صفحات الناسهيفاء بيطار

بورصة الحياة السورية/ هيفاء بيطار

 

 

تكفي نظرة بانورامية سريعة إلى شكل الحياة في سورية، واختلافها الفظيع بين الشريط الساحلي والداخل، كي ندرك أن سورية أصبحت وطن اللامعقول من جميع نواحي الحياة، فسعر باقة البقدونس الذي يزرع في التربة السورية أصبح تابعاً للدولار أو اليورو، وسعر كنزة مستعملة ومهترئة من سوق الألبسة المستعملة الذي يتكاثر تكاثراً سرطانياً في سورية أصبح أيضاً تابعاً للدولار أو اليورو، مع العلم بأن القانون السوري يعتبر كل محلات الألبسة المستعملة مخالفة للقانون. وبالطريقة نفسها يعتبر كل المعاهد الخاصة للتدريس مخالفة، لكنك تجد كل صفوف المدرسة خالية، خصوصاً صفوف البكالوريا (الشهادة الثانوية) والمعاهد التعليمية الخاصة للتدريس تتزايد، وتفقأ عيون الدولة، ولا من يُحاسب!

يكفي أن يذهب مواطن لشراء بطاقة طائرة بين اللاذقية وباريس مثلاً، كي يُفاجأ بأن سعر الدولار اختلف بين ساعة وأخرى 50 ألف ليرة سورية، أي أنه خسر مبلغاً يعادل ضعف راتبه، وأن سعر بطاقة الطيران بين سورية وباريس مثلاً يعادل راتب الموظف السوري العادي عن سنتين! أصبح وجود السوري نفسه أشبه بالبورصة، فتارة تفتح أبواب أوروبا مصراعيها لاستقبال السوريين، وتليها كندا والجهود الحثيثة للكنيسة في تسهيل هجرة المسيحيين، وكذلك الجهود الحثيثة لاستقبال الطائفة الأرمنية في أرمينيا، وتارة تهدد هذه الدول، كما صرحت السويد أخيراً، بأنها ستُرحل أكثر من ثمانين ألف لاجئ، معظمهم سوريون، وأصبحنا نسمع أصواتاً، تنادي بعودة النازحين إلى سورية.

سورية مسرح اللامعقول، فلو هبطنا قليلاً من علو السماء، حيث تصدح الطائرات الروسية وطيران التحالف، مفزعين البشر والعصافير، لرأينا تبايناً مقلقاً ومُخيفاً على الأرض السورية، فالنهضة العمرانية السرطانية التي تصيب اللاذقية تُصيبنا بالذهول، ليس لأن المناطق غير البعيدة عنها تُدمر بالكامل، حتى أن حلب تكاد تتحول إلى مضايا ثانية، بل لأنه لم يبق بناء أثري في اللاذقية إلا ودُمر، وأنشئت بدلاً منه بنايات شاهقة من عشرين طابقاً أو أكثر. من لا يذكر مطعم اسبيرو المشهور عالمياً، والذي قرأت عنه في باريس وأميركا كأحد المعالم المهمة في اللاذقية، تحول الآن إلى بناية قبيحة، أشبه بالقلعة. ومن لا يذكر فندق جمال الجميل، والذي

“سورية أصبحت وطن اللامعقول من جميع نواحي الحياة” يُعتبر تحفة معمارية فاتنة، وكذلك فيلا الدكتور شدياق رحمه الله التي كانت تحفةً أثريةً، بما تضمه من لوحاتٍ فسيفسائية وبلاط نادر وخشب مُعتق من الزان وقرميد، كل ما ذكرته تدمر وتحول إلى ما يُشبه ناطحات السحاب. إعمار سرطاني في الساحل السوري يقابله تدمير سرطاني في حلب وإدلب وجسر الشغور والغوطة والرقة ودير الزور وتدمر وغيرها، كما أن اللوحة البانورامية لسورية بحر من الحطام، تتخلله مسلة تتحدى السماء، ولا تخشى الطائرات والقاذفات الصاروخية، وهي الشريط الساحلي، لكن إعمار الساحل لا يُعطي أي إنطباع بالصحة النفسية والعقلية، وحتى الجسدية، فسورية أشبة بجسد مريض، كل عضو من أعضائه عُطب، لكن الطبيب (وهو كل الدول المشاركة في الحل السوري ما عدا سورية) تُصر على أن تعالج عضواً فقط من هذا العضو المريض. كيف سأفرح بإعمار الساحل، وحلب الشهباء تُدمر، وتحتدم في محيطها أشرس المعارك. كيف سأفرح باللاذقية المسكينة يمحون هويتها، وملامح وجهها، ويدمرون أبنيتها الأثرية، ليقيموا بنايات تجارية عملاقة، فتبكي الأمكنة، كما بكى البحر يوم جريمة تبليطه؟ كيف سنقبل أن الساحل يُعمر، وآلاف الأطفال السوريين ينبشون في هضاب القمامة، يأكلون منها، وينامون في الشارع، ملتحفين بقطعة ورقٍ مقوى؟ أي إجرام أكبر من أن تصبح المدرسة رفاهية للطفل السوري، أو حلماً غير قابل للتحقيق، لأن الأهل يفضلون رغيف الخبز على الدفتر، فالمعدة الخاوية تئن مطالبةً برغيف الخبز؟ من يبالي بالسوري الذي في عز الشتاء تجد عائلات ترمي نفسها وأطفالها في البحر، متأملين النجاة، وليس الموت غرقاً؟

إن نظرة بانورامية سريعة للوضع السوري تبين أنه مأساوي بالكامل، ومأساوية الساحل المُتجمل على حساب تدمير مبان أثرية عظيمة، والنهضة العمرانية فيه، وقد تشوهت ملامحه بالكامل لا يقل ألماً عن الألم الذي تسببه الصواريخ والبراميل المتفجرة، التي تدمر أعزاز وحلب وغيرها. يأخذ السرطان أشكالاً عديدة، وخلايا سرطان الساحل السوري عمودية، بينما خلايا سرطان حلب الشهباء أفقية. وسورية بلد أو مسرح اللامعقول، والحياة فيها بورصة يومية بين الموت والحياة التي لا تشبه الحياة في شيء.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى