صفحات سوريةعمر قدور

بيانان شرعيان/ عمر قدور

 

 

 

بينما تُستهدف الثورة السورية بذريعة وصمها بالإسلامية، وبينما تُستهدف فصائل معارضة فقط بذريعة تشابك مناطق انتشارها مع أخرى إسلامية، لا يتوقف المخبر الإسلامي السوري عن الابتكار. شرعيو هذا المخبر، على اختلاف ولاءاتهم التنظيمية واختلاف مرجعياتهم الفقهية، يتصرفون بما يثبت جميع الذرائع، بل بما يدحض نهائياً إمكانية انتمائهم إلى الإطار الوطني، وبالطبع إلى أفق المواطنة الحرة المتكافئة بعدّه من أهم دوافع الثورة.

هكذا، وبصرف النظر عن عدم الاختصاص، يصدر رئيس المحكمة الشرعية المركزية في أعزاز تعميماً يقضي بعدم السماح باستقبال نازحي المنطقة الشرقية في مناطق سيطرته. المعنيون بالقرار هم النازحون من مدينة الرقة، حيث بدأت حسبما يُشاع معركة تحريرها من داعش، وكما هو معلوم تتولى وحدات الحماية الكردية الهجوم البري، ولهذه الوحدات سابقة أحاطت بها شكوك وانتقادات لدى تحريرها مدينة تل أبيض من قبل، وهناك اتهامات تتركز على إتباعها نهج التطهير العرقي. عدم تغيير الطبيعة الديمغرافية للرقة هو التبرير الذي جاء في قرار المحكمة الشرعية أيضاً، بينما كانت طائرات التحالف ترمي منشورات على الرقة تطالب الأهالي بإخلائها ضماناً لسلامتهم، بما يجعل أمر التغيير الديمغرافي المزعوم واقعاً، إما بتهجير السكان أو بمقتلهم تحت الضربات العسكرية الكثيفة المتوقعة.

إذاً، يمكن فهم قرار المحكمة الشرعية بوصفه تفضيلاً لمقتل المدنيين على نزوحهم، وتجوز قراءته كقرار سياسي في المقام الأول بناء على حساسيات محلية تجاه وحدات الحماية الكردية، وقبل ذلك بناء على حساسية الحكومة التركية إزاء الملف الكردي ككل. لكن مجيء الاستهتار بأرواح الأبرياء من جهة ذات طابع ديني، أياً كان السبب، لا يقدّم مثلاً جيداً على احترام كرامة البشر، ولا يقدّم مثلاً جيداً على طبيعة المعركة التي تخوضها هذه الجهات، بخاصة عندما تكون هي نفسها مهددة من تطرف داعش الذي يتقدم صوبها في الوقت ذاته بدل تركيز جهده للدفاع عن معقله في الرقة.

في سياق قد يبدو مغايراً للوهلة الأولى، تصدر هيئة الفتح في أريحا تعليمات تنفيذية تخص عمل المساجد في شهر رمضان المقبل. وإذا نوّهنا بأن المساجد السورية طوال قرون كانت تمارس عملها المعتاد، باستثناء ما يقحمه النظام من تعليمات سياسية تتعلق بخطبة الجمعة تحديداً، فسيكون من المستغرب إصدار تعليمات “تقوّم” ما اعتاد الأئمة والمصلون على فعله سابقاً. البلاغ يخوض في تفاصيل مثل صلاة التراويح وعدد ركعاتها وما إلى ذلك، الأهم أنه ينهى المؤذنين عن ترداد عبارات غير الآذان، وهي عبارات اعتاد عليها المؤذنون مثل طلب قراءة الفاتحة أو توجيه التحية للرسول وصحبه وآله.

اللافت في ذلك هو نهي المؤذن عن تنبيه الصائمين إلى اقتراب موعد الفجر، وهذا إجراء متعارف عليه سابقاً، يسبق الآذان بحوالي عشر دقائق، الغاية منه تنبيه الصائمين الذين يودون الأكل أو الشراب قبل الامتناع عنهما شرعاً. يمكن القول بأن هذا التنبيه نوع من التيسير على الصائمين أساساً، وبما لا يتنافى مع الشرع ومبدأ الصوم، أما إلغاؤه الآن بذريعة أنه بدعة فلا يمكن فهمه إلا على سبيل نقض فكرة التيسير من أصلها. بموجب هذه التعليمات، من يسهو عن اقتراب موعد الفجر ينبغي أن يدفع الثمن مزيداً من المشقة أثناء الصيام، وكأن الغاية الروحية من الصيام لا تستقيم مع قليل من اليسر والرحمة.

بالطبع، لن يكترث من وضع التعليمات بالوضع المعيشي المزري لعموم سوريي الداخل، والذي يتطلب من الآخرين الصيام للإحساس بمعاناتهم من المجاعة، أو من الحدود التي تقترب منها. السوريون، بهذا المعنى، صاروا بغنى عن ممارسة الصيام من أجل الإحساس بمعاناة المحرومين، ومئات الآلاف منهم محرومة من الغذاء، بينما الملايين منهم بالكاد يحصلون على ما يسد الرمق منه.

ما يشترك فيها البيانان السابقان هو افتقارهما إلى مبدأ الرحمة، والنظر إلى مجموع البشر كأدوات سياسية أو دينية، وهذا يحصل تماماً في الوقت الذي يواصل فيه سوريون تقريع العالم على تجاهله معاناتهم الإنسانية. بل يحدث هذا تماماً في الوقت الذي تستثمر فيه التنظيمات الإسلامية المظلومية السورية، وتستنكر ما تعتبره عداء عالمياً أصيلاً تجاه سكان المنطقة. لا يغيب هنا ذلك الخلط المتعمد الذي تمارسه التنظيمات بين الإسلام والمسلمين لصالح الأول منهما، بينما تعتبر المسلمين شأناً ثانوياً، بما يكمل ما يُعدّ استهانة عالمية بمعاناتهم.

ضمن هذه العقلية يستحيل على الحركات الإسلامية، بمتطرفيها ومعتدليها، الانضواء في تيار سياسي ديمقراطي عام، لأن هذه المغامرة تتطلب أولاً احترام البشر وتوجهاتهم وخصوصياتهم. بخلاف ما يروّج عن تهديدها أبناء الأديان والمذاهب الأخرى، يبدأ خطر هذه الحركات وينتهي من محاولتها جميعاً الهيمنة على من تعتقد أنه جمهورها المتوافق معها مذهبياً، حيث تتعين وظيفتها بإعادة تأهيل الجمهور على المثال الفقهي الذي تعتمده، وتستبعد نهائياً إعادة النظر بالفقه لصالح أولئك البشر وما استقرت عليه حيواتهم وتطلعاتهم.

ومثلما تفترق مطالب الثورة عن مطالب الإسلاميين، باعتبار الأولى معنية أساساً بحرية الأفراد ومن ثم الجماعات، يتعين إدراك الفارق الجوهري بين الحرب والجهاد. الثورة تخوض حرباً فُرضت عليها في الأصل، وهذه الحرب أكلت أولاً من الثورة بوصفها مشروعاً سياسياً ومدنياً، لذا يتوق أبناؤها إلى انتهاء الحرب على النحو الذي يؤذن بالتحول الديمقراطي. أصحاب الجهاد لا يقيمون هذا الفصل، إذ يعتبرون السيطرة العسكرية اقتطاعاً مقبولاً يجب استثماره أيديولوجياً. الجغرافيا، من وجهة النظر هذه، تفصيل ضمن الجغرافيا الإسلامية الواسعة، وليست تفصيلاً ضمن رؤية وطنية. المستوى الجهادي، من مجمل الحرب السورية، غايته الأساسية السيطرة الحازمة على الأرض والبشر معاً. بل أن التضحية بالأرض قد تكون الأسهل لشرعيي المختبر الجهادي، وهذا ما يفسّر الانشغال بسفاسف فقهية صغيرة رغم اشتداد الحملات العسكرية الحالية من قبل النظام وحلفائه، فالأعز على هؤلاء هم فئران مخابرهم، لكن بصفتهم فئراناً ليس إلا.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى