صفحات الرأيياسين الحاج صالح

بعد 48 عاماً على 1967… و67 عاماً على 1948/ ياسين الحاج صالح

 

 

 

ليس بفعل الثورات العربية تراجعت فلسطين عن كونها «قضية العرب الأولى». الأمر سابق لذلك. قبل أن تكون لهم «قضية أولى»، فلسطين صنعت العرب وعرفتهم بدلالة مواجهة المحتل الإسرائيلي، ومَن وراءه من قوى كانت تستعمر أكثر بلدانهم قبل حين وجيز. هذا معطى أساسي: «العرب» (لا الفلسطينيون، ولا المسلمون) في مواجهة إسرائيل. برنامج «تحرير فلسطين» المضمن في هذا التعريف كان يتجاوز قدرات العرب وقتها، واليوم. لكن كان إنجاز القومية العربية المهم هو تعريب الفلسطينيين، وتعريب العرب أيضاً، أعني تشكلهم في صورة جديدة، تتمحور حول استعادة فلسطين. فلسطنة العرب، على ما كان يأمل يسار فلسطيني وعربي في سبعينات القرن العشرين، اصطدم بوقائع الدولة في المشرق العربي، في الأردن، ثم في لبنان، وفي سورية أكثر منهما، وإن بطريقة مختلفة. وهو ما أفضى في النهاية إلى مشروع فلسطنة الفلسطينيين عبر اتفاق أوسلو (1993) وما بعده.

وبقدر ما تشكلت العقيدة القومية العربية حول فلسطين كقضية أولى، سيرتبط مصير «القضية الأولى» بمصير هذه العقيدة.

هناك روايتان ممكنتان لمصير القومية العربية، تشتركان في القول إنه مصير حزين، وتفترقان في تفسيره. تتكلم رواية أولى على حروب وصراعات ومؤامرات، منها «النكسة» في 1967، والحرب اللبنانية، والصلح المصري – الإسرائيلي، واحتلال بيروت 1982، وحربا الخليج، وحروب إسرائيل اللبنانية والفلسطينية، وتقدم السيطرة الأميركية في الإقليم، واحتلال العراق ثم الانسحاب الأميركي منه، وصولاً إلى «الربيع العربي» الذي يميل القومي العربي التقليدي إلى النظر إليه بتشكك، إن لم يعتبره مؤامرة صريحة على «الأمة». القومية العربية أُضعفت، في النهاية، بفعل حروب ومؤامرات خارجية أساساً، وهذه هي الرواية القومية العربية عن حال «الأمة العربية».

لكن هناك رواية أخرى، متنحية، ترى أن مشكلة القومية العربية تتمثل بالأحرى في تمركزها الجيوسياسي، وكونها سردية سياسة عليا (هاي بولتكس) منشغلة بالعواصم والرؤساء والملوك والفاعلين الكبار، لا تمتنع فقط عن قول شيء عن مشكلات العمل والتعليم والمعيشة والحياة اليومية لعشرات ملايين البشر، ولكنها السردية القامعة لولادة قول متماسك في هذه الشؤون.

بمحصلة عقود من تفريغ المجتمعات من التنظيم والسياسة والنقاش والمبادرة، آل الأمر بالقومية العربية إلى أن تكون إيديولوجية دولة تفرض من فوق، وليست شيئاً يعتقده السكان من تحت. من هم القوميون العرب أو العرب القوميون في سورية اليوم أو منذ عشرين عاماً؟ ومن هم في العراق اليوم، أو قبل الاحتلال الأميركي؟ بل من هم العرب بالذات؟ وهل جعلت القومية الفوقية والقسرية، المعزولة عن حياة السكان، أي «الأمة»، هذه الدول أقوى أم أضعف في مواجهة أي خصوم خارجيين؟ انفصال القومية عن الأمة ردّ الأولى إلى دعوة مجردة، والثانية إلى قطاعات سكانية منكفئة على نفسها.

الدولة التي توسلت القومية لضبط الأمة ارتدت إلى وكالة جيوسياسية، تقوم بدور الوساطة بين المراكز الدولية وبين السكان المحليين. الوكيل الوسيط يخوِّف المحليين من مؤامرات الخارج ومخاطره الداهمة ومفاسده، فيفاقم من عزلته وانكفائه على نفسه، ويخوف المراكز الدولية القوية من وحشية محكوميه وتعصبهم وإرهابهم. وهو يضمن لنفسه، عبر هذه اللعبة المزدوجة، درجة من الاستقلالية عن هؤلاء وأولئك، بما ييسر تركيز السلطات والثروات في جيوب «القرايب والحبايب» من دون تنغيص.

أسوأ: توافق تدهور القومية العربية، كشكل سياسي فوقي وقسري للعرب تفرضه دولة وكيلة لا مبدأ لها في الواقع غير دوامها الذاتي، مع زوال العرب ذاتهم، على ما نشهد بخاصة في «القطرين» اللذين حكمهما حزب البعث: سورية والعراق. في البلدين اليوم سنّة وشيعة، وعلويون ودروز واسماعيليون، ومسيحيون وإيزيديون، وكرد وآشوريون وتركمان وأرمن…، والجماعات هذه راسخة في إدارة ظهرها لبعضها، هذا حين لا تكون منخرطة في حروب إبادة.

ترى، أليست هذه نكبة تصمد للمقارنة مع نكبة الفلسطينيين؟ إسرائيل ذاتها لم تستطع تحقيق ما تحقق من نزع العروبة في زمن البعثيْن. بالعكس، يبدو أنه لم يبق عرب في المشرق، خارج الإثنية، إلا في فلسطين التي تحتلها إسرائيل. في لبنان، وفي العراق وسورية، لا يوجد عرب. في الأردن والخليج، العرب واقعة إثنية، لا دلالات سياسية أو ثقافية متعدية لها.

الواقعة المكملة لزوال العرب هي وقوع المشرق تحت نفوذ قوة إقليمية صاعدة، ليس فقط لا يُعرف عنها ود حيال العرب العيانيين، ولا أنها منبع قوي للطائفية والتنازع الطائفي بينهم فقط، وإنما هي لا تخفي تطلعاتها القومية التوسعية. وعينها في ذلك كله على الغرب، والمركز الأميركي بخاصة. ولا يبدو أن نفوذ البلد الجار يقتصد في دم العراقيين والسوريين واللبنانيين، والأفغان، يبدو بالأحرى سخياً بالغ السخاء فيه. وينعكس الإضعاف المتمادي للبلدان الثلاثة قوةً لمصحلة طهران وحدها. ويبدو أن المركز العالمي الأميركي، ومعه المركز الإقليمي الإسرائيلي، قد طورا من الخبرة ما يجعلهما يرتاحان إلى قوى منظمة، قد تكون منافسة، لكنها تتميز بـ (1) أنها تستطيع القتل، وتمتلك غريزة القاتل الذي لا تتناهبه الوساوس، و(2) تضمن «الاستقرار» بالقوة ضد أي مشاغبين محليين، و(3) يمكن التنبؤ بسلوكها وتفي بتعهداتها حيال الأقوياء، وهذا خلافاً لقوى قد لا تكون خصماً، لكنها لا تتحكم بشروط استقرارها الداخلية الخارجية، مثل بلدان الخليح العربية. «حزب الله» خصم، لكنه منضبط و «عقلاني» ومعلوم التبعية، وهو في ذلك مفضل على حركة قد تكون أضعف منه وأقل مخاصمة، لكنها أقل سيطرة على مجالها، وقد تنشأ في كنفها أو ضدها مجموعات لا يمكن توقع ماذا تفعل.

ولعله لاعتبارات كهذه، لا يبدو مثلاً أن إسرائيل مستاءة أبداً من توسع السيطرة الإيرانية في بلدان المشرق الثلاثة، أما اقتران هذه السيطرة بحرب شيعية – سنية مفتوحة، فيبدو بالأحرى أنه مصدر بهجة إسرائيلية.

شيء واحد يفلت من العقلانية المشتركة للثالوث الأميركي الإسرائيلي الإيراني: قضايا العدالة والحرية والمساواة والكرامة، ومن وجه آخر قضايا الظلم والعبودية والتمييز والإذلال، كل ما كانت القومية العربية سوّغت نفسها به أصلاً، وما يفترض أنه الأسس الأخلاقية والمعرفية الأصلب للاعتراض على الكيان الإسرائيلي.

على أعتاب نصف قرن من النكسة وثلاثة أرباع القرن من النكبة، لدينا 3 أو 4 فلسطينات اليوم بدل فلسطين واحدة، وإسرائيلان على الأقل بدل واحدة. ولدينا ما يقارب امحاء المراكز العربية المشرقية الكبرى في العراق وسورية، ومصر أيضاً. إن كانت إسرائيل تعرف نفسها بمواجهة العرب تحديداً (لا «الفلسطينيين»، ولا «المسلمين»، سنّتهم وشيعتهم)، فهل يكون زوال العرب غير انتصار عظيم لإسرائيل؟

لا يغير من الأمر شيئاً أن القومية العربية المنشغلة بالجيوسياسي حصراً هي التي مهدت الأرض الفكرية والنفسية للسيطرة الإيرانية، وأن ما بقي منها يرتضي لنفسه دور التابع الصغير للسيد الإيراني.

* كاتب سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى