صفحات العالم

بعض روايات أهل الشام عن أحزانهم


ابراهيم الأمين

لا يكفي لزائر دمشق أن ينظر إلى حركة الناس في الشارع حتى يفهم صورة ما يجري في سوريا. لكن الأكيد أن مناخ القلق العام تراجع. والغموض الذي يلف أسرار الاحداث، يشرح سبب عدم قدرة أحد على الإدعاء بأنه يمكن القول:خلصت!

لم يكن الشعب السوري يحتاج إلى من يؤكد حاجته إلى إصلاحات واسعة. حتى القيادة السورية تقرّ بذلك. وإن لم تفعل الشيء الذي يلبّي طموحات الناس، فهذا لا يعني أنها لم تكن تعرف ذلك. وبمعزل عن المبررات أو العوائق، تبقى مطالب السوريين مشروعة وملحّة في الحريات العامة والازدهار، وبناء دولة المواطنة ومحاربة الفساد والفقر والتخلف، والعمل على إنتاج مؤسسات تمثل الشارع حقيقة.

فجأة، ظهر التحرك في سوريا. صحيح أن مراكز القرار في العالم كما في الإقليم، لم تتوقع حراكاً خاصاً في سوريا، وهي لم تتوقعه في أمكنة أخرى. لكن القيادة السورية، وحلفاء لها، ظنوا أن الموقف الحاسم في دعم القضية المركزية للعرب، وتوفير كل أشكال الدعم للمقاومة في لبنان وفلسطين والعراق، سيوفر حصانة تمنع حصول هذه التحركات. وغاب عن ذهن هؤلاء البعد الداخلي لأي حراك شعبي، وهو البعد الذي ينظر إلى المشكلات التي تواجه الإجماع الأهلي على الدولة والسلطة… فكان ما كان، إذ اندلعت احتجاجات ذات منشأ مطلبي محدود، أو اجتماعي له شكل ردّ الفعل، وسرعان ما تحولت إلى حراك له عناوينه السياسية إضافة إلى المطلبية. وردّت السلطات في سوريا بأساليب أدّت إلى ارتكاب أخطاء كثيرة، راح ضحيتها المئات من المدنيين.

حتى اللحظة، ليس في دمشق من يقدر على تقديم صورة شاملة عمّا يجري. في جانب السلطة، يتقدم حديث المؤامرة على حديث المواجهة مع حركة مطلبية. هناك أقطاب يرفضون وجود حركة مطلبية، لكن الغالبية النافذة في الدولة وأجهزتها يتحدثون بطريقة أكثر واقعية من أي وقت مضى. وينقل زوار دمشق عن بعض هؤلاء قولهم إن «في سوريا فئات كبيرة لديها مطالب واضحة، مشروعة بمعظمها. وفي مركز القرار من يتفهّم هذه المطالب، ومن يعرف أن حوله من يجب أن يكون بعيداً عن مركز القرار كجزء من هذه الإصلاحات. لكن الأمر لا يمكن رؤيته من هذه الزاوية فقط، لأن في ذلك ما يعطي صورة ناقصة، وناقصة كثيراً». ويضيف هؤلاء: «صحيح أنه حتى اللحظة لم يحصل أن شارك أشخاص من خارج سوريا في الاحتجاجات، لكن هناك جهات موجودة داخل سوريا، ومؤلفة من مواطنين سوريين، يبدو أنهم عملوا جيداً خلال العقد الأخير على تنظيم صفوفهم في أطر تتخذ الطابع الأمني وتستند إلى عقيدة متطرفة، تكفّر الآخر، وتريد إطاحة النظام لبناء نظام جديد وفق أفكارها. لكن هذه المجموعات ليست ذات انتشار شعبي كبير، وهي موجودة في مناطق معينة، وخصوصاً في المناطق القريبة من الحدود الخارجية للبلد، وهي تضم في صفوفها أشخاصاً شاركوا في أعمال عسكرية خارج سوريا، وخاصة في العراق، وأظهرت التطورات أن هذه المجموعات ليست متروكة من دون رعاية خارجية. والتحقيقات الجارية مع أفراد منها، تشير إلى أنهم على اتصال بعناصر قيادية موجودة في دول عربية وغربية، ومعظم هؤلاء من السوريين أيضاً، لكن هناك اتصالات واضحة تجري مع جهات وأشخاص من غير التابعية السورية».

وبحسب الرواية الرسمية التي سمعها الزوار، «عملت هذه المجموعات بنجاح على الدخول في قلب حركة الاحتجاجات، وخصوصاً في المناطق الموجودة أصلاً فيها، وهي عملت بقوة على اعتماد خطاب طائفي ومذهبي وتعبوي ضد النظام ورموزه، مع إنفاق كمية كبيرة من الأموال لتجنيد مواطنين، إما للمشاركة في تظاهرات أو في أعمال تخريب. وقد بدا واضحاً من طريقة عمل هؤلاء ومن التحقيقات مع موقوفين منهم، أنه كان مطلوباً منهم العمل بسرعة كبيرة على الإمساك بحركة الشارع، وعلى جعل العالم كله يُشغل بصورة المواجهات الدموية، وهذا ما برر لهؤلاء ــــ بحسب معتقدهم ــــ القيام بعمليات قتل. وهم ركّزوا على القوات العسكرية والأمنية اعتقاداً منهم أن ذلك يشجّع الناس على المشاركة أكثر في التحرك، أو بقصد استدراج السلطة إلى ردود فعل انتقامية تؤدي عملياً إلى توسيع دائرة المواجهات».

لكنّ هؤلاء المسؤولين يلفتون إلى «أنه في المقابل، هناك مجموعات سورية من جهات سياسية أخرى، بينهم شيوعيون وناشطون في أوساط أدبية وثقافية واجتماعية، وكذلك أعضاء في أحزاب ذات طابع قومي أو اشتراكي، وهؤلاء يشاركون بنشاط في تحركات كثيرة. لكن هؤلاء لا يملكون القدرات على تعبئة شعبية كبيرة، حتى وإن لجأ بعضهم إلى المساجد يوم الجمعة، وهذا ما يفسّر عدم حصول تجمعات ضخمة منذ اندلاع الاحتجاجات، وبعض قادة هذه المجموعات يتحدثون صراحة عن مطالبهم في إصلاحات واسعة، ويعرضون أفكارهم ويرون أن من حقهم التظاهر لفرض مطالبهم».

وبحسب الرواية نفسها، فإن «الجديد هو بدء تكوّن اقتناع لدى هذه المجموعات بأن هناك من يعمل على استغلال التحركات المطلبية بغية قيادة البلد نحو الانهيار، وأنهم سارعوا مراراً إلى محاولة التمايز من خلال تنظيم مسيرات لم تنته إلى مواجهات مع مؤيدين للنظام ولا مع قوات الأمن. وإن الحوارات التي جرت بين مسؤولين في الدولة وقياديين في هذه المجموعات ساعدت على عرض صورة أكثر واقعية، ما دفع ببعضهم إلى إعلان وقف المشاركة في الاحتجاجات وإفساح المجال أمام الحوار القائم للتوصل إلى نتائج عملية للإصلاحات».

وفي رأي أصحاب الرواية الرسمية، فإن «هذا الموقف انعكس تراجعاً في زخم التحركات في مناطق عدة، وخصوصاً في دمشق ومحيطها، وإن محاصرة السلطات للمجموعات المسلحة في مناطق عدة واعتقال شبكات كبيرة وتفكيكها، يساعدان على توقع انحسار المواجهات، وقد يفسحان في المجال أمام اختبار أوّلي لقانون التظاهر الجديد».

على صعيد المواقف الخارجية، يلفت الرسميون إلى «أن جميع المواقف والبيانات والاتصالات والتحركات، وطريقة عمل الإعلام العربي والغربي، تدل على وجود تفاهم سياسي ــــ إعلامي على إنهاك النظام في سوريا ودفعه إلى مواقع جديدة. وإن سوريا تراقب الأمر وهي قررت مجموعة أمور في هذا الصدد:

أولاً: إن سوريا لن توافق مطلقاً، تحت أي ظرف، على بحث ما يجري في سوريا مع أي جهة خارجية، عربية كانت أو أجنبية، وإن جميع الموفدين أو الوسطاء يدركون ذلك الآن.

ثانياً: إن سوريا تدرس مواقف كل جهة على حدة، وهي في حالة غضب إزاء ما قام به البعض الذي يعدّ حتى الأمس حليفاً لها، من تركيا التي استُدعي سفيرها في سوريا أمس إلى وزارة الخارجية وأُبلغ رسالة احتجاج قاسية على تصريحات قادتها، إلى فرنسا التي يبدو أن صراعاً خفياً يدور داخل أروقة القرار فيها حول طريقة التعامل مع سوريا، إلى الولايات المتحدة التي يعرف سفيرها في دمشق حقيقة الوضع، ومع ذلك حاولت السير بالأمور نحو مشهد ليبي آخر، وعندما شعرت بأن الفشل هو الذي حصدته، أرادت أخذ مسافة، مروراً بالدول العربية التي ترفض سوريا الإشارة إليها مباشرة، وإن كان الكلام القاسي عنها أكبر مما يتوقع المراقبون من الخارج.

ماذا عن المعارضين؟

في الجانب الآخر من المشهد السوري، ثمة صعوبة في الحصول على رواية واحدة، وحتى على تقويم موحّد لما يجري، ولما تقوم به السلطات. لكن يجب القول إن هناك صعوبة في الوصول إلى جميع المعنيين أو الأبرز منهم. فالجماعات السلفية المسلحة تعمل تحت الأرض. وثمة إجماع ــــ يبدو أنه العنصر المشترك بين المعارضة والنظام ــــ على وجود هذه الجماعات، وإن اختلف المعارضون مع النظام على تقدير حجمها وقوتها. لكن «الإحباط» يبدو حاضراً في المناخ الإجمالي للمعارضين، وهم يعتقدون أن «عمليات القتل التي نفذتها عصابات تركت انعكاسات سلبية على حركة الاحتجاج بمجملها»، ويرى بعض هؤلاء أن الرأي العام السوري «يقف الآن عند مفترق خطير»، إذ إن «اندلاع حرب أهلية بات خطراً حقيقياً، وإن التدخل الخارجي قائم، وثمة خشية من تطوره إلى ما هو مرفوض من كل السوريين، وإن منطق الإصلاحات صار أمراً واقعاً مهما كابر النظام، وإنه لا يمكن أحداً العودة بالأمور إلى الوراء، ولكن هناك خشية من بقاء الأدوات المسبّبة للانهيار في مواقعها لكي تتولى هي عملية الإصلاح، لأن في ذلك ما يؤدي إلى الانفجار».

لكن ثمة مناخات وشائعات وأخبار لا يمكن أي طرف، لا داخل السلطة ولا لدى المعارضين، أن يحسمها، وتتعلق بالوقائع الفعلية لما يجري على الأرض، وخصوصاً أن المشهد الإعلامي من سوريا يبدو معقّداً للغاية، والسلطات هناك تعترف بوجود مشكلة كبيرة في أدائها الإعلامي، ولم تتوافر بعد خطة عمل متكاملة. حتى إن وزير الإعلام الجديد عدنان محمود يرى أن الأزمة الحالية دلّت على أن «المواطن السوري أصبح متقدماً على الإعلام المحلي»، وهو أمام مهمة لا فترة سماح فيها، ما دامت ستواجهه طوال الوقت إمبراطوريات إعلامية عملاقة تعلن صراحة أنها تريد إسقاط النظام!

الأخبار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى