رسمية موثقة تقدم حصيلة رقمية، ولو مزيفة، لضحايا تلك الأيام، أما السردية التي قدّمها الإعلام الرسمي فهي تقتصر على العموميات إذ توحي بطابع أصولي “ظلامي” للمدينة، وكأن هذا الطابع يبرر أعمال الإبادة التي تداول السوريون أخبارها شفاهة، ولم تكن هذه السردية بلا أثر، فقد ترسخت في أذهان الكثيرين صورة نمطية عن المدينة بوصفها معقلاً للإسلام المتعصب اجتماعياً، ومعقلاً للإسلام السياسي الجهادي. من جهتهم أيضاً لم يقدّم الإخوان المسلمون رواية تفصيلية عما حدث في المدينة، باستثناء تلك السرديات التي تركز على القمع الوحشي الذي تعرضت له، فلا يُعرف حقاً إن كانت المدينة بأكملها قد أعلنت العصيان أم أن هذا الجزء المسكوت عنه من الرواية أتى متطابقاً بين الطرفين: السلطة لتبرر من طرف خفي قمعها، والإخوان ليظهروا حجماً أكبر للدعم الشعبي الذي يتمتعون به.

عشرات الآلاف من القتلى، آلاف من المفقودين، عدد كبير من المهجرين أو المنفيين قسراً، واحد وثمانون مسجداً وثلاث كنائس دُمرت بالإضافة إلى آلاف البيوت؛ هذه هي الحصيلة المتداولة على نطاق واسع، لما أسفر عنه اقتحام المدينة في زمن عجزت فيه وسائل الإعلام التقليدية عن تغطية الحدث. “الأحداث”! هذه هي الكلمة السورية الشائعة لوصف تلك المواجهة، ولا يخفى ما تحمله من تهوين وتقليل من شأن ما جرى، فيبدو مقتل ما يفوق الثلاثين ألفاً مجرد فعل صغير طارئ في الحياة السياسية السورية. بالطبع استخدم الإعلام السوري آنذاك مقولاته النمطية المعتادة عن المؤامرة العالمية التي تستهدفه كذريعة لأعمال البطش التي لم تتوقف بالقضاء على الإخوان المسلمين بل تعدّتهم لتبطش بذيول الحياة السياسية في سوريا كلها، يميناً ويساراً بحسب تصنيفات ذلك الزمن.

كانت أنواع التنكيل قد بدأت في حماه منذ عام 1979، فعانت المدينة من الحواجز الأمنية التي قطعت أوصالها ومن الاعتقالات الواسعة، وأيضاً مما يمكن وصفها بالمجازر الصغيرة قياساً إلى المجزرة الكبرى عام 1982، فعلى سبيل المثال كانت قد حصلت مجزرة في منطقة تسمى “بستان السعادة”، وهي منطقة مجاورة لقلعة المدينة ولنهر العاصي، قُتل في تلك المجزرة “الصغيرة” ما يزيد على الأربعين شاباً من الحي، وقد جُروا من بيوتهم وتمت تصفيتهم أمام الأهالي بوحشية شديدة. لكن ذلك كان صغيراً بالفعل أمام ما يرويه السكان عما حدث عند اجتياح المدينة في ما بعد، فقد اعتمدت “القوات الخاصة” التي دخلت المدينة سياسة الأرض المحروقة، ولم يوفر البطش طفلاً أو شيخاً، بل أتى على كل من صادفهم. وهناك عائلات أبيدت بأكملها وأبنية قصفت وتهدمت على رؤوس ساكنيها، وأحياء سكنية يمكن القول إنها دُمرت تماماً. وليست هناك معلومات دقيقة عن الأماكن التي دفن فيها الضحايا، سوى ما هو معلوم عن دفنها من قبل النظام في مقابر جماعية لا يستطيع أحد الكشف عنها.

بناء على ما سبق، كانت حماه مرشحة لتلعب دوراً ريادياً في الانتفاضة السورية، لكن المدينة تأخرت نسبياً في الدخول على خط الانتفاضة. على الأرجح، بسبب الاحتياطات الأمنية الشديدة فيها. بعد أربعة أسابيع من انطلاق الانتفاضة خرج نحو ألف متظاهر في منطقة “الحاضر”، وأخذ العدد يزداد ببطء حتى وصل الى ما يقرب السبعة آلاف، فيما سمّي وقتها بيوم “الجمعة العظيمة”. وقد أطلقت قوات الأمن الرصاص على المتظاهرين فقُتل منهم أحد عشر شخصاً على الأقل معيدةً إلى الأذهان ذلك التاريخ الدموي قبل ثلاثة عقود. من جمعة إلى أخرى تزايدت أعداد المتظاهرين الذي واجهتهم آلة القتل أسوة بالمناطق الأخرى الثائرة. وأسوة بما حدث في المناطق الأخرى، لم ينجح القتل في اخماد الانتفاضة بل زاد في تأججها إلى أن وصل عدد المتظاهرين إلى عشرات الآلاف، الذين اقتحموا الساحة الرئيسية للمدينة المسماة باسم نهرها “العاصي”.

بعد نجاح محاولتهم الكبيرة الأولى قرر الأهالي اقتحام الساحة بأعداد أكبر من المتظاهرين، حدث ذلك بتاريخ الثالث من حزيران، في الجمعة التي سميت “جمعة أطفال الحرية”، آخذين بالحسبان استعداد الأمن لمواجهتهم ومنعهم من دخول الساحة هذه المرة. ما ميز ذلك اليوم المفصلي هي الورود، ومن ثم الدم! عشرات الآلاف من الزهور حملها المتظاهرون لتقديمها إلى رجال الأمن، تقدّم مئات الأطفال مع الورود، تليهم آلاف النساء والأمهات، ذهب الأطفال بالورود إلى رجال الأمن المنتشرين في الساحة وقد قبلها هؤلاء منهم، عاد الأطفال إلى الوراء وتمت إعادتهم هم والنساء، تحسباً من العنف الذي ستلجأ إليه قوات النظام على الرغم من الورود. كان عدد عناصر الأمن المنتشرين نحو 1500، وبالفعل ما أن اقترب المتظاهرون من مدخل الساحة حتى بدأوا بإطلاق الرصاص في الهواء لترهيبهم، ثم أطلقوا الغازات المسيلة للدموع. تدريجياً بدأ إطلاق النار ينزل من الهواء إلى الأسفل، إلى أجساد المتظاهرين العزّل، لكن إرادة الصمود تغلبت فلم يتزحزحوا من أماكنهم ويهربوا بسرعة.

في مشفى “الحوراني” كانت الدماء تسيل على بلاط الممرات وتصل إلى بعض الجدران، بينما كانت قوات الأمن تحاصر بنك الدم في المدينة منعاً لإخراج أي كيس من الدم لإسعاف المصابين، كان الناس متجمهرين بأعداد كبيرة أمام المشفى، وثمة من يخرج إلى الباب لينادي بزمرة الدم المطلوبة فيتبرع من بين الواقفين مَنْ يحمل تلك الزمرة، ولم يكن هناك متسع من الوقت للفحوصات اللازمة لذا يتم نقل الدم فوراً. وسط هؤلاء كانت امرأة روسية متزوجة من سوري تولول على ابنها المقتول: “ما بدي يروح على الجنة.. بدي ياه يقعد بحضني هون.. ما بدي ياه يموت”، بينما كان رجل يصرخ متصلاً بزوجته: “افرحي.. افرحي.. ما رح جبلك ابنك على البيت إلا عريس.. افرحي.. افرحي”، وبالطبع كان هذا الرجل ينعى ابنه القتيل. في ذلك اليوم أيضاً هرع أحدهم محاولاً إنقاذ أخيه المصاب فعاجله قناص بالرصاص، تكومت جثة الأخ فوق جثة أخيه.

رغم ذلك لم يتراجع الأهالي عن محاولة اقتحام الساحة، فاستطاعوا الوصول إليها في ما بعد، ووصل عددهم إلى نحو 500 ألف في الجمعة التي أطلق عليها اسم “ارحلْ”. وما يزال مشهد ساحة العاصي المكتظة بالمتظاهرين مأثرة لا للمدينة وحدها بل للانتفاضة السورية كلها، لا ينقص من هيبته أن الأمن والجيش اقتحما المدينة لاحقاً وأعادا السيرة ذاتها بالتنكيل بالأهالي وقتل المئات منهم، من دون التجرؤ حتى الآن على تكرار ما حصل في ثمانينات القرن الماضي. استطاع النظام السيطرة على المدينة مجدداً، لكن قادته يعرفون قبل غيرهم أن سيطرتهم مرهونة بالإبقاء المتواصل على القبضة العسكرية، وأن مجرد تراخيها سيدفع بالأهالي إلى الساحة مجدداً.

بعد ثلاثة عقود من المجزرة الأولى قد يقول البعض: “ما أشبه اليوم بالأمس”. ينطبق هذا القول على النظام الذي لم يتغير ولم يغيّر في أدواته القمعية، إلا أن المعطيات تغيرت كثيراً. فما شهدته حماه، في أثناء الثورة الحالية، انتفاضةٌ شعبية وطنية لا تُقارن بالعصيان المحدود الذي كان قبل ثلاثين عاماً. الأهم من ذلك؛ لقد كانت مجزرة شباط 1982 كفيلة بالقضاء على روح التمرد في البلاد، أما الآن فلم تعد المجازر تردع السوريين عن مطالبتهم بالحرية. لم تعد حماه تلك الذكرى المرعبة التي تشل إرادتهم. ما بقي منها هو الألم الذي يرفضون تكراره ثانية، لذا يعلن الناشطون بعزيمة وإصرار: لن تكون هناك حماه ثانية.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى