صفحات العالم

بما يخصّ صعود التيّارات الإسلامية

 

ماجد كيالي

لا شكّ أن الأحزاب والتيارات الإسلامية هي القوة الحزبية الأكثر استثماراً للثورات العربية حتى الآن، لأكثر من سبب، لكن هذه الحقيقة، ليست ناجزة تماماً، الأمر الذي لايستلزم التعامل معها باعتبارها بمثابة بديهية.

وتبيّن الوقائع أن ثمة عديد من الملاحظات والتعقيدات والإشكاليات التي تحيط بظاهرة صعود التيارات الإسلامية في العالم العربي، لعل أهمها يكمن في التالي:

أولاً، أن هذه الأحزاب والتيارات متعدّدة ومتنوعة ومختلفة مثلها في ذلك مثل كل الأحزاب والتيارات السياسية المدنية (اليسارية والعلمانية والليبرالية والقومية). هكذا ففي مصر، مثلاً، ثمة حزب “الحرية والعدالة”، المنبثق عن حركة “الإخوان المسلمين”، وحزب “النور”، وحزب “الوسط”، وتيار “مصر القوية”، والتيار الصوفي (اتجاهان)، وتيارات الجماعة السلفية، وثمة التيارات الإسلامية “الجهادية” والتكفيرية، هذا فضلاً عن شمول هذه التعددية الحزبية كل مذهب من المذاهب الإسلامية (لاسيما المذهبين الرئيسين السنة والشيعة).

ثانياً، طبعاً ليس ثمة شيء غريب في التعددية والتنوع، فالتيار اليساري متعدد، وكذا الليبرالي والقومي، والعلماني، لكن مغزى هذا الأمر بالنسبة للتيارات الإسلامية أن كل واحدة منها تعتمد مرجعيات فقهية مختلفة، على رغم المشترك الديني، وأن كل واحدة منها تعتقد ان الأخرى على خطأ، بل وثمة من بينها من يكّفر التيارات الأخرى. ثمة جانب أخر ينبثق عن ذلك، أيضاً، وهو أن هذه الأحزاب التي كانت توحي بأنها مصدر الحقيقة دون غيرها، وأنها كلامها مقدّساً، لم تعد كذلك، ليس من وجهة نظر التيارات اليسارية والعلمانية والقومية والليبرالية، وإنما حتى من وجهة نظر تيارات إسلامية أخرى. وبالطبع فإن هذا وذاك يفضيان بالأحزاب والتيارات الإسلامية إلى السياسي والمدني والعادي، ويحولها إلى أحزاب سياسية حقا، وهذا ينطوي على شيء إيجابي سواء بالنسبة للحياة السياسية، أو بالنسبة لتطبيع هذه الأحزاب والتيارات في إطار العمل السياسي.

ثالثاً، ما يلفت الانتباه، في خضم الحديث عن صعود التيارات الإسلامية إلى السلطة (مثلا في مصر وتونس)، أن ثمة تجاهل متعمّد لحقيقة أن ثمة أحزاب دينية أخرى مسيطرة في لبنان (حزب الله) وفي العراق (حزب الدعوة والتيار الصدري والمجلس الأعلى وحزب الله). وبديهي فإن حجب هذا الواقع ينطوي على تضليل، فهذه أيضاً أحزاب دينية، بل إنها أحزاب طائفية ومذهبية، بتركيبتها وخطاباتها وبالسياسات التي تنتهجها، والأنكى أنها مسلحة، وتتبع أجندة دولة اقليمية (إيران)، والمشكلة أنها تتغطى باسم الله، فقد بات ثمة حزب الله في العراق، أيضا، كأن الله بحاجة الى حزب أصلاً؟

رابعاً، مقابل ذلك فإن ما يلفت الانتباه، أيضاً، أن الأحزاب والتيارات الإسلامية “السنّية” لم تستطع أن تتحول إلى أحزاب طائفية، بسبب غياب الفكر السياسي الطائفي، أو الثقافة الطائفية، عند جمهور “السنة”، الذي شكل قاعدة لكل التيارات السياسية الدينية والمدنية وضمنها التيارات اليسارية والقومية والليبرالية والعلمانية، وباعتباره يرى في نفسه تيار الوسط والإجماع. وعموما فها نحن إزاء حقيقة ملموسة في مصر وتونس مفادها ان الجمهور الذي يتظاهر وينتفض في مواجهة الحكومات “الإسلامية” هو من جمهور “السنة” بالذات، وهذا أمر لا يمكن ملاحظته، أو التسامح معه، في العراق ضد حكومة المالكي، أو لبنان ضد السياسات التي ينتهجها حزب الله. وربما يجدر بنا التذكير هنا بأن هذا الجمهور بالذات كان يمحض حزب الله في لبنان دعمه واحتضانه بسبب مقاومته إسرائيل ما يؤكد أن هذا الجمهور محصّن ضد الطائفية وان حمولاته ذات مضامين وطنية.

خامساً، كما قدمنا ثمة خلافات بين الأحزاب والتيارات الإسلامية ذاتها، ففي مصر يقف حزب الحرية والعدالة (واجهة الأخوان المسلمين) في مقابلة حزب الأحرار السلفي، وفي المغرب ثمة حزب العدالة والتنمية (103 مقاعد في البرلمان) في مواجهة حزب الاصالة والمعاصرة (48 مقعدا في البرلمان)، وهكذا الأمر في تونس، وليبيا، والأردن، وسوريا. والمسألة هنا ليس لها صلة بمجرد الاستفادة من هذا الاختلاف بين التيارات الإسلامية، وإنما هي أعقد من ذلك، إذ ان هذا الواقع ربما ينبثق منه النقاش المتعلق بتمدين التيارات الإسلامية، وتقبلها لمنجزات الحداثة، والديموقراطية، هذا حصل في تركيا وماليزيا وأندونيسيا. هنا ثمة مفارقة لافتة، فإذا كان التجاذب والتصارع بين التيارات الإسلامية والتيارات العلمانية يؤدي الى تشدد التيارات الأولى، فإن الجدال والتصارع بين التيارات الإسلامية ذاتها قد يؤدي الى انبثاق تيارات إسلامية أكثر مرونة وانفتاحا في رؤيتها لذاتها ولدورها، كما في رؤيتها للسياسة والمجتمع والعالم.

سادساً، ينجم عن الملاحظات السابقة فكرة أساسية مفادها أن الأحزاب والتيارات الإسلامية هي أحزاب سياسية لأنها من الأساس تتوخّى السلطة، وليس “الدعوة” فقط، بل إن الدعوة باتت جسراً للوصول إلى السلطة، لذا ينبغي التعامل مع هذه التيارات والأحزاب باعتبارها كذلك، مثلها مثل الأحزاب الاخرى. والمعنى أن ليس ثمة احد فوق النقد لاسيما في الأمور التي تخصّ عموم البشر وإدارة أحوالهم وشؤون معاشهم، فهذه الأحزاب يقودها بشر عاديون، وهؤلاء محكومون بحدود معارفهم ومصالحهم ونزواتهم، وعليه فهم قد يخطئون وقد يصيبون.

عموماً فقد فتحت الثورات العربية الباب على مصراعيه أمام السياسة في العالم العربي، وهي التي أعادت الاعتبار للتيارات السياسية الإسلامية، التي ماعاد من الممكن ولا من اللائق تجاهل دورها، ولانفوذها، ولا شعبيتها، وإنما ينبغي التعامل معها على هذا الأساس، لأن هذا ما ينزع عنها محاولاتها اضفاء القدسية على اطروحاتها، وتحويلها الى أحزاب مدنية، حتى لو تغلّفت بالطابع الديني.

والحال فإن وضع هذه الأحزاب في دائرة الاختبار، في الحكم، من شأنه وحده ان يكشف عاديتها، وطابعها كأحزاب يديرها بشر عاديون، يمكن أن يخطئوا وأن يصيبوا، بحيث يتم تقييمهم على هذا الأساس، من قبل مجتمعاتهم، وعلى أساس قوانين الأرض، بحيث تتم محاسبتهم في الدنيا، إضافة إلى حساب يوم “الآخرة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى