صفحات سوريةعمر قدور

بوتين القاتل بيدَيْ شيشاني/ عمر قدور

 

 

لم تحظ العملية الإرهابية التي نفّذها إرهابي قرب دار الأوبرا في باريس باهتمام عربي، وأغلب الظن أن الارتياح ساد لكون منفّذها “عظيموف” ليس عربياً هذه المرة، ما يعفي أبناء المنطقة من الإحساس بالمسؤولية أو بالذنب، أو نكران الاثنين معاً. هذه المرة أيضاً أتى تنديد ناتالي غوليه ببلدان آسيا الوسطى ليوجه الانتباه إلى جهة أخرى، فرئيسة لجنة التحقيق البرلمانية الخاصة بمكافحة الشبكات الجهادية وصفت تلك الدول بـ”عشّ للإرهاب”، الأمر الذي استدعى رداً من الرئيس الشيشاني رمضان قديروف يلقي فيه بالمسؤولية الكاملة على فرنسا، مضيفاً: ولِد فقط في الشيشان، لكنه نشأ وبنى شخصيته وآراءه وقناعاته داخل المجتمع الفرنسي. متابعاً: أنا واثق بأنه لو أمضى طفولته ومراهقته في الشيشان لكان مصيره مختلفاً.

جدير بالذكر أن قديروف يُعدّ رجل بوتين المخلص، وفي العديد من المناسبات توعّد معارضي الأخير بالمجيء إلى موسكو والتصدي لهم بالعنف. بالطبع من المثير للسخرية أن يثق قديروف بمستقبل أفضل لمواطنه عظيموف لو بقيت عائلة الأخير في الشيشان، مع أن تلك العائلة حصلت على اللجوء في فرنسا عطفاً على المجازر التي ارتكبها محبوبه بوتين والقبضة الأمنية لقديروف نفسه، ما يجعلنا نتوقع سيناريوهات مختلفة للمعنيّ، منها مثلاً أن يتعرض للتصفية في غروزني بسبب معارضته السلطة.

الحق أن اتهام عضو مجلس الشيوخ الفرنسي ناتالي غوليه جمهوريات آسيا الوسطى بتفريخ الإرهاب يعيد إلى الأذهان البروباغندا التي اعتمدها بوتين لتغطية الدمار والإبادة اللذين ألحقهما بغروزني، قبل نحو عشرين عاماً، أما رد الرئيس الشيشاني الحالي فهو مُستلهم من البروباغندا الروسية الحالية التي تتهم قيم الغرب بمساعدة الإرهاب، وتعني تحديداً قيم الحرية والديموقراطية. في الحالتين يبدو بوتين وهو يكسب الرهان في هذا الجدل، لأن يذهب بالتفكير ضمن احتمالات ترضيه، ولأن هذا الجدل يغطّي على مأساة عظيموف وسواه الأساسية التي تسبب بها بوتين أصلاً، وتسبب بها في غير مكان أشباه بوتين الذين لا يندر أن يكونوا مدعومين منه أو من أسلافه في زمن مضى.

بفضل بوتين اقتُلعت عائلة عظيموف من بلادها، بينما كانت مواقف الغرب إزاء المأساة الشيشانية فاترة، وكانت القيادات الغربية تتجه إلى تطبيع علاقاتها مع الرئيس الروسي الجديد بعد الشقاق الذي خلّفه التدخل الأطلسي في جمهوريات يوغسلافيا سابقاً. فرنسا، على سبيل المثال، وفّرت الأمان لعائلة عظيموف، وينبغي للأخيرة أن تكون ممتنة لها على ذلك، إلا أن هذه الحماية تبقى في أدنى درجات السلم في ما يخص الكرامة الإنسانية، لأن العائلة فقدت فعلياً كيانها السياسي بفقدانها وطنها، وفقدت كيانها السياسي مرة ثانية بوجودها في دولة تحتفظ بعلاقات طيبة مع العدو الروسي.

هذا يختلف كلياً عن موجات اللجوء أثناء الحرب الباردة، فحينها كان اللاجئ إلى الغرب ينتمي تلقائياً إلى منظومة معادية للسلطات التي تسببت بنفيه. حين كان الغرب يرفع شعارات الديموقراطية في وجه المنظومة السوفيتية، حتى إذا اعتراها شيء من النفاق أو النفعية، فقد كان حاملاً القيم التي يتوخاها هؤلاء اللاجئون، وكان لقضية اللجوء بمجملها بعد سياسي يجعل الحماية الغربية سياسية قبل أن تتضاءل لتصبح إنسانية فحسب.

إذا أخذنا أحزاب اليمين الغربية معياراً؛ فقد كانت هذه الأحزاب تعتبر نفسها الممثل الحقيقي لليبرالية، سواء أكانت الليبرالية الاقتصادية أو الحقوقية، وتطرح قيم الديموقراطية وحقوق الإنسان بوصفها قيماً كونية. صحيح أن ذاك التبشير لم يكن صادقاً دائماً أو تماماً، وهناك سجل من تعاون تلك الأحزاب مع أنظمة قمعية خارج الغرب، إلا أنه لا يُقارن بالزمن الحالي حيث لا تخفي أحزاب اليمين التقليدية “أو موجة اليمين الشعبوي” ميولها إلى النموذج البوتيني، من دون أن يقترب هذا النموذج من قيم الليبرالية التقليدية وإنما فقط على قاعدة اقتصار عدائها على الإرهاب، وتوهّمها أن بوتين شريك في ما يمكن اعتباره صراعاً للحضارات.

لا تجيب أحزاب اليمين أو اليسار على واقع أن مسألة اللاجئين في أوربا تفاقمت غالباً بفعل السياسات السوفيتية ومن ثم الروسية، وبفعل انعدام الحريات في هذا النوع من الأنظمة. إن شرائح عريضة من اللاجئين، الشيشان والأفغان والرومان ومن العراق… وأخيراً سوريا، أتت إلى أوروبا بسبب القمع الشديد الذي مارسته أنظمة لقيت الدعم من الاتحاد السوفيتي أو الاتحاد الروسي لاحقاً، ومن المستغرب أن يتوقف عداء اليمين عند اللاجئين فلا يطال نظاماً يمكن عدّه بشكل مباشر وغير مباشر من أكبر متسببي موجات اللجوء تاريخياً وحاضراً. القصور ذاته نشهده بتجنب نقاش وضع اللاجئين من المستعمرات الغربية السابقة، وأثر عدم اعتذار اليمين “أو مجمل الطبقة السياسية” عن الحقبة الاستعمارية على تلك العلاقة المضطربة بين هذه الشريحة من اللاجئين ومستعمرهم السابق، فلا هي علاقة فك ارتباط عاطفي ولا هي علاقة تصالح.

عندما نتحدث عن عدمية سياسية ملازمة للإرهاب فهذا لا يعني إغفال الأسباب السياسية له، ولا ينبغي أن يمنع تقصي الأثر المباشر لانقلاب الموقف الغربي منذ انتهاء الحرب الباردة على صعيد تبني قيم الحرية والديموقراطية، وأيضاً على صعيد قد يُفهم منه تغليب منطق صراع الحضارات. المنطق الأخير هو الذي يغلّب سياسات ليست الأكثر عنصرية ورجعية إزاء اللاجئين فحسب، بل أيضاً سياسات هي الأكثر عنصرية إزاء مجتمعاتهم الأم بدعم أنظمة متوحشة تحت لافتة عدم استحقاقها الديموقراطية، من هذه الثغرة يتسلل بوتين كشرطي بالوكالة كما يفعل الآن في سوريا، ومن هذه الثغرة يراهن هو على مزيد من ابتزاز الغرب، حيث ظاهر الابتزاز يتعين في أزمة اللاجئين بينما باطنه الانقلاب على الوجه الإيجابي لقيم الليبرالية. تصريح الرئيس الفرنسي ماكرون عقب الهجوم، بأن فرنسا لن تخضع قيد أنملة لأعداء الحرية، تنقصه رؤية أعداء الحرية الكبار ورؤية صُنّاع القتلة.

يخطئ الغرب إذ يميز الشرق على أسس دينية، فجمهوريات آسيا الوسطى خضعت وتخضع لأنظمة استبداد مدعومة روسياً؛ هذا مصنع الإرهاب الحقيقي الذي يجعل من مكافحته بلا طائل ما دامت الأسباب قائمة، حتى ما سُمّي بالخطر الشيوعي لم يكن بالخطر الأيديولوجي أو التبشيري بقدر ما كان في تلك النسخة الاستبدادية الشمولية البائسة التي كانت تعِد العالم بإعادته إلى عصر العبودية. بالطبع هذا بمجمله لا يعفي الأيديولوجيا الإسلامية من المسؤولية، بوصفها أيضاً أيديولوجيا شمولية، مع ملاحظة تعيّشها على مختلف أنواع المظلوميات.

أن نقول أن بوتين هو من نفّذ جريمة باريس بيدي عظيموف فهذا لا يتوقف عند المجاز الشخصي، إنه يتضمن المسؤولية الجماعية في عالمنا المعاصر، وفي مقدمها المسؤولية الجماعية عن جرائم الإبادة، هي مسؤولية من نفّذ ومن شجّع ومن صمت. بغياب الإحساس العالمي بالمسؤولية لا يُستبعد في أي وقت أو أي ظرف أن ينتقم الضحايا لأنفسهم، ومن عادة الانتقام “بخلاف العدالة” أن يكون أعمى، وأن يدفع ثمنه الأبرياء.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى