صفحات الرأي

بلاد الشام من الطائفية إلى الوطنية: ثورة 1925/ عبد الله حنا

 

ظاهرة الطائفية والعشائرية في المجتمعات العربية راسخة الجذور في الأرض العربية، التي لم تعرف موجات التطور البورجوازي، التي هدّت في أوروبا أركان الإقطاعية ومفرزاتها ومنها الطائفية والعشائرية. وبسبب عدم تجذّر العلاقات الرأسمالية في المجتمعات العربية بقيت ظاهرتا العشائرية والطائفية تسرحان وتمرحان تغذّيهما ينابيع عديدة. ومع ذلك فإنّ نسمات الوطنية الجامعة لفئات الشعب شقت طريقها في خضمّ الظلام الدامس للإقطاعية وبقايا العبودية. هذه النسمات الوطنية انتشرت في الأصقاع العربية في مستهل العشرين ولكنها لم تستطع إشادة بنيان وطني راسخ الجذور. فسرعان ما داهمت البنيان الوطني اليعربي الرياح العاتية حاملة معها العشائرية والطائفية لتصفّي الحساب مع الوحدة الوطنية، التي انتعشت في منتصف القرن العشرين.

المقاطع التالية من هذه الدراسة تُلقي الأضواء على مرحلة حشر وتضْييق الوحدة الوطنية في منتصف القرن العشرين الخناق على الطائفية والعشائرية ردحا من الزمن. أما عودة ما نعيشه اليوم من زوابع العشائرية والطائفية فبحاجة إلى دراسة خاصة.

وإذا وضعنا جانبا أسباب عدم تمكّن المجتمعات العربية من الخلاص من النظامين العبودي والإقطاعي والسير نحو الثورة البورجوازية في أوروبا وما رافقها من فكر حداثي لم نأخذ منه إلا التحديث مهملين الحداثة، فقد يسعفنا مقطع شعر لنزار قباني يلخّص مأساة تخلّفنا الحضاري بالآتي: لقد لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية.

***

بأسى عميق يتناول كاتب هذه الأسطر، لأول مرة، الوضع الطائفي على حقيقته مجردا من الأغطية التي تغلفه. فنحن جيل منتصف القرن العشرين، الذين رضعنا لبان أفكار النهضة العربية ومنطلقاتها، لم تكن المسألة الطائفية تخطر على أذهاننا. وكنا نعتقد أن العصر “العثملي” القائم على الولاءات الطائفية والعشائرية قد ولّى زمانه. وإذا بذلك العصر مع تراجع النهضة العربية يطلّ من جديد متجاوزا الولاءات الوطنية وسُنن الدولة الحديثة ليعيدنا القهقرى إلى الوراء… إلى عهود الاجتياح المغولي التتري والسلجوقي…

***

(1) حملة إسماعيل الأطرش الطائفية في حزيران/ يونيو 1860 من جبل حوران إلى جبل لبنان

مع احتدام المعارك عام 1859 في جبل لبنان بين الموارنة والدروز أرسل سعيد جنبلاط، زعيم دروز الشوف، إلى زعيم دروز حوران إسماعيل الأطرش يطلب النجدة. وأحرق الكتاب من أطرافه الأربعة إشارة للخطر الشديد. ووجد إسماعيل في هذه الدعوة فرصة لا تفوّت. فتوجه بقواته المؤلفة من الفلاحين الدروز والبدو المتحالفين معهم عابرا سهل حوران باتجاه وادي التيم قاصدا حاصبيا وعدد سكانها حوالي ستة آلاف معظمهم من الروم الأرثوذكس. وسبقت الحملة توترات اجتماعية نزح على أثرها مسيحيو القرى المجاورة إلى حاصبيا، التي دخلها الدروز عنوة في 20 أيار/ مايو 1860 وقتلوا من وصلت إليه أيديهم من المحاصَرين. وبعد أيام من سقوط حاصبيا وصل إسماعيل الأطرش، الذي عبر مع حملته هضاب جبل الشيخ، في 11 حزيران/ يونيو، إلى راشيا في الوقت الذي كان فيه جمهور كبير من الدروز يحاصرون القلعة ومن يحتمي داخلها من المسيحيين وعدد من الشهابيين. وسرعان ما اقتحم إسماعيل الأطرش ورجاله القلعة واستولوا عليها وارتكبوا مذبحة شبيهة بمذبحة حاصبيا. 1

 

وبعدها انطلق دروز وادي التيم وحوران بقيادة إسماعيل الأطرش إلى البقاع لمحاصرة زحلة وفتحها. وبعد أن أنزلوا الخراب بعدد من قرى المسيحيين وشاركهم بعض أبناء العشائر من السنة والشيعة تمكنوا بعد صراع مرير وبفضل الخديعة من دخول زحلة ونهبها وقتل من وصلت إليه أيديهم. 2

(2) أصداء حملة إسماعيل الأطرش في دمشق

1 – رواية الشيخ محمد سعيد الأسطواني 3

“وفي هذه الأيام جاءت الأخبار بأن دروز حوران مع المشايخ والعربان وغيرهم جردوا لطرف الجبل، حتى في مجيئهم تحسّبت النصارى التي في عين الشعرة وبيت تيما وقلعة جندل وتلك الناحية. فالبعض نزلوا إلى الشام وأهالي عين الشعرة نزلوا في كناكر. فمرّ عليهم الشيخ إسماعيل الأطرش ومن معه من وجوه الدروز فقتلوا في كناكر نحو 120 نصرانيا وخربوا في كناكر وأخذوا سلاحا وخيلا ورحلوا. وتخربطت القرايا من جبل حوران إلى جبل كسروان وصار السلب والنهب لأن أغلب القرايا مخلطة دروز ونصارى وفي البعض إسلام”.

2 – ما ورد في كتاب حسر اللثام عن نكبات الشام لمؤلف مجهول (مسيحي) 4، وجاء فيه: “ازداد التوتر في دمشق بعد سقوط حاصبيا وراشيا ووصول لاجئيها المسيحيين إلى دمشق، فدبّ الذعر في قلوب المسيحيين وتشجع الجهلة من المسلمين. وعندما سقطت زحلة في يد إسماعيل الأطرش في 18 حزيران/ يونيو 1860 عبّرت الرجعية عن سرورها بإقامة الزينة في دمشق ابتهاجا مُهيّئة الأجواء للهجوم على الحي المسيحي”. ويمضي المؤرخ المسيحي المعاصر للأحداث قائلا: “إنّ بعض الوجهاء وأرباب الفضل من المسلمين لم يرق لهم هذا الصنيع فأطفأوا الأنوار وداروا على الناس يحرضونهم على التعقل والسكينة فلم تُجْدِ مساعيهم المحمودة نفعا، لأن الحكومة والأشقياء كانوا أقوى منهم”.

3 – رواية محمد أبو سعود الحسيبي: حادثة دمشق 1260 5

كتب الحسيبي: “تساءل أهل العقل عن سبب عدم اهتمام الحكومة بقمع الفوضى”. وحسب رواية الحسيبي أن والده وهو نقيب الأشراف “طفا القناديل في القناوات وعيّط على شيخ الحارة وضربو”. وكذلك فعل محمود أفندي حمزة  6.

وكان واضحا من روايتي الحسيبي والأسطواني أن الفئات المسلمة المسالمة لم تكن راضية عن الفوضى ودخول الأغراب إلى دمشق. 7

(3) شتّان ما بين حملة طائفية لإسماعيل الأطرش

وحملة وطنية يعربية لزيد الأطرش في 1925

الفروق شاسعة ما بين الحملة الطائفية الدموية التي قادها عام 1860 إسماعيل الأطرش من جبل حوران (جبل الدروز ومن ثمّ جبل العرب والآن محافظة السويداء) إلى إقليم البلان وجبل لبنان، وبين الحملة الوطنية اليعربية ذات الأبعاد الإنسانية التي قادها عام 1925 زيد الأطرش (شقيق سلطان باشا) إلى إقليم البلان داعيا إلى الوحدة الوطنية والثورة على الاستعمار.8

بعد أن اندلعت الثورة السورية الكبرى عام 1925 في جبل الدروز، سرعان ما انضمت إليها فئات وازنة من فلاحي الغوطة والقلمون، وتحولت ثورة عامة لمعظم أنحاء سورية الجنوبية بعد تعاطف وتأييد قوى اجتماعية للثورة في دمشق وفي مقدمتها مثقفون نهضويون وعلى رأسهم عبد الرحمن الشهبندر. كما آزرها بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس غريغوريوس حداد، الذي أطلق عليه الثوار لقب “محمد غريغوريوس”.

في خريف 1925 توجهت حملة من الثوار الدروز بقيادة زيد الأطرش من جبل العرب (واسمه التاريخي جبل حوران) باتجاه إقليم البلان في جنوب لبنان، وحلّ رجال الحملة ضيوفا عند أقربائهم في القرى الدرزية.

كانت الحملة تحمل على منكبيها هموم الوطن المتطلع إلى الاستقلال والتحرر من الاحتلال الاستعماري. حملة وطنية كان مفكروها من النهضويين العرب يتطلعون إلى الخلاص من عبء التراث المملوكي السلطاني الجاثم فوق الصدور ويهفون بأبصارهم إلى بناء دولة وطنية يعربية في أرجاء بلاد الشام (والعراق). ولكن هذه الحملة المستندة إلى الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار ذات الأهداف السامية حملت بين طياتها بذور ضعفها.

وقد تمثلت مكامن الضعف في النقاط التالية:

– يرأس الحملة شاب يافع اختير لأنه شقيق زعيم الثورة ورمزها سلطان باشا ومن عائلة الأطرش أقوى شيوخ جبل الدروز.

– اقتصرت الحملة على ثوار دروز استقبلهم دروز إقليم البلان. ومع أنهم يسيرون تحت لواء الثورة الوطنية وعلمها “الدين لله والوطن للجميع” إلا أنّ القوى الطائفية في المنطقة نظرت إلى الحملة من منظار مختلف. فالمسيحيون وفي مقدمتهم الموارنة لم ينسوا حملة إسماعيل الأطرش عام 1860 وما رافقها من مذابح طاولت المسيحيين. ولهذا سرعان ما امتشق كثيرون منهم الحسام لمقاومة الحملة الوطنية ظانين أنها امتداد للحملة الطائفية لعام 1860. ولم يكن بإمكان البيان الوطني، الذي سننشره بعد قليل، طمأنة نفوس أكثرية المسيحيين المكتوي أجدادهم بنار الاستبداد السلطاني، والذين كانوا يرون في فرنسا طوق النجاة من ظلم العصور الخوالي. وباءت بالفشل الجهود الصادقة لقادة الحملة في طمأنة المسيحيين، الذين تغذيهم قوى الانتداب الفرنسي بالسلاح والدعم المعنوي. والشيعة والسنة في المنطقة نظروا بعين الريبة أو اللامبالاة إلى حملة عمادُها الدروز، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الروح الوطنية الجامعة لم تكن قد تغلغلت في صفوفهم. ومن هنا يمكن فهم البيان الوطني الثاني الصادر باسم زيد الأطرش (سيرد نصه الحرفي لاحقا).

وهكذا لم تستطع الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار والاحتلال الانتدابي الفرنسي التغلّب على الولاءات الطائفية، ولم تحقق حملة زيد الأطرش أهدافها الوطنية.

الحملة الوطنية بقيادة زيد الأطرش المتسمة بالانضباط وتأثير مثقفي النهضة العربية على مسارها، صدر عنهما بيانان باسم قائد الحملة زيد الأطرش يعكسان بداية صعود المشاعر الوطنية والدور التاريخي لقادة الحركة الوطنية السورية (اليعربية) في تجاوز المسألة الطائفية وتوحيد البلاد على أرضية وطنية ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. إنهما بيانان يضعان حدا فاصلا بين الحملات الطائفية والحملات الوطنية.

(4) بيانا زيد الأطرش: نقلة نوعية من الطائفية إلى الوطنية

(البيان الأول) 9

إلى اللبنانيين الكرام

منشور القيادة العامة للثورة

الدين لله والوطن للجميع

أيها الإخوان

لا شك في أنكم تعلمون الأسباب الوجيهة التي أكرهت سكان سورية الداخلية على القيام في وجه السلطة الاستعمارية الفرنسوية. وإنكم فوق هذا تعلمون أن هذه الثورة التي بدأت في جبل الدروز قد عمّت الآن بلاد سورية الداخلية. والثورة الآن هي ليست درزية محلية، بل هي سورية وطنية يشترك فيها جميع أبناء سورية على اختلاف مذاهبهم، وهي تقصد إلى أغراض وطنية بحتة لا شأن فيها للفوارق والنزعات الدينية.

ولقد كنا أذَعْنا عدة بيانات في البلاد الداخلية أوضحنا فيها المبادئ التي تستند إليها الثورة والأغراض التي ترمي اليها. فأدرك القسم الأول من إخواننا مسيحيي البلاد حقيقته، ولم يتأخروا عن الإشتراك فيها، تلبية لدواعي القومية والوطنية.

على أن الحكومة الفرنسوية كرهت أن يعلم العالم الخارجي أن في سورية روحا وطنية، وشعورا صحيحا بالإخاء الوطني، فعمدت إلى أتباعها من المغرورين المخدوعين، فزيّنت لهم أن يقفوا في جانبها ضد الحركة الوطنية مستثمرة الفروق المذهبية. ولقد بلغ من سوء نيتها أن سلّحت فريقا من أبناء البلاد وجرّدت الفريق الآخر لتوهم العالم أن هناك خطرا على الأقليات… ولا يخفى أن الغرض الرئيسي من هذه السياسة الفاسدة هو تحويل الثورة من صبغتها الوطنية إلى حرب ذات صبغة دينية شنيعة الحال والنتيجة… 10 وحصل ما حصل مما كان له الوقع السيئ في نفوسنا…

فعمدت الحكومة إلى خلق جيش من الأهالي والتجمع في جديدة مرجعيون لمقاومة الحركة الوطنية الاستقلالية وذلك بحجة الدفاع عن حدود لبنان. فانخدع لها بعض أبناء الوطن من سكان لبنان وأسرعوا إلى حمل السلاح.

وفي ليلة 15 تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 1925 هاجم فريق منهم قرية برغز فوقع منهم بيد حاميتها ستة عشر رجلا أسرى، وقد أطلق قائد الحامية سراح الأسرى بعد أن أفهمهم خطأهم وأوضح لهم أن الثورة هي ثورة وطنية نزيهة عن النعرات الطائفية… وحصل سوء تفاهم بين رجال الثورة وإخوانهم موارنة جبل لبنان في زمن استقبلنا فيه عهدا جديدا هو عهد القومية والوطنية الشاملة. وأصبح من الجناية على هذا الوطن المعذب أن يقوم بين أبنائه فريق يزيد من مصائبه بسعيه لتثبيت أقدام الأجانب فيه.

إننا نخاطب منكم جماعة المتنورين ونناشدهم أن يذكروا ما عليهم من الواجب تجاه الوطن والتاريخ ونطلب منهم أن يشتركوا معنا في السعي للقضاء على روح التفرقة التي تود الحكومة المنتدبة أن تخلقها وتنميها لتستغلها لمصلحتها الاستعمارية.

باسم القائد العام للجيوش الوطنية السورية زيد الأطرش

(البيان الثاني)  11

القيادة العامة للثورة الوطنية السورية

الدين لله والوطن للجميع

إلى وجوه وأعيان الدروز والسنيين والشيعيين في جبل لبنان

أيها الإخوان السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

وبعد، فقد بلغنا أن الحكومة الإفرنسية تجردكم من سلاحكم وتسلّح إخوانكم أبناء الطوائف الأخرى بحجة الخطر على سلامتهم، على زعمها، عن الثورة السورية الوطنية. على أننا نعلم نحن، كما تعلم الحكومة نفسها، أن لا داعي لهذا السلوك الغريب الذي لم يسبق له مثيل في هذا العصر في أي بلاد من بلاد الله. ذلك لأن أبناء البلاد الذين تربطهم الروابط القومية وتشد بعضهم إلى بعض المصالح الوطنية ليسوا في حاجة إلى هذه التدابير الضارة، وهم في خير وسلام.

وقد بات من الجلي الواضح أن الحكومة المستعمِرة تريد أن تخدع العالم الخارجي وإقناعه أن الثورة الوطنية ذات صبغة دينية، وذلك لكي يقر في أذهان الأمم المتمدنة أن انتدابها على سورية هو أمر ضروري لسلامة الأقليات وصيانة حقوقها. ولذلك من الفروض الواجبة على كل من في قلبه إخلاص لوطنه وحب للحرية أن يبذل أقصى مجهود ليكذب هذه المزاعم، ويثبت لهذه الحكومة أنه غير راض عن سياستها. ولقد أسرعنا بالكتابة إليكم لعلمنا أن تجريدكم من السلاح  وتوزيعه على إخوانكم الآخرين، قد يوقظ في نفوسكم شعورا غير صالح تجاههم ويحملكم على النفور منهم بالريبة بهم. وبالتالي قد ينشأ عن هذه الحالة حوادث تضر بالوطن وتؤذي القضية الشريفة والأغراض الي يسعى إليها رجال الثورة الوطنية. ولا يخفى أن هذه النتيجة هي الغرض الذي تقصد إليه سياسة الحكومة، لأنه يساعد على رسوخ قدمها في البلاد ويمكنها من الثبات في ربوع الوطن، إذ يسقط بين يديها فريسة منهوكة القوى بسبب التطاحن الداخلي. ولقد كتبنا بيانا عاما للبنانيين الكرام أوضحنا فيه أننا لا نريد في حركتنا الحاضرة إلا سورية الداخلية، فلا محل إذا لقلق أحد على مسألة الحدود. وأمطنا فيه اللثام عن سوء نية الحكومة  بسيرها في هذه السياسة الفاسدة وأوضحنا الأغراض الحقيقية إلى تحقيقها بواسطة الثورة السورية. وإننا لعلى ثقة أن الذين كانوا يجهلون الحقيقة من اللبنانيين ممن حملتهم سياسة الحكومة على مقاومة الحركة الوطنية، قد أخذوا الآن يدركون أن مساعدتهم للحكومة هي جناية على الوطن وخيانة لقضية الحرية، تعافها الشهامة وينبو عنها الشرف.

وقد استدعت الحال أن نخصكم بهذه الرسالة على كره منا لأننا لا نريد أن نخاطب فريقا من أبناء الوطن بصفته الطائفية، وذلك لكي نحذركم من سياسة الحكومة ونوصيكم بأن تكونوا صبورين، ونحثكم على التقرب من إخوانكم وبني جلدتكم ووطنكم من أبناء الطوائف الأخرى، ونرجوكم أن تزيلوا بحسن سلوككم وصبركم كل سوء تفاهم بينكم، وأن تتفقوا جميعا على الذين يسعون لتكدير العلاقات الودية من الجهلة والسفهاء الذين لا يدركون ما يصنعون فتضربوهم بيد من حديد. إننا لنرجو أن تكونوا أنتم وجميع أبناء وطنكم الآخرين عند حسن ظننا بكم من الحصافة والتعقل والوطنية الصادقة. والسلام عليكم.

22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1925

باسم قائد الجيوش الوطنية العام زيد الأطرش

(5) رأي المثقف النهضوي أسعد الأسطواني (الدمشقي السني) في الأحداث الطائفية لعام 1860

كما رأينا، دوّنت أحداث دمشق عام 1860 شخصيتان دينيتان مسلمتان سنيتان لهما وزنهما في المجتمع الدمشقي آنذاك، وجرى نشر مخطوطهما بعد مرور أكثر من قرن على الأحداث. والمخطوطان يقدمان شهادة عيانية تنطلق من وجهة نظرهما وكيفية فهمهما للأحداث.

المخطوط الأول للحسيبي، والثاني لمحمد سعيد الأسطواني.

وقام  د. أسعد الأسطواني بتحقيق ونشر المخطوط.

وقد وضع الأسطواني الحفيد مقدمة طويلة للمخطوط، ما يعنينا منها رأيه في أحداث 1860. وتنبع أهمية رأي الأسطواني الحفيد من أنه يصدر عن شخصية دمشقية مسلمة تبنّت منطلقات النهضة العربية، واستندت عليها لتحليل الأحداث وعرضها بأسلوب يعكس الجو التنويري السائد لدى مثقفي النهضة العربية ورؤيتهم للأحداث من منظار المساواة في المواطنة بعيدا عن التمييز الديني السائد أيام الأحداث. 12

وسننقل فيما يلي مقاطع من مقدمة الأسطواني الحفيد:

1 – يطرح الأسطواني الحفيد جُملة أسئلة حول المسؤولية عن أحداث 1860 ومنها: “… من هو المسؤول.. من كان وراء الوالي وعسكره؟ هل هم معارضو الإصلاحات في استنبول؟ هل وجد أعيان دمشق في الوالي ضالتهم؟..” 13

ويتساءل الأسطواني الحفيد: “هل كان لأعيان دمشق الذين عارضوا الإصلاحات دور في إثارة الفتنة؟”. ويميل الأسطواني الذي يتقن الفرنسية إلى نفي ذلك. وينقل عن تقرير لمساعد القنصل الفرنسي لانوس Lanusse أن أحمد باشا قد أخذ تعليماته “من الزعماء المتطرفين المعارضين للإصلاحات في استنبول والذين كانوا يتهمون السلطان عبد المجيد بمسايرة الأجانب”.14

2 – من الأسباب الاقتصادية  للفتنة في رأي الأسطواني الحفيد: “منافسة البضائع الأجنبية… وراحت الدول الأوروبية تغدق الوكالات التجارية على المحميين من الطوائف غير الإسلامية من خلال قنصلياتها، حتى أن عددا كبيرا من المسيحيين جنوا ثروات طائلة خلال العشرين سنة التي سبقت عام 1860…”.15

و”كان استيراد المنسوجات الأوروبية عن طريق هؤلاء الوكلاء سببا في تصفية القسم الأكبر من الحرف النسيجية المحلية، فهبط عدد الأنوال القطنية من 4000 نول في أواخر ثلاثينات القرن التاسع عشر إلى 1666 نولا في أواخر الخمسينات ليصل العدد إلى 853 نولا عام 1860. وهكذا ازداد الفقر والإفلاس بين الحرفيين المسلمين فتهيأت الفرص أمام العاطلين عن العمل للتمرد والثورة..”. 16

و”رافق ذلك انهيار المؤسسات الحرفية والاجتماعية فنشبت من جراء هذا أزمة حادة ذات جوانب وجذور اقتصادية واجتماعية ودينية انفجرت في شهر تموز/ يوليو من صيف 1860″. 17

–  دور المشاعر الدينية في اندلاع الأحداث كما يراها الأسطواني الحفيد: “… وكانت المشاعر الدينية ولا تزال عرضة للاستغلال الرخيص في الأزمات. وقد عانى المسيحيون في ظل الدولة العثمانية من افتئات واضح على أبسط حقوقهم الإنسانية، مما يتعارض بشكل أساسي مع روح الإسلام. فلم يكن باستطاعتهم ركوب الخيل كما لم تكن شهادتهم مقبولة أمام المحاكم، كما ألزموا بلباس خاص، مما سبب حقدا دفينا في أوساطهم. وقد انفجرت عواطفهم المكبوتة عندما استقبل المسيحيون إبراهيم باشا في حزيران/ يونيو 1832 بمظاهرات اتسمت بطابع الابتهاج والتحدي…”…. “وقد عمّ الاستياء بين المسلمين عندما منح إبراهيم باشا المسيحيين حرياتهم المشروعة وفي مقدمتها إلغاء القيود على أزيائهم المميزة ومشاركتهم في مجلس الشورى حيث التقت جميع الطوائف. وإصلاحات 1856 تضمنت المساواة في الحقوق والواجبات بين الطوائف المختلفة فأثار ذلك مشاعر الاستياء بين الأهالي”. “… من تعرض للاعتداء مسيحيو المدينة القديمة فيما لم يصب مسيحيو حي الميدان أي أذى.. انسجم أغوات الميدان مع النظام الجديد وأصبحوا الموردين الأساسيين للقمح داخل بلاد الشام وخارجها وتاجروا بالحبوب مع أوروبا وقاموا بحماية مراكز النسيج في حيّهم وتقاسموا مع المسيحيين مختلف أشكال النشاطات الزراعية والتجارية والحرفية… أغوات الميدان ضبطوا الأمن في حيهم، وسارعوا لنجدة المسيحيين في المدينة القديمة بعد فوات الأوان”. 18

هوامش:

[1] العطار… ص210 وصليبي… ص136

2 العطار… ص213. وصليبي… ص 138.

3 مخطوط الشيخ محمد سعيد الأسطواني قاضي الديار الشامية صدر في دمشق مطبوعا عام 1994 تحت عنوان: مشاهد وأحداث دمشقية في منتصف القرن التاسع عشر 1840 – 1861. وقام حفيد محمد سعيد الأسطواني د. أسعد الأسطواني بتحقيق ونشر المخطوط. دمشق 1994، ص 120.

4 حسر اللثام عن نكبات الشام لمؤلف مجهول، مصر 1895 ص 38.

5 مخطوط الحسيبي موجود في المكتبة الظاهرية بدمشق تحت رقم 4668. نشر المخطوط كمال صليبي في مجلة الأبحاث في العددين 21 و 22  من عام 1968. كما جرى نشره لاحقا في كتاب بدمشق…

6 المصدر نفسه ص 7. ولدينا النص الكامل لخطاب محمود أفندي حمزة المعروف بالحمزاوي في الجامع الأموي. وقد وقف الحمزاوي بجرأة في وجه العاصفة وألقى بعد الأحداث خطبة في جامع بني أمية دان فيها الاعتداء على أهل الذمة. كما أشاد قنصل بروسيا بموقف الحمزاوي. مصدر سابق.

7 عبد الله حنا: “تحركات العامة الدمشقية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر”. دار ابن خلدون، بيروت 1985. الفصل الثالث، فتنة 1860 والثورة المضادة.

8 أثناء التحضير لكتابي عامية جبل حوران زرت في القريا زيد الأطرش للاستعانة بمعلوماته وما سمعه من المسنين قبله. وأردت أن أعرف منه من كتب البيان الموقع باسم زيد الأطرش على أساس أنه كان في ذلك الحين شابا غضا والبيان على مستوى رفيع من النضج الوطني فأجاب “نحن أميين لا نقرأ ولا نكتب” رافضا بهذا الجواب التهرب من الإجابة على السؤال. فاضطررت إلى الصمت. وفي تقديري أن أحد رجال العربية الفتاة أو نزيه مؤيد العظم هو الذي كتب البيان الوطني الموقع من زيد.

9 المصدر “صفحات من حياة نزيه مؤيد العظم”. المراجعة والتدقيق دعد حكيم. منشورات وزارة الثقافة، دمشق 2006. ص 86. وفي تقديرنا أن نزيه المؤيد هو منشئ البيان.

10 عبّر البيان عن أسفه لما جرى في قرية كوكبا من أعمال مرجعيون عندما أطلقت عصابات مسلحة النار على جيش الثورة بقرب كوكبا وأسرع قائد القوة للجيش الوطني إلى التفاهم معهم بنفسه ومعه كاهن حاصبيا فقتلوا الكاهن مع أربعة من الجيش الوطني.

11 المصدر نفسه، ص 89. وثمة بيان ثالث منشور في  “أحداث الثورة السورية الكبرى كما سردها قائدها العام سلطان باشا الأطرش 1925 – 1927”. دار طلاس، دمشق 2007. وتجدر الإشارة إلى أن سلطان أملى مذكراته على صلاح مزهر ويوسف الدبيسي، اللذين نشراها تباعا في إحدى الصحف البيروتية. ويملك كاتب هذه الأسطر نسخة منها في مكتبته بدمشق.

12 ولد أسعد الأسطواني في دمشق عام 1921 من عائلة دمشقية معروفة احتل عدد وافر من أفرادها مناصب هامة في الإدارة العثمانية، وهذا ما مكنهم من تملك الأرض في ريف دمشق. درس أسعد الأسطواني في مدرسة الفرير الفرنسية بدمشق. وهذا ما أهله لإتقان اللغة الفرنسية والإطلاع على الثقافة الأوروبية. بعد نيله شهادة البكالوريا عام 1941، انتسب إلى كلية الطب في الجامعة السورية وتخرج منها عام 1949. وسرعان ما شد الرحال عام 1949 إلى فرنسا لمتابعة دراسته الطبية، وعاد إلى الوطن عام 1952 مختصاً في طب الأطفال، وافتتح عيادة في حي الشهداء بدمشق. انتسب طالب الطب أسعد الأسطواني عام 1941 إلى حركة الإحياء العربي، التي تحولت فيما بعد إلى حركة البعث العربي. وكنا في فصل سابق نقلنا ما سمعناه من الأسطواني عن الحياة السياسية التي عاشها.

13 ص  78 من المقدمة.

14 ص 101 من المقدمة.

15 ص 78 من المقدمة.

16 ص 100 من المقدمة.

17 ص 78 من المقدمة.

18 ص 102 من المقدمة.

ضفة ثالثة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى