صفحات العالم

بلطجية، بلاطجة، مرتزقة.. وشبيِّحة!

أمجد ناصر

يهبُّ علينا ربيع غير مسبوق، ربيع تأخر كثيراً. انه هذه السلسلة من الثورات العربية المتتالية، بدءاً من ثورة تونس المباركة، من النار التي التهمت جسد البوعزيزي، وصولاً الى انتفاضة سورية المقموعة بالرصاص، مروراً بليبيا واليمن والبحرين والأردن وعُمان وسواها من البلدان العربية التي تتخلق فيها أجنَّة الثورة على الوضع القائم.

ولأول مرة في علاقتنا، كعرب، مع الثورات، لا تأتي مدفوعةً بأيديولوجيا مسبقة ولا هي تقليد أو نَسْخٌ، لتجارب في الخارج. انها ثورات طالعةٌ من شوقٍ، أكاد أقول غريزياً وعضوياً، الى الحرية.

إنها كَسْرٌ للقيود التي كبلَّت الشعوب العربية طويلاً باسم شعاراتٍ لم يكن لها نصيب من الواقع. الحرية هي محرك هذه الثورات الأول، الحرية والانعتاق من أغلال أنظمة عائلية، مستبدة، فاسدة، كابحة للحياة والتقدم، جثمت على صدور الشعوب العربية طويلاً، وطويلاً جداً حتى كادت هذه الشعوب ان تشكل، في نظر المستشرقين والمعلقين الغربيين، استثناء في علاقتها بالديمقراطية.

هناك قواسم مشتركة عديدة بين الثورات العربية المتلاحقة منها البحثُ عن الحرية والحياة الكريمة والعدالة الاجتماعية والانتفاع بالخير العام، كما أن هناك قواسم مشتركة بين هذه النظم التي كبحت قوى التغيير، منها الحكم العائلي، القبضة الأمنية، الفساد المالي والاداري، الاندراج المذُل في المشاريع الغربية في المنطقة والعالم.

الملاحظُ، الآن، بعد أن رأينا ثورات عربية تنجح في اسقاط أنظمتها وتلك التي لم تفعل بعد، هو أن النظام العربي يردّد كليشيه واحدة، تقريباً، كلما اقتربت منه رياح الثورة. هذه الكليشيه، او الفزاعة هي: أنا أو الطوفان، أنا أو الارهاب، أنا أو الحرب الأهلية، أنا أو الفتنة.

نعرف أن الدول العربية لا تتشابه تماما في نسيجها الاجتماعي. ليست الدول العربية نسخا متشابهة، لكن المطامح والاشواق والتطلعات هي كذلك بالتأكيد.

رأينا في تونس ومصر من يقول إن النظام يعني الاستقرار، وإن البديل هو الفوضى أو الأصولية، ولم يثبت هذا الزعم. هناك اليوم في اليمن والاردن والبحرين وسورية من يحاول صدّ الحتمية التاريخية بالتلويح بالفوضى والحرب الاهلية والفتنة الطائفية، لكن وقائع حركة الناس في الشارع تشير الى العكس. هناك وعي بين الناس الساعين الى التغيير والحرية بأهمية الحفاظ على النسيج الاجتماعي والوطني للبلاد، وذلك من خلال سلمية التحركات الشعبية والحرص على الرموز الخاصة بالمكونات الاجتماعية للبلاد، والابتعاد عن إثارة النعرات. من يفعل العكس هو الانظمة نفسها.

‘ ‘ ‘

لنأخذ النظام السوري مثالاً، وهو آخر الانظمة العربية الملتحقة، بفضل انتفاضة شعبه، في موكب ربيع الحرية المبقّع، للأسف، بالدم. هنا نظام، مثل سابقيه، فوجئ بضعف مناعته حيال رياح التغيير، بل كان اكثر المتفاجئين بذلك، لانه، صدّق، على ما يبدو، الفكرة التي اشاعها عن نفسه: الممانعة. لكن نظام ‘الممانعة’ هذا لم يتردد، لحظة واحدة، في اطلاق الرصاص الحي على شعبه، فيما هو يتردد ويماطل، عقودا، في اختيار زمان ومكان المعركة مع العدو.

وبين كل الأنظمة العربية الاخرى التي واجهت شعوبها (تونس، مصر، اليمن، البحرين، ليبيا، الأردن، عُمان) كان النظام السوري هو الأشرس، فقد لجأ، فورا، الى اللغة الوحيدة التي فرض مفرداتها على شعبه: العنف وعندما لاحظ ان العنف الذي صبه على صدور فتيان سورية لم يُعد بناء جدار الخوف الذي انهار فجأة تحت هدير أصواتهم هدد شعبه بالفتنة. لم يطل الوقت حتى قام بأكثر من بروفة لهذه الفتنة.

كل نظام عربي تهدده رياح التغيير القوية التي تهب على عالمنا اضاف سلاحا جديدا الى ترسانة قمعه، وأسهم في ‘إثراء’ موسوعة الرعب والخوف. في مصر كان البلطجية، في اليمن البلاطجة، في ليبيا المرتزقة، اما في سورية، المميزة والمختلفة، فكان ‘الشبِّيحة’. وهذا تعبير دارج عندنا في بلاد الشام (على الأقل في الاردن) يعني ‘الزعران’.

‘ ‘ ‘

النظام السوري، بين بلدان القمع العربية وطغمها العائلية الحاكمة، يمتلك، الى جانب ترسانته القمعية المتنوعة، أبواقا اعلامية محسوبة، للأسف، على ما يسمى ‘الصف الوطني’ العربي.

ففيما لم تجد الانظمة العربية التي عصفت بها رياح التغيير من يدافع عنها (الا قليلا) يجد النظام السوري ضالته في هذه الأبواق التي تردد المعزوفة نفسها بلا خجل او ملل: الممانعة، المقاومة.

المثال السوري يطرح علينا، من الآن فصاعدا، تعريف معنى ‘الممانعة’ و’المقاومة’. كيف يمكن لأي ممانعة أن تقوم على حكم العائلة، على الفساد، على اقصاء الشعب؟ ما هي هذه المقاومة التي لم تعكّر سلام حدودها مع العدو طلقة واحدة؟

كان يمكن للشعب السوري أن يفهم وجود قانون الطوارئ المرعب لو ان هناك حالة حرب مع العدو، لكن أن يستمر بالعيش، جيلا بعد جيل، في ظل قانون يحصي عليه انفاسه، فيما كل شيء هادئ على ‘الجبهة’، فهذه هي السريالية بعينها.

تقول أبواق النظام السوري ان النظام السوري مختلف. وهذا صحيح. إنه أكثر شراسة من سائر أقرانه في جامعة القمع العربية. يقول النظام، بكل وضوح، إن بديلي هو الفتنة الطائفية. وهذا خطأ، لأنها فزاعة لن تخيف الشعب السوري، فالتظاهرات التي عرفتها المدن السورية، حتى الآن، لم ترفع شعارا طائفيا واحدا، بل اصرت، بكل وعي ووضوح، على وحدة الشعب السوري.

الفزاعة الطائفية او الجهوية، أو الاثنية هي من صنع الأنظمة العربية التي لا ترى (ولا تقبل) بديلا لها الا الفوضى، فهل كُتب على العرب (من بين سائر شعوب العالم) خياران أحلاهما مرٌ: القمع أو الفوضى؟

كلا.

هناك، بالتأكيد، خيار آخر غير الطغمة العائلية الحاكمة أو الفوضى، إنه الخيار الديمقراطي الذي بنت، في ظلاله، شعوب أخرى لا تقل عن بلادنا تنوعا في المذاهب والاثنيات، أنظمة ديمقراطية وحياة كريمة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى