محمد زهير كردية

بورتريه المكونات الأولى للثورة

محمد زهير كردية *

قبل ثورتَي تونس ومصر، كان هاجسي كالكثير من الشباب السوري ينحصر في إنهاء الدراسة الجامعية والبدء بمشروع السفر إلى خارج سورية. انتصار الثورتين التونسية والمصرية واندلاع كل من اليمنية والليبية والبحرينية جعل احتمالات الحراك تزداد في بلدنا. لم نجد أنفسنا إلا منخرطين في التحضير للحدث السوري المنتظر، عبر التواصل مع مجموعات العمل والتجهيز لما عرف يومها بـيوم الغضب السوري في 5 شباط (فبراير) 2011.

كان هذا يحدث قبل دخول البلد في دوامة القتل والموت وآثارها المدمرة على مجتمع سورية بأسره، وانحسار المدنية لمصلحة العسكرة وما يظللها من تطرف ديني ومجموعات مقاتلة خارج الخط الوطني الذي بدأت به الثورة.

اليوم، عدنا والتقينا على طاولة مستديرة قبل أيام، شباباً وشابات وجدنا أنفسنا وقد لفظتنا الثورة خارجها نوعاً ما. أنا من مدينة السلَمية وأسامة من القامشلي وبتول من حمص وماريانا من دمشق. اخترنا التظاهر والعمل المدني والسلمي وبآليات ديموقراطية منذ بداية الحراك، ولم نزل نتمسك به حتى في زمن أفول شمس الثورة السَّلْمية إلى غير رجعة. يجدر بي أن أروي تفاصيل شخصية عن أصدقائي هؤلاء بما يطبع الحال والوصف العام لفسيفساء المجتمع السوري التي صبغت ثورته منذ انطلاقتها.

أسامة، شاب كردي، قضى حياته وهو يحمل في ذاكرته آلاماً لا تنسى، إذ إنه ومنذ كان طفلاً في المرحلة الابتدائية، كان يعود إلى بيته باكياً وهو يجيب عن سؤال أمه عن سبب بكائه: «إنهم يدرسوننا باللغة العربية رغماً عنا ونحن لا نعرفها ولم نتعلمها». وعندما كان يصارح المدرّسة بذلك كانت تقوم بصفعه وهي تقول: «عمرك ما تتعلم مو ناقصنا غير أكراد والله».

هذا مشهد واحد فقط من معاناة الأقليات الإثنية وهي تتلقى تعليمها في بلاد البعث.

بتول، تلك الفتاة الجميلة المفعمة بالحيوية والنشاط، هي من الطائفة العلوية، تم تهديدها بالقتل غير مرة من أخويها اللذين التحقا بشبيحة الأسد. بتول شاركت في تظاهرات الثورة في حمص وسارعت بعد أن صارت في دائرة الخطر للهرب إلى دمشق، حيث تعيش اليوم متخفية وتشارك في العمل المدني ضمن الثورة وفق المتاح للناشطين المدنيين. مع ذلك لم تسلم من بعض المجموعات السلفية المعارضة الموجودة في دمشق لكونها «علَوية».

أما مريانا فمسيحية من إحدى العوائل العريقة في دمشق، طردت وعائلتها ذات يوم من منزلها لأن قوات النظام السوري دخلت إليه واعتبرته مرصداً جيداً لإطلاق نار قناصيها على المتظاهرين. بعد أيام وبعد محاولات عدة تم إخلاء المنزل وعادت مريانا وأهلها إليه… لكن دوام الحال من المحال، فقد تم اقتحامه أيضاً من إحدى المجموعات السلفية بتهمة تعاون مريانا وأهلها مع قوات النظام. وبعد مفاوضات ومحاولات لإقناعهم بخطأ معلوماتهم خرجوا من المنزل.

هؤلاء الأصدقاء، وكثيرون لا أعرفهم، هم مثلي، اختاروا سلمية الحراك ومدنيته أسوةً ببلدان الربيع العربي كلها، قبل أن ينجح النظام نجاحاً باهراً يُسجَّل له في حرف ثورتنا عن طريقها وخطها الوطني والمدني الذي بدأته. مع ذلك يبدو هذا المشهد الوطني السوري الذي يضم كل أطياف المجتمع ومشاركتهم في الثورة، بصرف النظر عن درجة تلك المشاركة وحجمها، دليلاً على وطنية هذه الثورة ورداً على أنصار الخط اللاوطني، سواء كانوا مع النظام الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة أو من مناصري التطرف الديني المتنامي والذي يولد اليوم على حساب ولادة سورية مدنية ديموقراطية حرة.

* ناشط سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى