مراجعات كتب

بن جودا في «هذه لندن»:  الحياة والموت والعوالم السفلية في المدينة المتغيرة/ إبراهيم درويش

 

 

عندما تشاهد صور السفن البدائية والقوارب المطاطية وهي تبحر في المتوسط مزدحمة بالأطفال والنساء والرجال الكبار تعرف أنهم مهما كانت دواعي هجرتهم أو مخاطرتهم بأنفسهم فهم يريدون البحث عن حياة جديدة في أي مدينة. وعندما قامت الحكومة الفرنسية الشهر الماضي بتجريف وهدم معسكر للاجئين في مدينة كاليه يطلق عليه «الغابة» كان سكانه يريدون وجهة واحدة وهي لندن. وفي أذهانهم كل القصص عن الحياة الجديدة عن الشوارع المرصوفة بالبذخ وعن الوظائف التي تنتظرهم لبناء حياتهم من جديد. ولكن لندن التي استقبلت طوال القرون والعقود موجات من المهاجرين لا تتعب صحفها من الحديث عنهم وخطرهم. وهي تخوض حملة للخروج من الإتحاد الأوروبي لمنع تدفقهم. ولندن تعد لانتخاب أول عمدة لها ـ مسلم من أبناء مهاجرين ـ وربما انتخبت ابن مهاجر يهودي آخر ولكنه ثري. فالأول صادق خان، إبن سائق حافلة في توتينتغ ـ جنوب لندن جاء من الباكستان ويمثل الطبقة العاملة والثاني هو زاك غولدسميث إبن عائلة غنية ويهودية ويمثل منطقة بارنز ـ غرب لندن الثرية.

ورشة

ولأن لندن تغيرت ولأن سكانها تغيروا ويتغيرون فحظوظ خان قوية. لندن تحوم بين الفكرة والحقيقة، هي حلم الشعراء «ومربط خيلنا» وهي حلم المهاجرين الباحثين عن فرصة، ولكنها عادة ما تغلق أبوابها. وهي اليوم في عهد المحافظين «ورشة» عمل تقوم بتدمير وتحطيم المدن القديمة وتعد ببناء عمارات فارهة ولكن لمن يشتري. والمشترون عادة من الأثرياء الروس وأهل الخليج وجنوب شرق آسيا، فالطبقة المتوسطة التي بنت المدن وقام عليها المجتمع لعقود تتعرض لضربات منذ عهد مارغريت تاتشر للحكم ولم تحظ بنصيب في مشروع العمال الجدد الذي قاده توني بلير ولا حظ لها في مشروع المحافظين الجدد لأنها «عصرت» ولم يبق منها الكثير.

وعندما تسير في شوارع المدينة وأحيائها الفقيرة تعرف أن المدينة تتغير وبطريقة تصعب على التخيل. ففي كل بقعة «بنية» (منطقة خضراء) ترتفع بناية ومعها تحضر المتاجر الكبيرة ـ تيسكو وسانزبري وموريسون ـ والمقاهي ـ كوستا وستارباكس ونيرو ونوادي اللياقة البدنية ومطاعم الأكلات السريعة من ماكدونالدز وكي أف سي وناندوز وغيرها. وهذه هي معالم الليبرالية الجديدة والسوق الحر. وعندما تحاول اكتشاف المدينة التي عرفتها قبل سنوات من أسماء المحلات تعرف أنها مختلفة، فلم يتبق من «دكاكين الزوايا» الكثير واختفى بائع الحليب منذ أمد وتغلق مكاتب البريد أبوابها بمعدلات كبيرة، حيث حلت محلها الشركات التي تنقل طرود البريد مثل دي أتش أل وفيديكس. وحتى أسماء المحلات في لندن تغيرت ففي كل زاوية بقالة عربية ومطعم عربي وإيراني وأفغاني وبولسكا (بولندا) بحسب التركيبة السكانية التي تعيش في الأحياء. وهناك من يطلق على شارع «أكسبريدج» الذي يمتد من شيفاردبوش إلى حي أكسبريدج ـ شمال/غرب «شارع المسلمين». ومنذ دخول دول شرق أوروبا للإتحاد الأوروبي تدفق الملايين من أبنائها إلى لندن، فعمال البناء ونادلات المطاعم من البولنديات الجميلات. والمتسكعون المتسولون هم من «الروما» أو الغجر القادمين من رومانيا ومناطق أخرى وهناك البلغاريون والهنغاريون والتشيك. ويخبرنا بن جودا في كتابه المثير «هذه لندن ـ الحياة والموت في مدينة العالم» أن هناك طبقية في مجال الأعمال الدنيا داخل لندن، فمن يقوم بالتنظيف في المطاعم وقطارات الأنفاق هم من الأفارقة السود. ومن يقود طواقم العمال في المطاعم هم من الاستراليين والجنوب أفريقيين البيض طبعا أما العاملون في غرف الإستقبال بالفنادق فهم من الايرلنديين ـ البيض.

مطاردون

وفي كتابه الذي صدر بداية العام يقوم بن جودا برحلة في شوارع لندن ويرصد حجم التغيرات التي حصلت على المدينة خلال العقود الثلاثة الماضية. ويلتقي مع الحالمين بثروة وتجارة وعلم في مدينة العلم والتجارة ويرصد لنا كيف تحطمت أحلام كل من دخل المدينة بالسر أو بتأشيرة طالب وقرر البقاء عندما انتهت حيث تحول إلى مطارد «مقيم بطريقة شرعية» لا حظ له للعمل بدون أوراق ويعيش لحظة اكتشاف وهم ما قيل له عندما غادر مدينته أو قريته الأفريقية من أن المجد ينتظره. ويكتب بن جودا عن أحلام الذي جاءوا بحب للمدينة وكانوا يحثون الطيار على الإقلاع من بلادهم حتى لا يطير الحلم من بين أيديهم. وعندما يحلون بمدينة البرد والشمس الرطبة يكتشفون حجم الخطأ الذي ارتكبوه والآمال التي باعوها لعائلاتهم. فالمدينة اصطادتهم بسهرها الزائف ومنعتهم من العودة يجرون أذيال الخيبة ولا خيار لهم إلا البقاء على أمل تغير الحال. ومن أجل النجاة يتعلمون التسول ويصبحون ضيوفا ثقيلي الظل على أصدقائهم ومن يعرفون وينامون في مطابخ بيوتهم ويقترضون من هذا وذاك القليل من المال للنجاة. وفي خضم البحث عن عمل وهو قليل بسبب عدم توفر الإقامة يضطرون للعمل بطريقة غير شرعية. وحتى يستطيعون دفع الدين الذي اقترضوه من أقاربهم أو أصدقائهم للقدوم إلى لندن يعملون ليل نهار ويصبحون جزءا من العالم المنسي/ السفلي. ويخبرنا بن جودا أن في لندن 600.000 من المهاجرين غير الشرعيين وهو عدد أعلى من سكان مدينة غلاسكو أو أدنبرة الاسكتلنديتين. ولكنهم منسيون يعيشون في خوف دائم وينظرون للخلف عندما يسيرون في الشوارع لئلا تلاحقهم الشرطة وترحلهم ليس إلى بلادهم ولكن إلى الصومال إن كانوا أفارقة كما يقول عامل من غانا. وعندما يكتشف المهاجر غير الشرعي مأساته يلجأ إلى الوكالات التي تستغل حاجته حيث توفر له الأعمال اليدوية والدنيا في المطاعم وقطارات الأنفاق لغسل الصحون والسيارات وتنظيف النفايات التي يتركها ركاب الرحلات المتأخرة في ليلة السبت بعد غناء وقصف. يجمعون العفن الإنساني وما تبقى من نزوة حب عابرة ويغسلون بول المتعجلين وعبوات الكولا أو بقايا ساندويش وفي أحيان أخرى يجمعون أشلاء المنتحرين تحت عجلات القاطرات. وفي كل عام هناك المئات من الذين يرمون أنفسهم في محطات القطار هربا من حياة لم تعد تطاق.

النوم في الأنفاق

يرحل بن جودا في لندن من نيسدن في الشمال إلى إليفانت أند كاسل وإلفورد ونيوهام وباركينغ ووايت سيتي. يلتقي المتسكعين من «الروما» الذين تركوا بلادهم بحثا عن طرق لسداد الديون لمن يعرفون بـ»سمك القرش» الذين أٌقرضوهم المال ويريدونه، ويكتشفون أن لندن مضيئة لكنها بخيلة لا تأبه بهم فيضطرون للتسول في شوارع العرب أو قرب الفنادق والمحطات ويظلون يمشون حتى ينهكهم التعب ثم يعودون إلى الأنفاق التي ينامون بها على وقع صخب السيارات والحافلات وأصوات المارة الذين يلعنونهم. ويقول أحدهم أن السود هم من يتكرمون عليهم بقرش أو قرشين لشراء الطعام أما البولنديين والمغاربة فيقومون بالصراخ عليهم وشتمهم. يكشف بن جودا عن عوالم أخرى في لندن غير التي تكشفها المحلات الراقية والنساء بالكعب العالي اللاتي يحملن أكياس «هارودز» و» زارا» و «لوي فوتون» ويمشين بخيلاء النعمة. ففي لندن التي على ما يبدو لم تتخل عن طقوسها الإرستقراطية طبقية في الكدح ومناطق سيطرة لا يصح لجماعة أخرى دخولها أو العمل فيها. ويبحث بن جودا عن البيوت التي تكتظ بالمهاجرين البولنديين والرومانيين. ويقول إن عمال جمع النفايات يعرفون عدد من يسكن في هذه البيوت من عدد أكياس النفاية الملقاة أمام البيت. وحتى الجريمة تغيرت تركيبتها كما يقص موسيز الذي يلتقيه الكاتب في شيفاردبوش. فالكاريبيون الذين كانوا يقودون عصابات الجريمة أصبحوا يخشون من عصابات الشبان الصوماليين الذين يتجمعون باسم القبيلة معا لحماية أنفسهم ومعاقبة من يتجرأ عليهم. ويشير للكيفية التي تغير فيها الفضاء في لندن وكيف بدأ الإنكليز البيض بالرحيل من المناطق التي تكتظ بالمهاجرين وخطط التطوير الحكومي التي تعمل على دفع المهاجرين الذين سكنوا في بيوت البلدية الخروج منها وبناء شقق سكنية جميلة يشتريها عادة الأثرياء الروس.

ولا يكتفي بن جودا بالبحث عن الصورة الأخرى للندن بل يبحث في قصص المهاجرين والطريقة التي دخلوا فيها إلى بريطانيا. ففي نيسدن يقابل شفيع الله القادم من أفغانستان والحالم بالحرية والنساء الجميلات حيث وصف الخط الذهبي للرحلة التي بدأت من بيشاور مرورا بطهران واسطنبول وأثينا ثم إيطاليا وكاليه وعبر شاحنة لدوفر حيث وصل شفيع الله مع رفيقه الأراضي البريطانية. وردد بفرح اللازمة التي حفظها من المهربين: أنا هارب من الحرب وحياتي في خطر. ولكن شفيع الله الذي حلم بأضواء لندن وسحرها مثل الغاني أكويسي لم يجد إلا السراب. وهناك من نجح في تحقيق شيء ما مثل الشرطي النيجيري الذي جاء للدراسة والعمل بالتجارة ولكنه مر في تراتبية المهن الحقيرة قبل أن يصبح شرطيا. وقدم للكاتب صورة عن الجريمة ـ البيض الذين يعرفون السرقة والسود والبولنديون الذي يشربون ليدخلوا السجن حيث الدفء والطعام. ولا ينسى الكاتب المرور على المناطق التي يأتي إليها العرب ويكتب عن الطريقة التي تهرب فيها الخادمات الفلبينيات من العائلات العربية التي تجلبهن للخدمة في البيوت والشقق اللندنية، وتبدأ المحاولات عندما تذهب الخادمة مع سيدتها إلى متجر هارودز وهناك تلتقي مع عامل أو عاملة فليبينة تخبرها انها تريد الهرب ويبدأ بعد ذلك التخطيط وانتهاز الفرصة المناسبة حيث يتم ترتيب كل هذا عبر شبكة من المساعدين. ورغم النمطيات عن العرب وآراء الخادمات بمن خدمن معهن سواء كانوا روسا أو فرنسيين أو أفارقة وقصص الحب خلف طاولة الخدمة في المطاعم والبحث في الشوارع عن قصص المهاجرين غير الشرعيين . ينهي الكاتب رحلته بحوار مع حاج يقوم بغسل الموتى في طريق لي بريدج ـ شمال شرق لندن. يحكي عن الموتى الذين يغسلهم وما يواجهه من مشاكل وأنه في أحيان يتحدث مع الموتى. فعندما يرى عيونهم يعرف تجربة الألم التي مر بها الميت «عندما أقوم بالغسل دائما أفكر وأقول لنفسي: تذكر ستواجه الموقف يوما، ولهذا لا أستعجل أبدا بغسلهم وعندما يطلب أحد أن أغسل ببطء وهدوء أفعل، لأنني لا أعرف متى يحين أجلي. ودائما أفكر أن الرجل الذي أغسله هو أنا». ولكن الحاج الذي يعيش في لندن منذ عقود يقدم رؤيته عن مدينة تغيرت بسرعة. ويتذكر كيف تمشى في وايتشابل ـ شرق لندن عام 1976 لأول مرة حيث خرج غمام شتاء لندن من النهر وكيف انبعثت رائحة صبغ الجلود التي عمل فيها لمدة قبل تحوله لسائق سيارة. وهو الآن متعب من لندن المتغيرة كما أن الكثيرين متعبون من المدينة التي تغير وجهتهتها وصورتها بشكل دائم.

Ben Judah: This Is London: Life and Death in the World City.

Picador, London 2016

424 pp

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى