صفحات الرأي

بعضهم دعا إلى أن يتغيّر الشعب نفسه قبل تغيير حكامه

 


دلال البزري

هناك مثقفون لم تنْعم عليهم الثورات العربية بأي إرباك، أو اضطراب، أو إزعاج لـ”فكرهم”، أو بالأحرى لعادتهم في “التفكير”. هلّلوا لها بأعمّ ما يمكن من العبارت، وكالوا لها القصائد والكلمات الفخيمة، كما يعتقدون بأن على المثقف ان يفعل. لكن عندما طالت الثورة بلادهم، عادوا يغرفون من “فكرهم” الماضي ما يعينهم على صفّ كلمات تودّ لو تعيق انطلاقتها.

ليس مفهوما بالضبط ما ينطوي عليه جمود “فكر” هذا الصنف من المثقفين، ولا هي معروفة الأسباب العميقة المتربصة بأية حركة لـ”فكرهم”، بأي انحراف عن صراطه. هناك تخمينات فقط: منها العادة نفسها بالـ”تفكير”، عادة قديمة تمدّها السنوات بالرسوخ. هي ليست تماما عملية تفكير بذاتها، أي إعمالا حقيقيا للعقل، بقدر ما هي إجابات جاهزة منذ سنوات على أسئلة يطرحها الواقع. من عادات التفكير الاوتوماتيكي عندنا مثلا، ان نفرح اذا قلقت اسرائيل، أن نلفظ الغث والنفيس من اعمال الغرب الخ. اما في حال مثقفينا اولئك، فان هذه العادة تقوى وتصبح شبه دوغما عندما ينبني “مجدهم” على تكرارها. وفي هذه الحالة بالذات تتحول العادة إلى طقس في التكفير، تدعم هذا “المجد” وتملي فراغاته بالكلمات المنتفخة، المتحذلقة، المزركشة. ويصعب في هذه الحالة ان يؤثر على مثقفينا هؤلاء أي حدث، أو يتأثرون به. فما بالك بثورة؟ انها تأتي دائما لتؤكد صحة تفكيرهم الاوتوماتيكي، كيفما اتفقت حججهم أو براهينهم.

اما الأخطر من بين الاسباب العميقة للتشبّث بالـ”فكرة” أو “الأفكار”، فهي تلك التي تتعلق بشبكة المصالح والامتيازات والتسويقات التي قد يكون مثقفينا قد نسجوها مع أوساط بعينها، حيث قد يكون تمّ التطابق بين تطلّعات هذه الشبكة وبين الرؤى و”الافكار” التي “بناها” مثقفونا لبنة لبنة طوال سنوات. هل نجد خلف جمود بعضهم واحدة من هذه الاسباب أم كلها مجتمعة؟ وهل تختلف درجة رسوخ “الافكار” مع زيادة الأسباب، أو نقصانها؟ تساؤلات برسم الاجابات.

من بين هؤلاء المثقفين واحد اعتاد على “التفكير” سلبياً في ما يخص العرب وانتاجهم، لكن جمّد هذه العادة عندما طالت الثورة بلدانا بعيدة… وعندما طرقت الثورة أبواب بلاده، استعادها بمهارة العازفين، تطريباً، على لازمات النَغَم ذاته. ماذا قال؟

جهّل الفاعل في معرض وصفه لما بلغه العرب من عموميات في التخلف. وعندما احتاج إلى بعض الدقة، قال انهم “أهل اليسار والثورة”. هل يعني بذلك أن نظام الحكم الذي هو بصدده قبض عليه أعضاء في أحزاب “ثورية ويسارية”؟ وما هي يا ترى؟ اليس معروفا جدا ذاك الحزب، المحتكر قانوناً للسلطة، الذي يفترض شاعرنا الكبير انه يتناوله، ، والواضح في عنوان مقاله؟ على العموم، ماذا فعل هؤلاء: “أهل اليسار والثورة”؟ خلاصة افعالهم انهم “أقاموا ولم يبنوا مجتمعا”.

ثم بعد ذلك، هان عليه الأخذ بتجربة العراق، ليدلّ على انه لا يكفي اسقاط الديكتاتور، اذ “لا يتغير المجتمع بمجرد تغيير حكامه”.

فيما نحن بصدد اسقاط ديكتاتوريتين، التونسية والمصرية، وعلى الطريق مع الباقيات، لم يجد شاعرنا الكبير “تجربة” يعتمد عليها في محاججته غير “التجربة العراقية”. ماذا “تعلّم” منها؟ اولا، انه “لا بُد في تغيير المجتمع من الذهاب إلى ما هو أبعد من تغيير الحكّام، وأعني تغيير الأسس الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية”. ننقل هذا “الدرس” حرفيا، لأنه مثل العاب السيرك، لا تفهم إلى أين طارت الكرة ولا أين اختفى الأرنب. هو درس، في أفضل الاحوال، عن الطريقة التي تصبح فيها اللغة أداة تمويه ومادة تلاعب. لكن معنى “الدرس” الاول لا يكتمل الا بما يليه “الدرس” الثاني: “دونَ ذلك”، أي دون “تغيير المجتمع” ماذا يحصل؟ “ستتحول المشروعات السياسية في البلدان العربية، من مشروعات لبناء المجتمع والدولة، إلى مشروعات تُستعاد فيها القبائل وانتماءاتها، والمذاهبُ الدينية وتناقضاتُها”.

وبما ان “المذهب” المدني هو الذي صنع “فكرة” شاعرنا الكبير، فهو يشترط على الثورة القائمة في بلاده ان “تقيم القطيعة الكاملة، نظراً وممارسة، مع منطق الحِلف الظاهر الفعّال بين الدين والسياسة، (وبينهما المال)، الثاني هو ضرورة التوكيد، جهراً، على بناء المجتمع العربي المدني، والدولة المدنية”. اذ يطلق شاعرنا الكبير رصاصة الرحمة، أو هكذا يعتقدها، على الثورة المندلعة في بلاده، يقول: كلّ “معارضة” أو كلّ “ثورة” لا تَجْهر بضرورة قيام الدولة المدنية، والمجتمع المدني، والثقافة المدنية، لن تكون إلا شكلاً آخر لما “تعارضه” أو “تثور” عليه، ولن تكون إلا استمراراً في “مستنقع الفساد”. ثم ينهي “درسه” العراقي بوصفته الخاصة في تغيير الانظمة: “هكذا، يجب أن يتم تغيير الأنظمة الراهنة في ترابطٍ عضوي مع التغيير، مدنياً، على نحو جذريّ وشامل. دون ذلك نخاطر في ألاّ يكونَ تغيير الأنظمة إلاّ نوعاً من التغيير “المَسْرَحيّ” – الشَّكليّ””.

من السهولة بمكان الردّ على شاعرنا الكبير بأن المثل العراقي لا يصحّ على هذه الثورات. نهاية الديكتاتور العراقي تمت على يد الاميركيين. فيما نهاية الأنظمة الراهنة يصنعها الشعب، بيديه العاريتين. ومن الأسهل الكشف عن تشابه إلصاقه صفة “الفتنة” للثورة كما يلصقها الديكتاتور… فيما التظاهرات المطاِلبَة بنهايته ترفع الشعارات التي تحضّ على الوحدة وتؤكد عليها عبر المواثيق وتثبّتها في النصوص.

بقية البهلوانات الفكرية، المتجاهلة لمقومات الثورة في بلاد شاعرنا، تبقى هي العصية على الفهم والاستيعاب. في خضم معركة شعبه من اجل حريته، بوجه الرصاص الحيّ، يطالب شاعرنا شعبه بأن يتغير؟! ألم يتّضح له ان الشعب قد تغير لمجرّد انه يعيش حالة شبه روحية، عميقة، من رفض الديكتاتورية والانتفاض لكرامته؟ ألم ينتبه ان هذا الشعب لم يَعُد ذاك الخائف الخانع الخاضع المستسلم لحبه للديكاتور، المؤمن بأن الديكاتورية باقية إلى الأبد، إلى ما بعد الأبد؟ ألم يدخل إلى وعيه أن هذا الشعب الذي بات لا يطيق حاكمه صار شعبا آخر؟ اذا لم تكن هذه الوثبة الثورية غيرت الشعب، فكيف تتغير الشعوب اذن؟

لكن أبعد من الشعب؛ ان التفويت الفكري الذي أصاب شاعرنا، تلك الحالة من إنفلات الحاضر من بين يدين المرء، هذا التفويت هو أعمق من تأجيله لثورة الشعب بحجة ان على الشعب ان يتغير اولا، قبل ان يطالب بتغير حكامه. الامر أبعد من مجرد تعال على مجتمع يريد شاعرنا ان يسير على وصفاته “المدنية” المفخّمة، البائتة والباهتة. قد تكون جاذبية شاعرنا للسلطة واحترامه لأبهتها خلف هذا الدفاع الضمني عن وجودها في وجه شعوب همجية متخلفة لا تعرف معاني “المدنية”. (المشكلة طبعا ليست في مفهوم “المدنية” ذاته، بل في جهوزيته وخشبية لغته، وفي المزايدة به في وجه شعب لم يعد يطيق السجن الذي بنته انظمة تدّعيها، تدّعي “المدنية”).

خلف هذا التعالي، هناك إدراك قاصر. فشاعرنا، بممارسته عادة التفكير ذاتها، لم يعد يدخل إلى عقله، أو انه دخل ولا يود الافصاح عنه، ان هذه الثورة العربية الراهنة لها خصائص واضحة: انها يقظة روحية، فرصة تاريخية، تسللت بغفلة من الزمن في الضمير العربي الواسع الحدود، عالم اللغة العربية الواحدة القادرة على بث مضامين هذه اليقظة وتعميمها. ليس من قبيل الصدف ان لا يلتقط نفس هذه اليقظة “الكبار” من بين مثقفينا. فهم من الضفة الاخرى، وان تسلّلوا أحياناً إلى ضفاف مختلفة، تبييضاً لصفحتهم. فاليقظة جاءت من تحت، من الشعب، فيما هم فوق…. فوق؛ في غيوم الامتيازات والتسويقات والجوائز والتواجد والبروز، الاعلامي خصوصا. لن تطالهم رياح الثورة الا عندما تختم نهاية الديكتاتور. ساعتها، سوف يهرعون إلى الإثبات بأن نجاح الثورة كان من بين توقعاتهم، بدليل تلك المقالات التي تشبه توقعات العرافين متوسطي الموهبة: تصحّ في زمان الثورة وقبلها وبعدها.

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى