صفحات الرأي

بناء ‘الشرعيّة‘ السلطويّة: الامتثال الداخليّ والموقف الدوليّ لسوريا الأسد/ أورورا سوتيمانو

 

ترجمة: مصطفى الفقي

الملخص:

سوف تُلقي هذه الورقة نظرة فاحصة على “الشرعيّة” المزعومة للنظام السوري، كما ستُبيّن أنَّ العامليْن الرئيسيين لشرعنة حكم بشار الأسد -وهما رسالتاه القومية والإصلاحية- ينطويان على مجموعة من المبادئ والالتزامات الضمنية، التي تشكّل العلاقة بين الدولة والمجتمع السوري بمنهجية تُورِّط الفاعلين غير الحكوميين في مجالات السلطة. علاوة على ذلك، ستختبرُ هذه الورقة مختلَف الأطر الإقليمية والدولية للشرعية فيما يتعلق بالحرب السورية، مُبرزةً التحولات بين السرديّات الدبلوماسيّة للمفاوضات والتدخلات، والحتميّات الإنسانية والأمنية، والصراع الديني، والحرب على الإرهاب. وبذلك، ستُسائل الورقة ذاك الفهم الشائع للشرعية كمفهوم تقييميّ يشمل مجموعة متنوعة من القضايا التي تلعب دورا في تبرير والحفاظ على سلطة سياسية فعّالة.

وبدلا من سبر الشرعية القانونية أو المسوغات الأخلاقية للمؤسسات السياسية القائمة -كما يوحي مفهوم الشرعية- ينصب تركيزي على عمليات الاستيلاء المستمر على آليات السلطة، واستراتيجيات الحكومة التي تستدعي الانضباط والامتثال لمواقف الحكّام السلطويين، وكيف يتم تأسيس أنماط من العلاقات السلطويّة بين الدولة والمجتمع، وتبريرها وتكييفها لتلائم الظروف المتغيرة. وأعتقد أن تحليل التداخلات بين الشرعية والهيمنة سيساعدنا على فهم حجم الأحداث الجارية في سوريا، كما سينعكس على تفكيرنا في كيفية التحرك بعيدا عن السلطوية والحفاظ على ذلك.

توطئة:

تبدو بعض المفاهيم ضروريةً بالنسبة إلينا من أجل فهم النزاع السوري، كمفهوم “الشرعية” في ضوء ادعاءات مختلف الجهات الفاعلة المعنية.

تأتي أولاً تأكيدات القادة السوريين أنفسهم بأنهم وحدهم فقط هم الذين يمتلكون الوصاية للدفاع عن كلٍ من الشعب والدولة ضد الفوضى التي أحدثتها الجماعات الإسلامية المتطرفة بزعمهم، والمدعومة من قبل العناصر الأجنبية. طوال فترات النزاع، بدت “الأغلبية السورية الصامتة” وكأنها ترسل رسالة مفادها أنَّ النظام لا زال يتمتع بـ”شرعية” معينة.

وثانياً، يأتي ذلك الحذر الملحوظ الذي أبدته القوى الغربية في عدم تخليها عن شرعية النخبة السورية الفاسدة، على سبيل المثال، نشْر تصريحات متناقضة من قِبل المسؤولين الأمريكيين عن “فقدان الشرعية” لنظام الأسد.

ثالثاً، غموض الجهود الدبلوماسية الدوليّة، التي تراوحت بين “حتميّة” دعم التحول الديمقراطي و”ضرورة” الاعتراف بالنظام كمحاوِر شرعي.

رابعاً، توظيف سرديّة “الحرب على الإرهاب” من جانب جميع الفاعلين تقريباً –الدوليين والإقليميين والداخليين- لشرعنة استخدامهم للعنف. ولا ينفصل ذلك عن الجدل الدولي حول شرعية التدخل العسكري الدولي الذي أثارته الحملة الجوية التي تقودها الولايات المتحدة ضد أهداف تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا ابتداءً،

وأخيرا الحملة الجوية الروسية، بعد أكثر من أربع سنوات من الاضطرابات التي أدت إلى حدوث كارثة إنسانية وتدمير معظم البنى التحتية في البلاد.

في السياق السوريّ، تشير السرديات المتنافسة إلى أن مفهوم “الشرعية” هو مفهوم مُمعن في العمومية يمكن توظيفه في دعم استراتيجيات القوى المعارضة. ومع ذلك، فإنَّ التناقض بين المفاهيم المختلفة للشرعية يمكن أن يقول لنا شيئاً هاماً عن الممارسات السياسية الحديثة. سوف تمهّد بعض الأفكار الأولية حول محدِّدات مفهوم الشرعية السبيل لمقاربة بديلة تركز على آليات السلطة الخطابية.

بينما يحدد الجزء الثاني من الورقة السمات المميزة للخطاب السياسي السوري في عهد حافظ الأسد (1970-2000)، وكيف استمرت بعض هذه الممارسات في ظل حكم بشار الابن. وهدفي هو: فهم كيف أثرت هذه الحالات الخطابية على التعبئة السياسية في أوقات الاضطراب الحالية. بينما يحلل الجزء الثالث ادعاءات النظام السوري للشرعية على الساحة الإقليمية، وتحديدا دوره في محور المقاومة. ويناقش القسم الأخير سرديات الشرعنة في سياق العلاقات الدولية للثورة السورية. اعتماداً على الإسهامات النظرية التي قدمها ميشيل فوكو وأشيل مبيمبي Achille Mbembe، أحاججُ بأنّ سرديّات الشرعنة والعمليات المستمرة يجب أن تُختبر في سياق ممارسات الانضباط والمَعْيرة (normalisation) التي تستدعي الإذعان والامتثال.

مفهوم الشرعيّة والسيرورة السياسيّة

تشير الأدبيات التي تناولت مفهوم الشرعية إلى أنه مفهوم متعدد الأبعاد والمستويات المتعلقة بتسويغ وقبول السلطة السياسية (Beetham 1991).. بحدٍ أدنى، ثمّة مستويات عامة ثلاثة للشرعية، تركز على الجوانب القانونية والأخلاقية والاجتماعية لـ”الحق في الحكم” (Coicaud 2002). ينظر الفلاسفة السياسيون والقانونيون إلى الشرعية في إطار القواعد والقوانين والحقوق القانونية ويركزون على المبادئ والقيم الإلزامية مقرونةً بالعملية المنفتحة لصنع القرار والنتائج الناجحة(1). وإذا ما فُهِمَت الشرعية على أنها مجموعة مطلقة أو ثابتة من سمات حكومة مثالية ما، فنادراً ما سيستخدم مفهوم الشرعية في التحليل السياسي للواقع الذي لا يشاطر الغرب تاريخه في بناء المؤسسات الديمقراطية. والواقع أن الباحثين الذين يستخدمون مفهوم الشرعية في صورته التابعة للديمقراطية غالبا ما ينتجون ادعاءات تتسم بالرضا عن الذات بشأن الديمقراطيات الغربية، وهو ما يضعف كلا المفهومين. بينما يثير الفهم الأخلاقي للشرعية اعتراضان سائدان. أولاً، عند الحديث عن “التآكل” التدريجي للشرعية الذي يوازي الاستخدام المتزايد للعنف في حالات النزاع، حيث يقر المحللون ضمناً إطاراً تحليلياً مزدوجاً يعارض شرعية العنف.

ومع ذلك، يتذرع الفاعلون السياسيون بالشرعية لتبرير استخدامهم للعنف، بدلاً من استبعادها. ثانياً، القيم الأخلاقية مسألة تاريخية ومحددة السياق: حيث تعكس كثرة وجهات النظر العالمية التنوعات الاجتماعية والجغرافية والخبرات التاريخية للشعوب مع المؤسسات السياسية والاجتماعية. وبما أن مبادئ الشرعية تتطور تبعا للخبرة البشرية، فإن الشرعية في جوهرها مسألة اجتماعية وتُبنى بأنماط اجتماعية (Clark 2005; Rapkin and Braaten 2009). ومع ذلك، يظل مفهوم الشرعية الاجتماعية مفهوماً مجرّداً غير منضبط بإطار أخلاقي أو قانوني يقبله الفاعلون السياسيون (Habermas 1979). ومن ثمّ، فنحن بصدد مفهوم “ضبابيّ” يعكس تعقيدات الحياة الاجتماعية، وبالتالي فهو أبعد ما يكون عن كونه معياراً تحليليّاً مفيداً.

لا ينصب اهتمامي هنا على الإشكاليات المفاهيمية في حد ذاتها بقدر ما ينصب على التساؤلات التي يحجبها خلفه الفهم السائد لمفهوم الشرعية: تحديداً قدرة السلطات -بما في ذلك تلك التي تنتهك في كثير من الأحيان المبرر المعياريّ لشرعيتها- على تلقي الامتثال الفوري حتى من أولئك الذين يتم إقصاؤهم من قِبل النظام السياسي باستمرار. إنّ الفشل في فصل “الشرعية” عن غيرها من دوافع الامتثال للسلطات، يؤدي بالباحثين إلى مجرد المساواة بين الشرعية والقبول والخضوع. كما إنّ التشويش المفاهيمي الذي يخلقه مفهوم “الشرعية” يحجب آليات السيطرة المضمرة التي تُعدّ أساسية لديناميات إعادة الانتاج الاجتماعي والسياسي، وبالتالي يفسد تفكيرنا في السلطة والسيطرة الاجتماعية. من الدراسات الرائدة في هذا الصدد، دراسة ليزا ويدين Lisa Wedeen للممارسات السياسية السورية في عهد حافظ الأسد، حيث بيّنت على نحو مقنع أن عبادة الشخصية personality cult ونشر الأيديولوجيا قد فرضت على المواطنين الامتثال على مستوى السلوك الظاهري دون أن ينتج بالضرورة شرعية للنظام محمّلة بقيمة ما(2).

وانطلاقا من منظور فوكوي أوسع نطاقا، -وهو منظور لا يتطور فيه الفاعلون السياسيون، والمفاهيم، والسياسات بمعزل عن الخطابات التي تمكّنهم وتربطهم بترتيبات محددة للسلطة- أفترض إشكالية ادعاءات الشرعية للفاعلين في المشهد السوري، وأركز على كيفية ممارسة هذه الإدعاءات من خلال عمليات خطابية تقود إلى الانضباط والمواربة العامة والامتثال بدلا من الاعتقاد أو الالتزام الوجداني الذي تفترضه “الشرعية” مسبقاً. هدفي هنا هو إبراز آليات السيطرة والهيمنة السياسية التي تضمرها الخطابات المحددة للشرعية كأنجع وسيلة لفهم تعقيدات الصراع السوري.

الأسُس الخطابية لـ”شرعيّة” النظام السوري

قبل أسابيع قليلة من اندلاع الاحتجاجات السورية، توقّع الرئيس السوري بشار الأسد علانيةً أن سوريا سوف تتجنب الاضطرابات الشعبية التي تشهدها دول أخرى في العالم العربي، وذلك بسبب الحقيقة القائلة بأن سياسة سوريا الخارجية كانت أكثر اتساقا مع الإرادة الشعبية بخلاف المواقف التونسية والمصرية الموالية للولايات المتحدة(3). وفي الواقع، تشير معظم الدراسات البحثية المتعلقة بالسياسة السورية إلى الإرث الأيديولوجي لحزب البعث -وهو مزيج من القومية والشعبوية- باعتباره العمود الفقري لشرعنة للنظام(4). وقد مثّل استيلاء حزب البعث على سلطة الدولة في العام 1963 ولادة نظام شعبوي سلطوي اعتمد استراتيجية وسمت نفسها بالاشتراكية ترتكز على الدولاتية والسيادة المطلقة. كما مثّل خطابها الثوري أيضا بداية لأنماط جديدة من المشاركة الشعبية في الصراعات السياسية. وأسند القادة البعثيون دور “الطليعة” السياسية لأنفسهم، وقاموا بتنفيذ مشروع قوي لبناء المؤسسات في إطار الجهود المعلنة لنشر “أخلاقية اشتراكية” عبر الطيف الاجتماعي. وكانت السياسات “الاشتراكية” للتأميم والإصلاح الزراعي والإداري، والتوظيف الجماعي في القطاع العام، والتعليم واسع النطاق مسائل هامة في كسب دعم العمال والفلاحين لحزب البعث.

منذ العام 1970، أدت سياسة الباب المفتوح الانتقائية التي أطلقها حافظ الأسد إلى توسيع القاعدة الاجتماعية للنظام لتشمل جزءا من البرجوازية التجارية دون التراجع عن دعم الإنفاق الداخلي والعمالة الحكومية -وهي ­­العناصر الرئيسية للدعم الشعبي و”الشرعية الثورية” البعثية- مع تعميق ،بدلا من تصحيح، ممارسات الهندسة الاجتماعية لحزب البعث. وكانت المشاركة شبه الإلزامية في المنظمات الجماهيرية المرتبطة بحزب البعث متجذرة بين جميع فئات الشعب -الطلاب والنساء والعمال والفلاحين والمهنيين- في تنظيمات تشبه الجيش تسمى “المنظمات الشعبية” والتي كانت لا تتوفر على أي سلطة مستقلة. وقد مكّنت هذه التنظيمات مجتمعةً حزب البعث من أن يفرض نفسه على المجتمع السوري، حتى على أولئك الذين نظروا إليها نظرة تشاؤمية(5).

لم تنفصل أبدا الجهود البعثية لبناء الدولة وعملية إعادة التشكّل المجتمعي عن النضال الوطني لمقاومة الأعداء الأجانب. إن استراتيجيات “المقاومة” التي اتبعها حافظ الأسد من أجل الصمود في وجه “العدوان المستمر” لـ”العدو الصهيوني” واسترداد الشعور بالفخر والأرض المسلوبة في حرب 1967 (Khalidi and Agha 1991) كانت بمثابة إطار للحرب الشاملة، وسردية ملحمية للتحركات البطولية والمشاعر العظمى باسم أمة محاطة بالمخاطر يتجاذب أطرافها دائماً الغزو والدمار. يؤطر هذا الخطاب القومي ادعاء الزعماء السوريين للشرعية بطرق عديدة. أولاً، تصرَّف النظام باعتباره طليعة “مستنيرة” على رأس الدولة وكضامن للتماسك الداخلي والاستقلال الوطني. كانت النزعة القومية الشعواء بمثابة مظلة للدور الأساسي الذي لعبته عائلة الأسد وأنصارها من العلويين (الأقلية التي ينتمي إليها الأسديون) في المستويات العليا من سلطة الدولة، وأخفت الانقسام المتزايد بين الدولة السلطوية والمجتمع. ثانياً، تطلَّب عبء المهمة التاريخية السورية تسخير جميع الموارد الوطنية والبشرية وشرعنة نموذج للتشريك socialisation يقوم على تماسك “جبهة موحدة” تحت قيادة الأسد ضد “قوى الرجعية”(6).

ومن ثمّ، اختلط الإجماع والتجانس المجتمعي بالمضمون الطبقي للاشتراكية البعثية. وقد اتخذت “جهود وكدّ وتضحيات”(7) المواطنين أولوية على المطالب الاجتماعية، وبرَّرت في النهاية الانقلاب على “المكاسب الاجتماعية” التي حققتها الثورة البعثية “الاشتراكية”. ثالثاً، تمحور هذا الخطاب السياسي حول “المقاومة المستمرة” من أجل مواجهة الهيمنة العسكرية الإسرائيلية في المنطقة، مفتقدا الملاحظات النقدية الموجهة إلى التنمية السورية البطيئة. رابعاً، شرعنت عمليات التصحيح السياسي الجديدة: الحضور الطاغي لحزب البعث وأذرعته الأمنية ​​في جميع جنبات المجتمع السوري، وعسكرة الحياة اليومية، وحالات الاستثناء في القانون والنظام، والامتثال الصارم لسلطة عليا باسم تغليب المصلحة الوطنية. فبدلاً من تدشين فضاء عام حقيقي، كانت السياسات الانفتاحية لحافظ الأسد تتجاوب مع متطلبات التماسك والنظام والتسلط لإحكام السيطرة. فقد توخت سياسات التلقين والضبط والمراقبة وعبادة شخصية “الزعيم الخالد” الرئيس الأسد وضع قواعد توجيهية صارمة للخطابة والسلوك العام (Wedeen 1999).

واستوطنت الميثولوجيا السياسية التي طرحها النظام جميع الفضاء الخطابي، في الوقت الذي انخفضت فيه المشاركة الشعبية إلى مستوى المسيرات التي دبرتها السلطات بشكل روتيني للإشارة إلى التطابق بين تطلعات الجماهير وممارسات النظام ومهمته وقائده. كان يُعدّ أي انحراف عن هذا المسار بمثابة خيانة عظمى، وتخريب لرسالة البلاد، وهجوم على الثوابت الأخلاقية للأمة، وبشكل جوهريّ نزع الشرعية عن قيم النظام السياسي القائم، وهو ما يصبّ حتما في مصلحة  العدو (Kitus 2014 ).

من أجل فهم المرونة السلطوية وديناميكيات التعبئة في سوريا، لابد من النظر في “زراعة القابليات المدنية للسلطوية” (Mbembe 1992) التي صاحبت تشكّل الحياة السياسية السورية. اعتياد الناس على الممارسات الانضباطية التي تسربت إلى نسيجهم المجتمعي -بدلاً من الإيمان بسردية النظام أو بأي شرعية قانونية أو أخلاقية للسلطات- إحدى الآليات المهمة التي تضمن الامتثال (Žižek 1989; Ismail 2006).

مهّدت عمليات التصحيح السياسي السورية الجديدة لخلق حالة من انعدام الثقة مصحوبةً بمراقبة الذات، والمراقبة المتبادلة، والتقليد، والامتثال غير التأملي (Wedeen 1999, 2013). وقام النظام بتأسيس نظام دقيق للتجسس عن طريق العديد من وكالات الاستخبارات التي تحكّمت في حياة الأفراد الخاصة، ورصدت أي سلوك “منحرف” وجنّدت أفراد من العامّة للتجسس على بقية الشعب وفرض الامتثال. لقد ألغى الخوف من أولئك القابعين في جهاز السلطة وآخرين غيرهم إمكانية قيام أي شكل مستقل من أشكال العمل الجماعي العام. وأصبحت السياسة فضاءً مفتوحا لتحديد الهوية والولاء، ولكنها مجال موصد دون النقاش والمفاوضة بين المتحاورين الشرعيين. نتيجة لذلك، واصل حتى المواطنون السوريون الذين لا يثقون في خطاب النظام الاحتشاد خلفه كلما لاح تهديد خارجيّ مهما كان حجمه، سواء كان ذلك انتقادات خارجية أو ضغوطا دبلوماسية أو ضربة عسكرية مرتقبة. وهكذا بدأ الخوف من التغيير يحل تدريجيا محل الأمل في التغيير، وأصبح السوريون مؤيدين صامتين لـ “الشيطان الذي يعرفونه”(8). كانت هذه هي لبِنات بناء الهوية الوطنية و”شرعية” “سوريا الأسد”.

لا يعني هذا أنَّ المجتمع السوريّ تشظّى بالكامل، وأنّ التغيير كان مستحيلاً: التعرف على استراتيجيات السيطرة التي هي جوهرية في الممارسات السورية المشرعَنة يساعدنا على فهم حجم التطورات الحالية. كما يمكنه أيضا أنْ يفسر حالة الجمود في المفاوضات الدبلوماسية بين الأطراف الفاعلة -النظام والمعارضة على السواء- التي تتشارك منطق نزع الشرعية بما يجعل السياسة معادلة صفرية. إنّ اختزال سؤال التغيير بأكمله في إقصاء الطغمة الحاكمة من السلطة يعكس البنية المزدوجة لخطاب النظام، وإدراك ضئيل لطبيعة هذه السلطة (Wedeen n.d). كما يوضح انعدام الثقة وقلة الخبرة في أي حوار سياسي حقيقي الصعوبة التي يواجهها معظم الفاعلين في الساحة السورية للتفاوض من أجل التوصل لموقف مشترك وإيجاد رؤية مقنعة لمستقبل سوريا.

إصلاحات بشّار

لم تنضب أداتية الخطاب السياسي السوري كمخزون لقواعد واستراتيجيات السيطرة الاجتماعية بالنسبة لوريث “الملكية الرئاسية” السورية. تُظهر الشرعية المزعومة لبشار الأسد كما تم التعبير عنها في سياساته الخارجية القوموية وأجندة إصلاحاته الاقتصادية استمرارية مزعجة لحكم والده.

قدّم الرئيس بشار نفسه على أنه مُجدد تقدّمي، بينما قامت وسائل الإعلام السورية بتسويق الرئيس الشاب والسيدة الأولى الحسناء كنماذج للأدوار الجديدة في الدولة، ومهّدت للمسار الحالي “الصحيح سياسياً” للسوق ولطموحات الحراك الاجتماعيّ المرتبطة بالدور الرسمي المتجه نحو “اقتصاد السوق الاجتماعي” (SME) ، الذي تم الإعلان عنه بضجة كبيرة في العام 2005. ومع ذلك، لم يقم النظام بإنشاء الإطار المؤسسي والقانوني اللازم لتنظيم عملية الانتقال من الاقتصاد المُخطَّط إلى اقتصاد السوق.

وبدلا من ضمان سيادة القانون، والقدرات المؤسسية، والمحاسبة الإدارية، ركّز نظام بشار السلطة والمحسوبية في زمرة حول الرئيس على حساب “الحرس القديم” من بارونات السنّة بدعوى معاداتهم للإصلاحات (Hinnebusch 291). نتيجة لذلك، تم استبدال احتكارية الدولة بعصابات عائلية، في حين استولى رجال الأعمال المقربون من عائلة الأسد على فرص الثراء التي سمح بها برنامج الإصلاح (Haddad 2012). وأدى الفساد والواردات الأجنبية إلى إفقار الصناعات الإنتاجية والصناعات الصغيرة. في السردية الاقتصادية الجديدة، تم استبدال العمال والفلاحين بالمجتمع المدني والقطاع الخاص، ولكن هذا الأخير أثبت عجزه عن تعويض خسائر الوظائف في القطاع العام (Hinnebusch and Zintl 2015). تمثلت العواقب الاجتماعية-السياسية في ارتفاع معدلات البطالة، وانخفاض مستويات المعيشة، وانكماش الضمان الاجتماعي، وتنامي الاستقطاب المجتمعي بين الأغنياء والفقراء، وبين المدن والأطراف الريفية المهملة (Ababsa 2011).

جوججَ بأن حدود إصلاحات بشار تزامنت مع حدود تواطؤ الدولة-البيزنس (Haddad 2012) أو مع التطور المؤسسي (Hinnebusch 2014). وبشكل حاسم، فشلت إصلاحات بشار في مساءلة أنماط عمل النظام(9). فعوضاً عن كونه استراتيجية اقتصادية، عمل نموذج اقتصاد السوق الاجتماعي كمظلة لمجموعة متنوعة من المطالب، معطيا الضوء الأخضر لسياسات السوق، فضلا عن إرسال تطمينات إلى تلك القطاعات من المجتمع السوري التي كان لها مصلحة في الحفاظ على الدعم الحكومي والخدمات العامة. في مثل هذا الخطاب، ظلّت الدولة هي الحَكَم الوحيد على جودة السوق بالإضافة إلى كونها المحاور الوحيد وراعي جميع الأطراف الاجتماعية الفاعلة. وعوضا عن التكيف مع قوانين السوق، ارتبط الفاعلون الاقتصاديون بهبات السلطات، بما يعني ضمناً الاعتراف بتبعيتهم. ومن هنا كان الحد من الإصلاح الاقتصادي هو منطق الخطاب السياسي السوري، الذي يفرض السلطة المطلقة غير الخاضعة للرقابة باعتبارها الضمانة الوحيدة لأخلاقية وتماسك النسيج الاجتماعي.

سوريا في محور المقاومة الإقليميّ

قدَّم بشار الأسد نفسه أيضا كضامن للاستقرار والوضع الإقليمي الذي تركه والده لسوريا؛ وهما الإنجازان اللذان يعترف بهما الخصوم أيضا. بحلول العام 2005، صارت شعبية بشار موضع شك بالفعل. وتلقى موقف سوريا الإقليمي ضربةً قوية بعد الاشتباه في المشاركة في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وانسحاب القوات السورية من لبنان. قام القادة السوريون المتورطون والمعزولون دوليا بتصوير الضغط الدولي كجزء من مؤامرة تُحاك ضد بلادهم، ويطرحونه في سياق خيار بين الاستقرار الذي تتمتع به سوريا في ظل حكم الأسد أو الفوضى الإقليمية. أعاق ذلك الجهود الرامية إلى فتح حوار حول الإصلاحات السياسية الداخلية كما برّر الحملة القمعية ضد النشطاء المؤيدين للديمقراطية.

في صيف العام 2006، أدهش انتصار حزب الله اللبناني على الهجمات الإسرائيلية الرأي العام العربي، وكان بمثابة نقطة تحول في السياسة الإقليمية والسورية. وعلى خلفية تطرف الرأي العام وصعود الفاعلين من غير الدول، طرح الأسد رؤيته حول “شرق أوسط جديد جوهره المقاومة”(10) المكونة من حزب الله -أقوى فاعل عربي من غير الدول- والفصيل الفلسطيني حماس والجمهورية الإسلامية الإيرانية وسوريا. لم ينشأ هذا المحور باعتباره تحالفاً عسكرياً أو طائفياً شيعياً، بل باعتباره تحالفاً سياسياً قائماً على مناهضة الأعداء المشتركين (العدو الإسرائيلي اللدود والقوى العربية الموالية للغرب)، وعلى الرفض المشترك للسياسات الغربية في الشرق الأوسط ومكتسبات السياسة الواقعية.

بالنسبة إلى إيران، كان التقارب بين دمشق وطهران يعني وجود موطئ قدم مهم للغاية في المشرق العربي المناهض لها بطريقة أو بأخرى إلى حد كبير، وخط إمداد لوجستي لحلفائها في حزب الله. لقد دعم موقف سوريا الموالي لحماس وحزب الله إستراتيجية النظام السوري باعتباره صوت الدول العربية المناهض لإسرائيل. وظلّ حزب الله هو المصلحة المشتركة الأقوى بين سوريا وإيران وحجر الزاوية في محور المقاومة.

بدأت الشرعنة الذاتية لبشار المرتبطة بحزب الله في وقت مبكر بعد أن خَلَف والده رئيساً في تموز 2000. في أعقاب الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني، كانت العلاقة بين حزب الله “المنتصر” والزعيم السوري الشاب ،الذي لا يحتفظ بأي تاريخ عسكري أو مناهض لإسرائيل، بمثابة أوراق الاعتماد التي احتاجها لحكم “بلد الصمود” (Hokayem 2010). وبعد أن زاد اعتماده على دمشق لإمداده بالسلاح، أصبح حزب الله حامياً لمصالح سوريا في لبنان ومؤيداً قوياً للرئيس بشار “القائد الشاب الذي يضع إصبعه على نبض الشارع العربي”(11). أنقذ حزب الله الموقف السوري بعد الانسحاب المهين من لبنان في عام 2005، ووجّه انتصار حزب الله في عام 2006 الدعم الشعبي في العالم العربي إلى “محور المقاومة”، في الوقت الذي كانت فيه سوريا معزولة دولياً.

لا يوجد خلاف بشأن صدى خطاب المقاومة لدى السوريين والجمهور العربي الأوسع، كما يتضح من اعتراف بشار نفسه بأن “التآمر ضد المقاومة سيؤدي إلى انتحار سياسي بالنسبة إليّ”(12). لقد عزّزت سياسة سوريا العسكرية الخارجية وسياسة الباب المفتوح تجاه أكثر من مليون لاجئ عراقي منذ عام 2003 وآلاف اللبنانيين بعد حرب تموز 2006 المصداقية السياسية للزعماء السوريين.

رفض الهيمنة واستباق المعارضة

في السردية السياسية لحزب الله، يرتبط مفهوم المقاومة (والكلمة تعني حرفيا “الوقوف في مواجهة” الظلم) بمفاهيم الثقافة السياسية الشيعية حول التمرد ضد الجور والاستشهاد. على صعيد الخطاب السياسي السوري، أصبحت انتصارات المقاومة اللبنانية دليلاً على سياسات الصمود التي ينتهجها النظام السوري، وأصبح الدعم الشعبي لحزب الله احتفاءً بـ”الإجماع الوطني على مركزية دور المقاومة”(13). وبهذه الطريقة، أعاد شعار المقاومة صياغة الدور التاريخي لسوريا كدولة مواجِهة بحيث أدخلت قضية المقاومة تحت مظلة القيادة السورية. أصبحت العلاقات الوثيقة مع حزب الله وسجله “المشهود” المعادي لإسرائيل هو الإنجاز الرئيسي لموقف الأسد من المقاومة.

منذ حرب العام 2006 ، تم تطعيم مفهوم المقاومة بمفهوم الممانعة. حيث كانت تهدف جبهة الممانعة إلى إحباط النفوذ العسكري والسياسي والاقتصادي الأمريكي في الشرق الأوسط. في المخيال المعياري لحماس وحزب الله، كانت إعادة مَفْهَمة reconceptualisation “المقاومة” تعني ضمناً إعادة تعريف التسلسل التراتبي للعداوة: على الرغم من أن إسرائيل ظلّت هي “المغتصب الأكبر” بسبب وجودها في حد ذاته، إلا أنَّ الصراع الأساسيّ كان وقتئذ مع الولايات المتحدة وجهودها في إعادة تشكيل الشرق الأوسط (Saad-Ghorayeb 2011).

جمعت هذه الاستراتيجية حماس وحزب الله وإيران وسوريا في جهد مشترك من أجل تحدي الهيمنة الإقليمية (إسرائيل) والعالمية (الولايات المتحدة) من خلال المقاومة المسلحة والدبلوماسية للتغلغل الإمبريالي، والخطاب المشترك المناهض للهيمنة. وبعيداً عن الإشارة إلى موقفها المهادن (Cobban 2008)، انتهجت جبهة الممانعة ممارسة متشددة لرفض النظام العالمي الجائر الذي تفرضه الولايات المتحدة، بالإضافة إلى تقديم الدعم السياسي واللوجستي للمقاومة المسلحة. كما تم استخدام فكرة الممانعة أيضا ضد معارضي النظام السوري، الذين أدانوا عجزه عن تحرير هضبة الجولان، وهي الجبهة الأهدأ في الصراع العربي الإسرائيلي. بينما أثنى زعيم حزب الله حسن نصر الله صراحةً على رفض الأسد الحازم الخضوع لخطط الهيمنة الإسرائيلية-الأمريكية في المنطقة ودعمه للمقاومة المسلحة في لبنان وفلسطين والعراق (نصر الله، 2009).

يمكن النظر إلى احتضان سوريا لمحور المقاومة كإستراتيجية لاستئناف الدور السوري باعتبارها العمود الفقري لإعادة التنظيم الجيوسياسي، والطرف المحوريّ في أي تسوية إقليميّة. فقد بعث الموقف السوري برسالة للجهات الدولية الفاعلة مفادها أنه: إذا لم تأخذوا مصالح سوريا في اعتباركم، “فإن هذا هو ما سوف تجدونه”(14) في إشارة إلى أن نظاما قويا فقط في دمشق سيكون قادرا على تحقيق السلام في مواجهة راديكاليّة الرأي العام العربي. على المستوى المحلي، مثّلت علاقة سوريا القوية بجماعات المقاومة استراتيجية لصرف الغضب الداخلي مع تفريغ شعارات المقاومة من إمكاناتها الكامنة المناهضة للنظام (Hroub 2009).

إنّ روح المقاومة -الاحتفاء بالدور البطوليّ لمقاتلي حرب العصابات، والعلاقة الوثيقة مع “الشارع”، وازدراء مؤسسات الدولة العاجزة- يمكن أن تنقلب إلى نموذج لحشد الجماهير الساخطة: لذلك، مكّنت عملية القفز على روح المقاومة الزعماء السوريين من التعبير عن الجماهير العربية وتمثيلها، من أجل نزع فتيل الغضب الشعبي من فشل النظام السياسي والاقتصادي، وكذلك مكّنته من التلويح براية العنف المشروع، وبالتالي استباق أي مبادرة شعبية، وإضعاف المعارضة المحتملة للنظام.

علاوة على ذلك، مكّن انحياز سوريا إلى “جبهة المقاومة” النظام من استيعاب خطابه للحالة الإسلامية المتصاعدة –التي لم تكن حتى ذلك الوقت أصولية أو مسلحة (Landis and Pace 2006)- وبالتالي تعزيز سيطرته على “الشارع السوري” الذي ازداد فيه عدد النساء المحجبات والرجال الملتحون، الذين تحدوا هيمنة المؤسسة العلوية “العلمانية” (Hroub 2004). وعلى الرغم من عدم تمكّنه من فرض السيطرة على المؤسسات الدينية السورية، إلا أن النظام السوري قد استمال عددا من الشخصيات الدينية المختلفة لتسويق مقاومة النظام العربية الإسلامية للسوريين وللعالم الإسلامي الأوسع نطاقاً (Pierret 2013). وقام الإعلام السوريّ بتصوير انتصار حزب الله باعتباره إنجازاً عربياً إسلامياً، وتحدث بشكل روتيني عن العروبة والإسلام كدعامتين أساسيتين للقوة(15). وفي الوقت نفسه، أضفى ترويج الأماكن المقدسة الشيعية السورية كوجهة للزوّار بعداً دينياً للتحالف بين سوريا وإيران.

بحلول نهاية العقد الأول لبشار في السلطة، عاودت سوريا الظهور على الساحة الدولية دون المساس بمصالحها الوطنية الأكثر أهمية ودورها في جبهة المقاومة. وعلى المستوى الإقليمي، أسست سوريا لعلاقات جيدة مع تركيا والعراق مع الإبقاء على دورها المصطف مع إيران. وعاد القادة اللبنانيون إلى التحرك داخل المدار السوري، بينما احتفظ حزب الله بسلاحه. لقد ساعدت المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل والإنفراجة في العلاقات مع المملكة العربية السعودية على إنهاء الإقصاء ​​الأوروبي، في حين اعترف المجتمع الدولي بدمشق كمحاور متميز للاستقرار الإقليمي (Wieland 2015). على الصعيد الداخلي، نجح نظام بشار في إعادة توجيه الاقتصاد السوري مع الحفاظ على النموذج السوري السلطوي، وثقافته الأمنية، والشخصية المقتصرة في جوهرها على (الجيش، وأجهزة الأمن، وكبار رجال الأعمال الاقتصاديين). ومع ذلك، فإن الوجه الاستئثاري للإصلاح السوري قد زاد من ضعف سُبُل التفاوض مع قوى مهمة من الشعب السوري، التي سرعان ما ستتعرض لعدوى الربيع العربي.

جبهة المقاومة في الصراع السوريّ

استجاب القادة السوريون الذين اعتقدوا حتى هذه اللحظة أنهم بارعون في الربط بين “الحفاظ على نظامهم” والشرعية الشعبية، بتعنّت للانتفاضات المفاجئة التي خرجت ضدهم. واعتمد النظام “خياراً عسكرياً” لسحق المعارضة، مما أدى مباشرةً إلى تحويل الانتفاضات السلمية إلى نزاع مسلح، مع الإشارة في الوقت ذاته إلى مكائد مُنظمة من قِبل حكومات أجنبية. في خضم النزاع السوري، ظلّ خطاب المقاومة عنصراً أساسياً اتخذ مساره، مدعوما ​​بموقفٍ متجدد مناهض للإمبريالية ضد التدخل الأجنبي، وأعيد صياغته لمعالجة التهديد الجهادي الجديد.

ليس هناك أدنى شك في أن التمرد نتج عن إحباط شعبي من الحكم الاستبداديّ المستمر والظلم الاجتماعي المتزايد (Corm 2013) وليس نتيجة الانقسامات الطائفية والعرقية التي أصبحت الإطار السردي السائد للنزاع السوري. أضف إلى ذلك غياب الحركات الإسلامية -باستثناء الجهاديين- إلى حد كبير عن الشارع السوري، وأنها لم تعاود الظهور إلا في إطار المنافسة للسيطرة على المجلس الوطني الجديد -الهيئة التي تمثل المعارضة السورية في الخارج- وفي ظل غياب أحزاب علمانية معارضة ذات مصداقية. ومع ذلك، صوّر الرئيس بشار نظامه كضحية للقوى الإسلاموية، حيث صنّف كلا من النشطاء السوريين والمقاتلين الأجانب باعتبارهم “إرهابيين”. ومن خلال تعبئة دعم الأقليات السورية وتجنيد الميليشيات العلوية (الشبيحة)، أضفى النظام على الصراع بعدا طائفيا، وهو ما سعت المعارضة السنيّة إلى استغلاله كحجة شرعية (كون السنّة يشكلون 70٪ تقريبا من السكان) لجذب دعم الفاعلين الإقليميين من السنّة (بشكل رئيسي المملكة العربية السعودية وقطر).

يمثّل هذا التحول في خطاب النظام محاولةً واضحة لنزع شرعية الانتفاضات عبر تقليصها إلى مستوى تهديد راديكالي خارجي لاستقرار سوريا، للطعن في المطالب السياسية “المشروعة” لتطلعات الشعب، ولتفتيت تحالف خصوم النظام. كانت الانتخابات الرئاسية المنعقدة في العام 2014 جزءاً من الحملة العسكرية، حيث أعلن المرشح المنافس أن المنافسة الانتخابية كانت بين سوريا وأعدائها وأن الرئيس المنتخب سيفوز على الولايات المتحدة والملكيات العربية وتركيا، المستمرين في دعم الإرهابيين. في هذه الأثناء، انحصرت الشرعية الداخلية في تهديد: إما الوضع الراهن أو الوعد بالفوضى -“الأسد أو نحرق البلد”- مع طموح ضئيل لأي إنجاز وطني جماعي (Khouri 2014).

أثار تعنُّت القيادة السورية وقرارها بسحق الانتفاضة عسكريا ثورة أخرى في العلاقات الخارجية السورية. وقد حولت مشاركة المؤيدين الإقليميين والدوليين ،الذين قدموا الدعم السياسي والمالي والعسكري للفصائل المتنافسة والمقاتلين الأجانب، سوريا إلى ساحة لحروب الوكالة الإقليمية وكذلك للمنافسة الأمريكية الروسية. وعلى الصعيد الإقليمي، سقطت سوريا “ضحية لمزيج من الغطرسة الإيرانية، والمغامرات السعودية، والطموح القطري” (Harling 2014) فضلا عن طموحات تركيا الإقليمية في تصعيد إقليمي مكلف وخاسر بالنسبة إلى الجميع(16).

أثار الصراع على السيادة الإقليمية بين إيران الشيعية والمملكة السعودية السنية صراعات عميقة داخل السنّة؛ حيث تنافست المملكة العربية السعودية وقطر وتركيا على قيادة الانتفاضة والعالم السني بشكل أوسع. داخل ﺟﺒﻬﺔ اﻟﻤﻘﺎوﻣﺔ، ﻗﻮّﺿﺖ اﻻﻧﺘﻔﺎﺿات تلك الشراكة بين ﺣﻤﺎس وﻧﻈﺎم اﻷﺳﺪ وﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ التخلي عن “ﺟﺒﻬﺔ اﻟﻤﻘﺎوﻣﺔ” المناهضة ﻹﺳﺮاﺋﻴﻞ وغير المتحيزة لأي فصيل ﻓﻠﺴﻄيني رئيسي(17). وﻟﻜﻦَّ اﻻﻧﺘﻔﺎﺿات ﻋﺰزت ﺗﻤﺎﺳﻚ اﻟﺠﻬﺎت اﻟﻔﺎﻋﻠﺔ اﻟﺒﺎﻗﻴﺔ، التي وحّدها التصوّر القائل بأن الصراع يشكّل تهديدا وجوديا بالنسبة إليهم.

برَّر التدخل الأجنبي في الانتفاضات موقف الجبهة المناهض للإمبريالية وأدى إلى مزيد من إعادة صياغة خطابها. بالنسبة لحزب الله وإيران وسوريا، يمثّل الصراع ساحة محددة في الصراع الإقليمي الأوسع بين المقاومة والمؤامرة التي دبرتها الولايات المتحدة وإسرائيل بدعم من الدول العربية الموالية للغرب(18). كما حدد المرشد الإيراني الأعلى آية الله علي خامنئي دعم سوريا لحركات المقاومة كسبب رئيسي لسياسات أمريكا العدائية ضد البلاد، وقدّم للرئيس الأسد دعماً غير مشروط(19). وفسرّت طهران الدعم الإقليمي للمعارضة السورية على أنه هجوم مباشر على مكانة إيران الإقليمية وسرعان ما تدخّلت عسكريا عن طريق فيلق القدس التابع للحرس الثوري لاستعادة ما تسميه “التوازن” ومقاومة المؤامرة الخارجية لسحق المحور وإعادة هيكلة الشرق الأوسط (Wege 2015).

من المقاومة إلى مكافحة التمرد عابرة الحدود

مع تطورات الصراع، تطور خطاب جبهة المقاومة تدريجياً. وفي محاولة للنأي عن الاتهام بالمشاركة في غزو شيعيّ لسوريا تدبره إيران، استثمرت قيادة حزب الله الوقت والجهد في شرح الأهمية الاستراتيجية لتدخلها في سوريا: فقد تم النظر إلى داعش وغيرها من الجماعات الجهادية الأخرى باعتبارها مجرد أداة تخدم المشروع الأمريكي الإسرائيلي للإطاحة بالحكومة العربية الوحيدة التي تعادي إسرائيل وأمريكا في المنطقة بشكل صريح؛ لذلك فإن هذه الجماعات أهدافا مشروعة. علاوة على ذلك، يدّعي حزب الله مسؤوليته عن حماية ما يسميه “العمود الفقري للمقاومة”: كون هذه المنطقة ليست مجرد منطقة صدّ لتأمين خطوط إمدادها من خلال الأراضي السورية الداخلية، ولكنها البيئة الجيوسياسية والاستراتيجية التي يحتاجها حزب الله من أجل استمرار كفاءته التشغيلية. من هذا المنظور، تصبح الحرب ضد داعش امتداداً لحملة المقاومة، ويتولى حزب الله مسؤولية الحفاظ على الأراضي السورية واللبنانية والعراقية من السيطرة الجهادية.

في الوقت الذي شنّت فيه الولايات المتحدة غاراتها الجوية ضد المواقع الجهادية في الأراضي السورية، صار “الأعداء” التقليديين (الولايات المتحدة وإسرائيل) لجبهة المقاومة يبلُون الآن جيدا بتموقعهم في سوريا، وبالتالي يدعمون التطور المفاهيمي لنموذج المقاومة الأصلي باعتباره نموذجا عابرا للحدود لمكافحة حركات التمرد يجمع جيش مقاومة حزب الله، وقوات الحرس الثوري الإسلامي، والقوات المسلحة السورية، والميليشيات العراقية -على الرغم من اختلاف أولوياتهم- ضد شبكات الجهاديين عابرة الحدود والمؤامرات الدولية. وهكذا أصبحت الشرعية في المنطقة تأتي من الخارج، وهي عمل من أعمال الدعم الخارجي والتنافس الإقليمي أكثر من كونها نابعة من الديناميات الداخلية (Harling and Birke 2015).

بعد أربع سنوات من اندلاع الانتفاضة السورية، أصبحت البلاد “مثالاً فجّاً للدولة الفاشلة” (Hinnebusch 2014) حيث لا يمكن أن تصبح ادعاءات الشرعية المتنافسة أساسا للسلطة المركزية. وأصبح ما تبقى من الشعب في الداخل السوري نفسه -بعد موت أكثر من 250000 مواطنا ولجوء نحو أربعة ملايين (من أصل أكثر من 22 مليون) إلى البلدان المجاورة- يخضع الآن لسلطات مختلفة:

نظام الأسد الذي يسيطر على معظم المدن السورية الرئيسية وأقل من ثلثي السكان الموجودين داخل سوريا، وقوات المعارضة المسؤولة عن “المناطق المحررة” المتناثرة في محافظات إدلب وحلب ودرعا واللاذقية، وتنظيم الدولة الإسلامية الذي استولى على مدينة الرقة وأراض شاسعة في الجزء الشرقي من البلاد (Balanche 2015). ويؤكد كل كيان من هذه الكيانات على حقه المشروع في حكم على المناطق الواقعة تحت سيطرته (المؤقتة) ومواصلة محاربة الأعداء الذين يفتقرون إلى الشرعية السياسية ،كما يؤكد كل كيان، لأنهم إما نظاماً إجرامياً أو جماعات إرهابية أو مجموعة من الكفار. يلوّح كل طرف بانتزاع شرعية العدو كضرورة حتمية لإبادته في لعبة محصلتها النهائية صفر، ولا يمكن أن تؤدي إلا إلى مزيد من تصعيد العنف في صراع هو بالفعل كارثة إنسانية بشكل غير مسبوق.

الأطر الدوليّة للشرعيّة في الصراع السوريّ

منذ اندلاع النزاع المسلح، تدخلت القوى الغربية من خلال القنوات الدبلوماسية الثنائية والمتعددة الأطراف. وفشلت مؤتمرات السلام (مؤتمر جنيف الأول والثاني، ومؤتمرموسكو الأول والثاني) وقرارات مجلس الأمن الدولي في التوصل إلى حلول للحرب، ولكنها أبرزت مساحات صدام تفضيلات الدول المعنية، والتي تراوحت بين تأييد الانتقال السياسي الذي يشمل الرئيس الأسد، إلى فرض العقوبات والتدخل العسكري من أجل تغيير النظام. أثارت نقاشات ثلاثة تدور حول مسألة الشرعية المشهد الدولي: تقييم شرعية نظام الأسد، وشرعية التدخل العسكري الدولي، و”الحرب الجديدة على الإرهاب”.

أبدت القوى الغربية تحفظاً ملحوظاً في سحب الشرعية الممنوحة للنخبة السورية الفاسدة، حتى في أعقاب الضجة التي أثارها الإعلان الأمريكي ،في منتصف يوليو 2011 ، بأن الأسد “قد فقد شرعيته في أعين شعبه”(20). وتعكس البيانات المتناقضة من جانب المسؤولين الأمريكيين حالة الغموض التي تكتنف الجهود الدبلوماسية الدولية، التي ترددت بين “ضرورة” دعم التحول الديمقراطي، وتنامي”الحاجة” إلى الانخراط مع النظام كمحاور في المحادثات الدولية. وفي نهاية العام 2013، لم تقدّم اتفاقية الأسلحة الكيميائية شيئا لإنهاء المأساة السورية، بل أعطت النظام شرعية بحكم الواقع كشريك في العملية الدبلوماسية الدولية وكضامن للاتفاقية.

وساعد استشراء حالة الحرب، التي شهدت نجاح القتال الذي يخوضه “محور المقاومة” في سوريا إلى جانب قوى النظام، بينما كان القتال يحتدم بين جماعات المعارضة التي تزداد تطرفا، أقول ساعد ذلك النظام على استعادة اعتراف الفاعلين الغربيين به كخيار مقبول طالما سيطر الجهاديون الخارجون عن السيطرة على ساحة المعركة. وهذا يؤكد وجهة النظر القائلة بأن العوامل الخارجية ضرورية للحفاظ على “الشرعية” في سياسات الشرق الأوسط (Hudson 1977; Hinnebusch 2003)، على الرغم من أنّ هذا النوع من “شرعية” الأمر الواقع لا تتناسب مع التعريف الاصطلاحي للمفهوم.

لقد تم تأطير النقاشات الدولية حول شرعيّة التدخل الخارجي لإنهاء النزاع السوري إلى حد كبير ضمن قضايا الشرعية القانونية الدولية والتأييد الدولي العام. وكانت معارضة روسيا والصين القيام بعمل عسكري في سوريا لاعتباره انتهاكا لسيادة الدولة السورية، ولاعتبار هذا التدخل مخالفا للقانون الدولي وسوف يؤدي إلى تغيير النظام، وبالتالي منعت هذه المعارضة مجلس الأمن الدولي من إعطاء الشرعية القانونية لأي تدخل غربي (Putin 2013). ومنذ أن أظهر الرأي العام الأمريكي دلالات واضحة على “الحرب المضنية التي لم تُحسم” بالإضافة إلى اعتراض البرلمان البريطاني في أغسطس 2013 على تحمس حكومته للتدخل في سوريا، واصلت الحكومات الغربية استراتيجياتها الدبلوماسية والعلاقات العامة لتأكيد معاييرها الأخلاقية المشتركة كبديل من أجل ممارسة الجهود الدبلوماسية القوية اللازمة لإشراك سوريا وحلفائها في التفاوض.

بحلول نهاية العام 2013، بلغ القتال بالفعل مستويات غير مسبوقة في المنطقة من العنف والدمار دون أن يلوح في الأفق أي حل للنزاع. وبالرغم من ذلك، لم يكن حجم الكارثة الإنسانية السورية هو الذي أدى في النهاية إلى تدخل دولي، وإنما صعود تنظيم الدولة الإسلامية وشبح الإرهاب الدولي.

شكّل صعود تنظيم الدولة الإسلامية نقطة تحول في الصراع السوري بطرق عديدة. حيث تحول النهج الدولي تجاه الحرب على نحو كبير: من القلق بشأن مصير سوريا إلى القتال ضد داعش، ومن ترجيح شرعية النظام السوري إلى التشكيك في شرعية الدولة السورية و”حدودها الهشة”، ومن تقييم اللاعبين السياسيين السوريين الجدد إلى رسم خرائط المصالح الجيوسياسية. وشهدت الحملة الجوية التي أطلقتها الولايات المتحدة في سبتمبر 2014 لاحتواء تمدد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا مشاركة خمس ملكيات استبدادية إقليمية (البحرين والأردن وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة) الذين شعروا بالقلق حيال استفحال نتائج حربهم بالوكالة، ومهدوا الطريق لإعادة تأهيل الرئيس الأسد، الذي انضم الآن إلى الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية. يدل ذلك على أن المبادرة الغربية كانت نتيجة لاعتبارات السياسة الواقعية؛ بما في ذلك تهديد استمرار الدولة العراقية التي استثمرت فيها الولايات المتحدة كثيرا، والحفاظ على الوضع الاستبدادي الإقليمي الراهن.

وعلى الرغم من الافتقار لدعم مجلس الأمن الدولي، إلا أنّ المراقبون الغربيون قبلوا على نطاق واسع بالحملة الجوية التي تقودها الولايات المتحدة بوصفها تتمتع بالمشروعية اللازمة في الوقت الذي كانوا ينتقدونها فيه لاعتبارات عملية؛ بالنظر إلى الاحتمالات الضعيفة لنجاحها. لقد طغى التركيز على الحملة الجوية على عدد من الأسئلة الأخرى، بما في ذلك عجز مجلس الأمن عن اتخاذ مزيد من الإجراءات بعد تدمير ترسانة الأسلحة الكيماوية السورية “المعلن عنها” وفشل الوكالات الدولية والاستشاريين الغربيين والمساعي الدبلوماسية في معالجة واحدة من أعظم الكوارث في عصرنا، وهي الأسئلة التي يمكن أن تشير إلى “فقدان آخر للشرعية”. تضاءلت هذه المخاوف تدريجيا بعيدا عن التأطير الدولي للحرب السورية عندما أصبحت “الحرب على الإرهاب” هي سرديّة الشرعنة الشاملة للتدخلات العسكرية.

 

الحرب (العربيّة) على الإرهاب الإسلاميّ

منذ إطلاق الرئيس بوش “الحرب على الإرهاب” في أعقاب هجمات 11أيلول/سبتمبر 2001، قبل الرأي العام الغربي ،كواقع مرير، الرأي القائل بأن الحفاظ على الأمن الدولي يقتضي التفوق في العنف لا التخلي عنه (Butler 2004)، وأنه لا توجد قيود على استخدام العنف باسم العدالة المبررة أخلاقيا (Heristchi 2005). إن جزءاً من خطاب “الحرب على الإرهاب” يُعدّ استراتيجية لنزع الشرعية السياسية القائمة على ممارسة وصف المعارضة بـ”الآخر” المتطرف، الذي لا يمكن التعامل معه إلا من خلال القضاء عليه، وبالتالي منع إمكانية تقييم مدى صحة مطالب العدو. ولاحقا، يتم ربط سلسلة من الارتباطات المعيارية بالقضية المعنيّة، وتختفي الحالة (الاستبدادية) التي تم اختيار القضيّة من أجلها. كما تصبح معاناة المدنيين العالقين وسط هذه الحرب غير مرئية: فالعنف الواقع عليهم ما هو إلا مجرد ثمن لتحريرهم.

في الغرب، يعتبر خطاب “الحرب على الإرهاب” في النهاية خطابا مُبسَّطا يهدف إلى تجاهل تعقيدات القضايا السياسية التي تتطلب معالجة مطالب وأهداف المعارضة. وبعد مرور عام على حملة القصف الجوي، واصل الغرب اتباع مدخل إدارة الأزمات معتمدا على المعادلة التي تم اختبارها من قَبل القائمة على سياسات الهوية والاحتواء –لكلٍ من محور المقاومة والإسلاميين والإرهاب- كبديل عن رؤية سياسية واضحة بشأن مستقبل سوريا (Harling and Birke 2015).

في العالم العربي، تمثّل “الحرب على الإرهاب” أداة سلطويّة جديدة للحفاظ على الذات، وهي محاولة لإيقاف الانتفاضات الجماهيرية التي اجتاحت المنطقة. تُبيّن الطريقة التي فكّك بها خطاب “الحرب على الإرهاب” بنية الخصوم مدى سهولة تبنّي القادة العرب لمجموعة من الشعارات التي تعكس المواقف الغربية تجاه الإرهاب. بالنسبة إلى جبهة المقاومة، يشمل الأعداء كلا من الإرهابيين التكفيريين كداعش بالإضافة إلى “الدول المعادية” التي تُحَدّد باعتبارها داعمة للإرهاب (المملكة العربية السعودية وتركيا) أو “أم الإرهاب” (الولايات المتحدة وإسرائيل)(21). باتت أكثر الأعمال الوحشية التي ترتكبها الحكومات الإقليمية محصّنة ضد الانتقادات في الوقت الذي يقودون فيه دولهم إلى هاوية “الحرب العربية على الإرهاب”، وهو موقف سريالي، يحاكي فيه حسن نصر الله جورج بوش (al.Saadi 2013)(22).

دون التمييز بين مختلف أيديولوجيات وأهداف ووسائل حركات المعارضة المختلفة، تخلق سرديّة “الحرب على الإرهاب” نبوءاتها من العداوة وتُنتج الأصولية التي تدعي محاربتها (Gregory 2004). والمفارقة الحقيقية للسرديّة الطائفية المتورطة في المنطقة هي أنها تحتفي بالنصر المذهل على الإمبريالية الثقافية التي هي استشراقية وكارهة للإسلام في جوهرها. بينما في العالم العربي اليوم، كاريكاتير شخصية الإرهابي هو الرجل الملتحي الذي يُرعب الجمهور الغربي (al.Saadi 2013).

وباعتباره شعاراً قوياً للأنظمة الحاكمة على المستوى العالمي، مع توظيف ثقافة الخوف من الآخر، أمّن “الإرهاب” للقادة السوريين فرصة جديدة لإعادة صياغة الخطاب السياسي السوري ونشر آليته السلطوية على المستوى الإقليمي. حيث يسمح تبنّي خطاب “الحرب على الإرهاب الإسلامي” للنظام باكتساب “شرعية” بين الأقليات المحلية التي تخشى ظهور حكم إسلاميّ وبين الفاعلين الدوليين مع تبرير وحشية الحرب ضد المعارضة المسلحة والمدنية. ومن هنا تصبح الحرب على الإرهاب كتأييد وتوسيع للممارسات القمعية التي يمارسها النظام. التناقض الذي يكمن في تحولات الخطاب السياسي هذه ليس هو تحول صورة بشار الأسد العامة؛ من أحد الرؤساء الجيدين لمجتمع علماني إلى بطل مقاوم للإرهاب الإسلامي. حيث يمتلك النظام السوري تاريخا طويلا في تحويل وجهة النضال ضد النظام بعيدا عن السلطات ونحو القتال بين الطوائف المذهبية. في العام 1982، كان الهجوم العسكري الذي شنّه حافظ الأسد على الثوار في مدينة حماة –الذي أدى إلى مقتل نحو 20 ألف شخص وخلق ذاكرة طويلة من الخوف- مصحوبا بهجوم أيديولوجي حوّل التمرد السياسي إلى صدام بين الحكومة والإسلاميين المسلحين.

على مدى عقود من الحكم الأسدي، لم يتوقف النظام مطلقا عن زرع الانقسامات المجتمعية من خلال تطييف الأجهزة الأمنية ​​والمناورة بالجماعات الجهادية في العراق ولبنان. مع هذا التحول الأخير، اكتملت دائرة الخطاب السياسي السوري: من خطاب ثوري تحرري وبناء الدولة إلى خطاب معادٍ للثورية و”لا شيء آخر يمكن تقديمه على بشار الأسد” (Harling 2014) وتشظّي الدولة. ومع دخول الحرب السورية عامها الخامس، اختفت سوريا فعلياً بينما غابت تطلعات ما تبقى من الشعب السوري “المُشتّت الآن بين المقابر والسجون والمنافي” وسط سرديّات “الإرهاب” و”الحرب بالوكالة” والصراع الديني و”الحرب الأهلية” (Saleh 2014b). تُحرّك المخاوف من ردة فعل جهادية أخرى ضد المصالح الغربية عملية صنع القرار الغربي –التي تتغافل استراتيجيات فرّق تَسُد التي اتبعتها والتي صنعت العداء الراديكالي في المنطقة – في حين تخوض القوى الإقليمية حروبها الخاصة من أجل الهيمنة على الأراضي السورية. وبتقليص سوريا إلى ساحة جيوسياسية، أصبحت سوريا الآن “بلد بلا شأن داخلي” (Saleh 2014a).

 

أدى إطلاق الحملة الجوية الروسية في 30 سبتمبر 2015 إلى مزيد من الكشف عن مدى جدوى ادعاءات الشرعية في سياق الحرب السورية. فبعد أن نجحت موسكو في استباق التدخل الغربي، قامت بشرعنة تدخلها من داخل مصطلحات المصلحة الوطنية ودعم الحكومة السورية “الشرعية” في حربها ضد الإرهابيين. ركّزت تحليلات المعلقين الدوليين على حرب موسكو الباردة ضد الولايات المتحدة (Harling and Birke 2015) ومنافستها المضمرة مع إيران (Hamidi 2015) كسُبُل تمكّن روسيا من استعادة مكانة بارزة على الساحة الدولية وتأسيس تأثيرها على مستقبل الشرق الأوسط. في هذا السياق، تُعاد الآن شرعنة نظام الأسد بسبب موقفه الموالي للهيمنة الروسية الإقليمية الناشئة، التي تفرض أمراً واقعاً في ساحة المعركة لتأمين موقف بشار الأسد وإيران، ومصالحها الإقليمية الخاصة، في المفاوضات الدبلوماسية القادمة.

خاتمة: إعادة إنتاج السلطة وادعاءات الشرعيّة

بالدرجة الأولى ركزت هذه المقالة على الطرق التي تعمل بها ادعاءات الشرعية على تثبيت الأجندات السياسية الداخلية والإقليمية للنظام السوري، بما يساعد في الحفاظ على استمرار سلطته وضمان بقائه. يشير هذا الحجاج إلى السيطرة المستمرة على المواطنين السوريين من قِبل آليات السلطة الخطابية التي تعمل على كبت قدراتهم على تصور حلول مختلفة، حتى عندما ثبت أنّ الشرعية والتمثيل السياسي والأخلاقية مجرد أقنعة تُخفي ما هو أسوأ. وقد تعقبت هذه الورقة مسار الخطاب السياسي السوري من سرديّة التغيير إلى سرديّة الحفاظ على الوضع الراهن، مع المحاججة بأن مفهوم الشرعية هو مفهوم مُضلل كمعيار تحليلي لأنها تقلل من أهمية آليات الضبط والتطبيع وهي العمود الفقري لسلطة الأسد الحاكمة. علاوة على ذلك، فحصت هذه الورقة الأطر الإقليمية والدولية للشرعية في علاقتها بالحرب السورية، حيث بيّنت التحولات بين السرديّات الدبلوماسية للتفاوض والتدخل، والإلحاحات الأمنية، والصراع الديني والحرب على الإرهاب.

توضّح الحالة السورية قصور المفهوم السائد للشرعية كأداة تحليلية لفهم السياسة الحديثة. حيث تُخفي العلاقة الارتباطية المفترضة بين الشرعية والمُعتَقد والعلاقة العكسية بين الشرعية والعنف على السواء القهر والعنف المُضمَريْن في عمليات الشرعنة، وتُشتِّت الانتباه عن آليات السيطرة الحاذقة، مثل العمليات المستمرة لصياغة استراتيجيات الشرعنة وإنتاج الامتثال، التي تعتبر أساسية لديناميكية الانتاج الاجتماعي والسياسي. ومن هنا، يُشوّش المفهوم السائد للشرعية على تفكيرنا في السلطة والسيطرة الاجتماعية. نحن بحاجة إلى إعادة صياغة جذرية لأطرنا المفاهيمية بعيدا عن الانصياع السياسي “للشرعية” وتوجيهها نحو النظر في الجوانب الخطابيّة للسلطة والهيمنة.

تشير الخطابات السياسية للعداء والمقاومة والإرهاب التي قمنا بتفحصها في هذه الورقة إلى البُنى القهرية للسلطة والجغرافيات الخيالية للعنف والأنظمة المتشبعة ذاتيا بنبوءات العداء. يتم تأطير ادعاءات الشرعنة في -وبالتأسيس مع- مثل هذه البُنى الخطابية التي ترتكز على الممارسات الحكومية والاجتماعية. وتُظهر الحالة السورية أن عمليات الشرعنة هي عمليات أداتية أو بنائية للمخيال السياسي -للذات والآخر وفضاء الاشتغال- بالإضافة إلى آليات الحد من الفضاء الخطابي الذي يتحدّى الوضع الراهن لتقاسم السلطة. يمكننا فقط إذا فهمنا عمليات الشرعنة كعمليات قهرية على المستويين النظري والعملي أنْ نرى أنَّ العمليات السياسية التي تشكّل التوافق والنزاع في الشرق الأوسط غير منفصلة، كما يفترض التحليل التقليدي.

 

الهوامش:

 

من بين الدراسات التي قدّمت مفاهيم معيارية عامة متقدمة عن مفهوم الشرعية، انظر: Buchanan (2003); Buchanan and Keohane (2006).

Wedeen (1999). See also O’Kane (1993)

مقابلة الأسد مع Wall Street Journal في 31 يناير 2011.

استندت شرعية نظام حافظ الأسد إلى حد كبير على النجاح النسبي لحرب 1973، انظر: Hinnebusch (2001), chapter 7.

بشأن دور المؤسسات الحزبية والكوربوراتية/الإدماجية corporatist في تشكيل فلاحي الطبقة الوسطى والدوائر الانتخابية الحضرية، انظر: Hinnebusch (2001) and Batatu 1999)).

صاغ المؤتمر الوطني الثاني عشر لحزب البعث (المؤتمر الإقليمي السادس) شعار المعركة المزدوجة، وبالتحديد معركة “التنمية والتحرير”.

خطاب الأسد أمام الاتحاد العام للفلاحين في سوريا، 14 ديسمبر 1972.

مقابلة للكاتبة مع ياسين الحاج صالح، اسطنبول، أغسطس 2014.

انظر على سبيل المثال المدارس والجامعات الخاصة غير المعتمدة التي تم افتتاحها حديثا والتي واكبت نظام التعليم الهشّ والمناهج المتقادمة للمدارس الحكومية.

كلمة الرئيس الأسد ، اتحاد الصحفيين السوريين ، أغسطس 2006.

انظر خطابات حسن نصر الله 13 مارس 2003، 2007.

بشار الأسد، الوكالة العربية السورية للأنباء، 30 مارس 2011.

صحيفة الثورة، 5 أبريل 2010، انظر أيضا: (Rubin (2010

مقابلات للباحثة، دمشق، مارس 2010 وبيروت 2012. انظر أيضا صحيفة الثورة، 16 أغسطس 2006 ، “سيحارب السوريون إسرائيل في كل جزء من الجولان تماما كما حاربت المقاومة اللبنانية”.

المنار، 24 مارس 2010.

انظر: Wieland (2015).

التحرير الفلسطينية القيادة العامة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة أحمد جبريل لتوريط الفلسطينيين في الصراع السوري.

خطاب نصر الله، الذي ألقاه بمناسبة المولد النبوي بداية شهر فبراير 2012.

انظر: الرابط.

“كلينتون تقول إن الأسد فقد شرعيته” ، رويترز 12 يوليو 2011.

انظر “نصر الله: أمريكا أم الإرهاب”، صحيفة الأخبار، 23 سبتمبر 2014

من الأمثلة على ذلك عدم الغضب من قتل أنصار الإخوان المسلمين في مصر عام 2013 ، والصمت حيال القمع المتصاعد في دول الخليج.

 

المراجع:

 

Ababsa, M. 2011. “Agrarian Counter –Reform in Syria.” In Agriculture and Reform in Syria, edited by R. Hinnebusch, et al. Lynne Rienner for the University of St Andrews Centre for Syrian studies.

al.Saadi, Y. 2013. “The Rise of the Arab ‘War on Terror’ Discourse”. Muftah.

Balanche, F. 2015. The Political Geography of Syria’s War: An Interview with Fabrice Balanche, by Aron Lund, January 3. Washington, DC: Carnegie Endowment for International Peace.

Bar, S. 2006. “Bashar’s Syria: The Regime and Its Strategic Worldview.” Comparative Strategy 25: 353–445. doi:10.1080/01495930601105412.

Batatu, H. 1999. Syria’s Peasantry, the Descendants of Its Lesser Rural Notables, and Their Politics.

Princeton, NJ: Princeton University Press.

Beetham, D. 1991. The Legitimation of Power. Basingstoke: Macmillan.

Buchanan, A. 2003. Justice, Legitimacy and Self-determination: Moral Foundations of International Law. Oxford: Oxford University Press.

Buchanan, A., and R. O. Keohane. 2006. “The Legitimacy of Global Governance Institutions.” Ethics & International Affairs 20 (4): 405–437. doi:10.1111/j.1747-7093.2006.00043.x.

Butler, J. 2004. Precarious Life. London: Verso.

 

Clark, I. 2005. Legitimacy in International Society. Oxford: Oxford University Press.

Cobban, H. 2008. “Hamas and the End of the Two State Solution.” Boston Review, 1 May.

Coicaud, J.-M. 2002. Legitimacy and Politics: A Contribution to the Study of Political Right and Political Responsibility. Cambridge: Cambridge University Press.

Corm, G. 2013. “The Socio-Economic Factors behind the Revolutions of the Arab Spring.” In The Arab Spring Critical Analyses, edited by K. E.-D. Haseeb. London: Routledge.

Gregory, D. 2004. The Colonial Present. Malden, MA: Wiley-Blackwell.

Habermas, J. 1979. “Legitimation Problems in the Modern State.” In Communication and the Evolution of Society edited by T. McCarthy . Boston: Beacon Press.

Haddad, B. 2012. Business Networks in Syria: The Political Economy of Authoritarian Resilience.

Stanford, CA: Stanford University Press.

Hamidi, I. 2015. “La présence militaire russe en Syrie ne se limitera pas à quelque mois “. Al-Ahram hebdo, 14 October.

Harling, P. 2014. “The Arab World into the Unknown”. The Arabist, 14 January.

Harling, P., and S. Birke. 2015. “The Islamic State though the Looking-Glass.” The Arabist, March 3.

Link

Heristchi, C. 2005. “Imaginative Geographies of the War on Terror.” Paper presented at the 2005 CMES workshop, Exeter University, UK.

Heydemann, S., ed. 2004. Networks of Privilege: The Politics of Economic Reform in the Middle East Revisited. New York: Palgrave Press.

Hinnebusch, R. 2001. Syria: Revolution from Above. London: Routledge.

Hinnebusch, R. 2003. International Politics of the Middle East. Manchester: Manchester University Press.

Hinnebusch, R. 2014. “The Multiple Layers of the Syrian Crisis.” Political Insight, 17 March.

Hinnebusch, R., and T. Zintl, ed. 2015. Syria from Reform to Revolt. Syracuse: Syracuse University Press.

Hokayem, E. 2010. “The Evolving State/Non State Nexus.” IISS Global Strategic Review.

Hroub, K. 2004. “Triggering a Discourse of Resistance”. IP Journal, 1 August.

Hroub, K. 2009. “The Arab System after Gaza.” Open Democracy, 27 January.

Hudson, M. 1977. Arab Politics: The Search for Legitimacy. New Haven, CT: Yale University Press.

Ismail, S. 2006. “Authoritarian Civilities and Syria’s stalled Political Transition.” Paper presented at the American Political Science Association annual Meeting, Philadelphia, US.

Khalidi, A., and H. Agha. 1991. “The Syrian Doctrine of Strategic Parity.” In The Middle East in Global Perspective, edited by J. Kipper and H. Saunders, 186–218. Boulder: Westview Press.

Khouri, E. 2014. “Assad and the Post-Eternity Era.” Qantara.de 4 June.

Kitus, A. 2014. A Post-structuralist ‘Concept’ of Legitimacy. Tartu: University of Tartu Press.

Landis, J., and J. Pace. 2006. “The Syrian Opposition.” The Washington Quarterly, winter 2006-07.

Mbembe, A. 1992. “Provisional Notes on the Postcolony.” Africa: Journal of the International African Institute 62 (1): 3. doi:10.2307/1160062.

Nasrallah, H. 2009. “Nasrallah Commemorates Al-Quds Day” speech, 18 September 2009. Alahednews.com.lb.

Noe, N., ed. 2007. Voice of Hezbollah. London: Verso.

O’Kane, R. 1993. “Against Legitimacy.” Political Studies 41: 471–487. doi:10.1111/post.1993.41. issue-3.

Pierret, T. 2013. “Angry Arab Interviews: Thomas Pierret on Syria.” 25 April.

Putin, V. 2013. “‘A Plea for Caution from Russia’. What Putin Has to Say to Americans about Syria.” The New York Times, 11 September.

Rapkin, D. P., and D. Braaten. 2009. “Conceptualising Hegemonic Legitimacy.” Review of International Studies 35 (1): 113–149. doi:10.1017/S0260210509008353.

Rubin, B. 2010. The Resistance Strategy. Herzliya: Global Research in International Affairs (GLORIA).

Saad-Ghorayeb, A. 2011. Understanding Hizbullah’s Support for the Asad Regime. Beirut-London: Conflicts Forum.

Saleh, Y. A.-H. 2014a. ”‘Forty-four Months and Forty-four Years: 1- Two Blindfolds.” L’Internationale, 16 November.

Saleh, Y. A.-H. 2014b. “Freedom, Social Change, and Syria”. Al-Jumhuriya, 28 June.

Wedeen, L. 1999. Ambiguities of Domination. Chicago: Chicago University Press.

Wedeen, L. 2013. “Ideology and Humor in Dark Times: Notes from Syria.” Critical Inquiry 39: 841–873. doi:10.1086/671358.

Wedeen, L. n.d. “Abandoning ‘Legitimacy’? Order, the State, and Neoliberal Ideology”. Unpublished paper, The University of Chicago.

Wege, C. 2015. “Iran and Assad Are Not Winning.” Fair Observer, 1 April.

Wieland, C. 2015. “The ancient regime policy paradox.” In Syria from Reform to Revolt, edited by R. Hinnebusch and T. Zintl. Syracuse: Syracuse University Press.

Žižek, S. 1989. The Sublime Object of Ideology. London: Verso.

مصطفى الفقي

كاتب ومترجم مصري.

أستاذة العلوم السياسية بالجامعة البريطانية بالقاهرة، وأستاذ زائر بمعهد الدراسات الدولية جامعة لشبونة، وزميلة مركز الدراسات السورية في جامعة سانت أندروز، المملكة المتحدة. تشتغل مشاريعها البحثية على السياسة والعلاقات الدولية والسياسات الاقتصادية لسوريا البعثية وتاريخ الشرق الأوسط.

معهد العالم للدراسات

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى