صفحات سورية

بلاغة السخرية في الثورة السورية


محمد حيان السمان

   من مفارقات ما يحدث في سوريا منذ أكثر من خمسة أشهر, أنه يجمع في آن معاً بين أقصى وقائع العنف والبطش والتنكيل بأجساد المواطنين المحتجين, وبين منتهى السخرية والتنكيت اللذين يطلقان ضحكاً طويلاً أو ابتسامة مريرة . هما خطابان يشترط أحدهما الآخر و يقارعه : خطاب التخويف والبطش الرهيب لفرض الإذعان والخوف . وخطاب السخرية والإضحاك الطالع من وسط الرعب والدم وآلام شعبٍ يطالب بالحرية.

   إن الطابع السلمي للاحتجاجات جعل من اللجوء للسخرية والضحك في مواجهة العنف العاري خياراً حتمياً, وبعداً أساسياً من أبعاد البلاغة الجديدة للثورة وتعبيراتها الثقافية والفنية. فحجم التنكيل والرعب الهائل في مواجهة احتجاجات سلمية أساساً, استدعى بلاغة مقابلة تعتمد النكتة والاستهزاء, وتتجاوز الخوف من النظام بالضحك عليه.

  لقد شهدت معظم ساحات الاحتجاج في سوريا, ما يشبه المهرجانات الشعبية الاحتفالية, التي تُكرس فعالياتها لعرض مطالب الثورة من جهة, وفضح قوى التسلط والبطش على الملأ من جهة أخرى. كل ذلك يحدث وسط الضحك الجماعي والبهجة العارمة التي تساعد على التطهر من الخوف والإذعان, وتفتح العقل والروح على حتمية التغيير الجذري في سوريا. لقد تم إحياء تقاليد الساحة الشعبية, وما تمتلكه من قيم تعبيرية وجمالية تدين التسلط بشكل تهكمي ارتجالي.

  أنوه هنا بأغنيات إبراهيم القاشوش بساحة العاصي, وما تضمنته من سخرية واستهزاء مترافقين مع ضحك جماعي احتفالي ساهم في زيادة الحشود, وتعميم حالة الإحساس بالحرية وكسر قيود الخوف والإذعان, مما أغضب النظام وحوله إلى وحش شرس أعدم المغني بطريقة فظيعة.

 إن الرغبة بتوثيق هذه الوقائع والإخبار عنها وتداولها على شكل مقاطع فيديو, ساهم في تحويلها  إلى أعمال إبداعية انتشرت على نطاق واسع عبر الانترنت. لقد تم تعميم الساحة الشعبية لتصبح فضاءً للمشاركة بدون حدود أو قيود.

  وإلى جانب الفيديوهات التي توثق ما يحدث واقعياً, هناك الفيديوهات المعَدة ضمن رؤيا إخراجية فنية تدمج الوقائعي بالتمثيلي, وتستفيد من الموسيقى والأغنية وفن الملصق والإعلان والكاريكاتير.. لتصب مجتمعة في خطاب نقد الفساد, وكشف التزييف الإعلامي الرسمي, وتسخيف رموز السلطة لتعريتها من غلالة الهيبة الزائفة ووضعها في مدى القصف الهجائي الساخر. ( أنظر فيديو – حمص جننت النظام – الذي يأتي – كما  يشير مانشيت الفيديو – في سياق – الحرب النفسية الحمصية – حيث قرر أهل حمص أن يسقطوا الرئيس بطريقتهم الخاصة.)..!!

  إضافة إلى الفيديو, يمكن الإشارة إلى  وسيلة أخرى استخدمها خطاب التهكم والتنكيت, وهي صفحات فيسبوك التي أعدها شباب الثورة خصيصاً لدعم ونشر هذا الخطاب.

  لقد أعد الحماصنة صفحة بعنوان : مغسل ومشحم حمص الدولي للدبابات, جعلوا موضوعها الرئيسي يتمحور حول الدبابة كعلامة تحيل إلى المؤسسة العسكرية والجيش الذي شارك بشكل فاعل في عمليات القمع والتنكيل.

  تقدم الصفحة توقيعات شعرية بالعامية غالباً – وبالفصحى أحياناً – مصاغة على نمط أغنيات شائعة, فتجمع بين مفارقات عديدة تصب في استثارة الضحك وفضح آلة البطش والمداهمات المستمرة للمدن والمناطق في سوريا :

 لا تقصفني لا تقصف../ كسّرت السبطانة….كسّرت السبطانة!

صارلي فوق أربع شهور / بالحرية حلمانة..بالحرررررررررررررررية حلمانة!

أو كهذه الأغنية :

   رجب خود دبابتك عني / رجب مدفعك جنني / رجب الصبطانة دوختني / رجب قوص واطربني !

و من الملاحظ أن المقاطع الشعرية الغنائية الساخرة تنتهي غالباً بما يشبه القفلة الجادة والحاسمة بالتأكيد على مطلب الحرية. فأغنية فيروز – ع هدير البوسطة – تنتهي في نسختها المعدلة هنا بغزلٍ حار بعينيّ الحرية عوضاً عن عيني – عليا-.

  وتأتي بعض المساهمات على شكل حوار, حيث يكشف السياق عبر تنويع كلامي ساخر لا يخلو من كوميديا سوداء, عن تناقضات الوعي والسلوك داخل أجهزة القمع والتنكيل. ثمة تنميط لصورة السيد في الميدان, تظهره متسلطاً جلفاً وبدون أي ملمح إنساني, بينما يظهر الأفراد مرتبكين موزعين بين الخوف والطاعة, وبين الرغبة بالتمرد والانضمام إلى الثورة.

  وتتضمن الصفحة تعبيرات عديدة عن تحدي آلة القمع, وتجاوز الخوف من الاستخدام المفرط للقوة العسكرية بحق المدنيين. وفي عدد من التوقيعات الشعرية الغنائية يتم التعبير عن الأرق في غياب صوت القصف والرصاص!!. كما فعل المتظاهرون في دير الزور عندما كانوا ينشدون : يا محلا النوم على صوت الدبابة!! . وتعكس مجمل هذه المواد الفنية الساخرة مقدار الضرر الذي لحق بالمؤسسة العسكرية جراء زج الجيش السوري في هذه الأحداث. لقد بدا واضحاً أنه قد فقد هيبته واحترامه في عيون مواطنيه, وصار مادة للتندر والاستهزاء وإطلاق النكات. يقول إعلان ساخر موجه لمن يرغب بامتلاك دبابة :

  ” بس تظاهر 3 مرات وما عليك , الدبابة بتوصلك ع باب بيتك..مو بس هيك… وبتضرب لك قذيفتين كرمال هالشوارب ” !!

  أفرد خطاب السخرية والتهكم مساحة واسعة أيضاً للإعلام الرسمي وأساليب التضليل التي اتبعها خلال الأحداث, والتناقضات الكثيرة التي شابت عمله, مع تدنٍ واضح في مستوى المهنية في تغطية الوقائع, فضلاً عن خضوعه النهائي للرؤية الإيديولوجية والأمنية للنظام.

  رد خطاب السخرية على مزاعم الإعلام الرسمي بوجود عصابات مسلحة تعتدي على المدنيين, وهي مزاعم هدفت إلى تبرير العنف وعمليات اقتحام المدن. لقد أعدّ شباب الثورة مشاهد تمثيلية نُشرت على الانترنت, يظهر فيها مقاتلون يحملون ثمار الباذنجان ( قنابل يدوية ) والكوسا ( بازو كوسا) والبامية ( رشاش بامية بلدي ) و – بوري مدفأة ( صاروخ شحوار 3 )…الخ…وظهر في هذا السياق ما أطلق عليه شباب الثورة تندراً واستهزاءً مصطلح: سباق التسلح الحمصي الحموي, حيث نقرأ في تعليق على فيديو الأسلحة الكوميدية التي ابتكرها الحمويون, ما يلي:  رداً على أسلحة حمص التكتيكية حماه تطور أسلحة استراتيجية !! ويأتي تعليق على التعليق ليقول: من الصعب وقف سباق التسلح الحمصي الحموي!!

  إن الرؤية الفنية والدلالية لبلاغة السخرية هذه تقوم على الرغبة في فضح التضليل الإعلامي- السياسي الرسمي, بطريقة بصرية وتعبيرية كوميدية ساخرة.

  وبالترافق مع أحداث الشغب والاحتجاج الاجتماعي الأخيرة في بريطانيا, ومحاولة إعلام النظام السوري القول بالتماثل بين الحدثين السوري والبريطاني, في محاولة ساذجة لإسباغ الشرعية على أعمال القمع والتنكيل في سوريا؛ أنشأ شباب الثورة صفحة جديدة على فيسبوك بعنوان : الله.. بريطانيا..إليزابيث وبس. إن بريطانيا ملكة وجيشاً وإعلاماً تُتخذ كقناع لتوجيه النقد الساخر إلى ما يحدث في سوريا, وبخاصة على صعيد التغطية الإعلامية والحل الأمني وتداعياته المؤلمة. ومن خلال استبدالات واستعارات مجازية وتناوب الإحالة من طرف إلى آخر, تنشأ المفارقات الساخرة التي تكشف التزييف الإعلامي الرسمي, والأعمال الإجرامية للنظام .

  إن محاولة تزييف خبر وجود تظاهرة في دمشق, والزعم بأن التجمع الذي شهدته إحدى ساحات العاصمة كان لأجل الابتهاج بسقوط المطر, هي واقعة معروفة, وتكاد تختزل طبيعة الخطاب الإعلامي الرسمي وطريقة تعامله مع الأحداث. تحيل صفحة – الله..بريطانيا.. إليزابيث وبس ..-  إلى هذه الواقعة بأسلوب محاكاتي ساخر وتصوغ الخبر بهذا الشكل:

  تلفزيون الإخبارية البريطانية: لا يوجد مظاهرات وإنما بعض التجمعات من الناس الذين خرجوا من الكنيسة فوجدوا أن الضباب انقشع والشمس سطعت فهتفوا بحمد الله وحب الملكة إليزابيث ثم تفرقوا دون أي اشتباك فيما بينهم..!!

    و تتناول صفحات شباب الثورة على فيسبوك الشخصيات الإعلامية والثقافية والدينية التي روجت لمقولات النظام ودافعت عنها في البرامج الحوارية ونشرات الأخبار. وهنا يتم استخدام طريقة الاستبدال : مذيعة الضباب عوضاً عن مذيعة المطر, أو استثمار الإحالات الدلالية لمفردات انكليزية تتطابق في المعنى مع أسماء بعض  الشخصيات المشار إليها…مثال :

 ” البروفيسور المخضرم الفطحل Student Abraham يصرّح: كل هتاف لا يتضمن حبنا الأبدي لملكتنا هو مؤامرة ودعم لجهات خارجية مغرضة, وقتالهم فرض عين وهو أولى من قتال العدو.

 تعقيب : الله محيي أصلك يا ستيودنت شو إنك نموذج لاحترام الرأي الآخر.. ياريت كل منحبكجية الملكة تعلموا منك !! “.

    تفترّ روح الشعب وهو يواجه الخيارات الحاسمة في تقدمه نحو المستقبل, عن مفاجآت عظيمة غير متوقعة, تبدو وكأنها الخزان الاحتياطي في المعركة من أجل الوجود. ومن هذه المفاجآت التي أبدعها شباب الثورة السورية في بلاغتهم الجديدة, تلك النهفات والنكات اللئيمة التي سخرت من النظام في أشد تعبيراته وأقسى ردوده على مطالب الثورة. إن النكتة تمتلك قوة فاضحة, والضحك يدمر الخوف, كما أشار باختين. ولقد أراد السوريون, وهم يتعالون على جراحهم ودمهم المسفوح على يد البرابرة, أن يتجاوزوا الخوف ويفضحوا الوجه الحقيقي للسلطة التي زرعته في القلوب طوال أربعين عاماً, من خلال خطاب السخرية وساحات الضحك والغناء وتحدي الخوف والاستبداد.

كلنا شركاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى