صفحات الثقافةمحمد أبي سمرا

بيروت الدمشقية

    محمد أبي سمرا

“السحر، أن تحدّق في عيون بيروت”، قالت الصحافية الدمشقية تهامة الجندي لنفسها، وكتبت  في مستهل تعليقها الصحافي على عروض ثقافية في العاصمة اللبنانية (“المستقبل”، الأحد 2 حزيران الجاري). ما يسحر الصحافية الدمشقية في بيروت، لا يستقيم حضوره ومعناه في مقالتها الا في مرآة تجربتها الحياتية والثقافية والصحافية “طوال 15 عاماً” أمضتها في مدينتها دمشق، في متابعة نشاطات ثقافية و”مهرجانات كثيرة” و”مراسلة لدوريات عربية عدة”.

الحق أن ما يستوقف في ما كتبته في تعليقها الصحافي، ويدفع الى التعليق عليه، هو مقارنتها، ولو تلميحاً، بين أساليب العروض الثقافية، مناخاتها وجمهورها، في كل من العاصمتين السورية واللبنانية. ثم ان المقارنة هذه هي وليدة الثورة السورية، وما تبعث عليه من آلام ووعود وخروج من آبار الصمت السوري.

في مرآة تجربتها الدمشقية الطويلة، تبدو العروض الثقافية البيروتية للصحافية الدمشقية “ساحرة”، لأنها مشوبة بـ”الالتباس” و”الغموض” و”الاثارة التي حرّكتني ونقلتني” بين أماكن العروض في بيروت، على ما كتبت في مطلع مقالتها.

تحت وقع هذا كله، وأمام عدسة كاميرا فيديو في أحد عروض التجهيز الحي، وسؤالها: كيف تصفين نفسك؟ أيّ صنفٍ من الرجال تحبّين؟ ماذا تنتظرين من المستقبل؟ وقفتْ مسربلة بـ”الصمت” الدمشقي المديد الذي كابدته في مدينتها قبل الثورة وفي سنتيها الاوليين، قبل فرارها من عزلتها وخوفها هناك، الى بيروت.

صمتت حيال هذه الأسئلة الغريبة التي تحتاج الإجابة عنها إلى خفة وشيء من الانفصال عن النفس وانقسامها العلني الذي كان ممنوعاً وممتنعاً في دمشق. فأحد الشعراء السوريين في زيارة له لبيروت بعد أشهر من بدايات الثورة السورية، اشار الى أن الثورة مكّنته وأصدقاءه من العثور على موضوع لكلامهم في جلساتهم الطويلة في المقاهي الدمشقية، فشعروا بأنهم طوال سنين من الكلام في تلك الجلسات، كانوا يتكلمون متثائبين مخدّرين، كأنهم في نومهم او سباتهم الطويل يتكلمون، ثم استفاقوا.

من بواعث الصحافية الدمشقية على تسربلها بالصمت في بيروت، ان “غالبية النخبة اللبنانية تفضل التواصل باللغة الانكليزية، على خلاف كل نخب أمم الارض”. أما حين “تتحدث” هذه النخبة “باللهجة المحكية (اللبنانية) المهجَّنة بالمصطلحات الأجنبية”، فإن الصحافية الدمشقية تعلل ذلك “بمحاولة” النخبة اللبنانية “التملص من ارث الرابطة العربية التي تستبطن استبداد منظومة الفكر القومي والديني”.

لكن هذا التعليل لا يزيل “حاجز اللغة (الذي) يعترضني ويرعبني في بيروت مثل حاجز الأمن في دمشق؟ (وهذا) شعور مقيت أسست له مدارس البعث في أعماق جيلي”.

اذا كانت الترجمة الفورية التي أمّنتها ادارة العروض الثقافية، قد خففت وطأة ذلك الحاجز البيروتي عليها، “فإنني ربما كنت الوحيدة” بين الحاضرين مَن وضعت سمّاعة الترجمة “على رأسها في القاعة”.

وهذا لا بد أن يُشعرها بشيء من الحرج والضيق اللذين يحدسهما قارئ مقالتها، من دون أن تشير هي اليهما، بل أشارت الى خلافهما: “الإلفة” المهيمنة على “المناخ العام” بين “أعضاء هيئة التنظيم والتنسيق والاستقبال” في أماكن العروض، وصولاً الى جمهور الحاضرين والمتابعين الذين “لا أعرفهم”. وقد يكون عدم معرفتها بهم وغربتها عنهم من عوامل انعتافها وتحررها وخفتها وانسحارها في مرآة تجربتها وعملها في دمشق.

فمتابعو العروض الفنية والثقافية الموصوفة هنا في بيروت “لا يرتدون الزي الرسمي أو الشعبي، لا يضعون ربطات العنق، ولا يكترثون بألقاب التفخيم والتبجيل، وهم خليط من عرب وأجانب، شبان ومسنين، والأنوثة تطغى على الذكورة دوماً في بيروت”، حيث “المشاركة (…) لا تنبع من حب الظهور أو التعالي”.

و”ليس عليك ان تجلس متخشباً طوال الوقت” في حضرة الصورة الصنمية للأب القائد الملهم، ولصورة ابنه ووارثه الأكثر إلهاماً وإمعاناً في القتل، فيما حاشيته الرعاعية تتصدر الحياة الثقافية الدمشقية والصفوف الامامية في قاعات نشاطاتها ومهرجاناتها الأشد خواء من صور القائد الصنمية على الجدران.

هنا في عروض بيروت الفنية والثقافية الموصوفة بعيون دمشقية، في “إمكانك ان تسترخي في مقعدك، تقف، تمشي، شرط الاّ تزعج الآخرين.

أما من لم يرق له (العرض) ففي امكانه ان ينسحب بهدوء، بلا تردد او حرج”. وهذا “لم ألحظه في عواصم عربية اخرى كدمشق، تونس، عمان، ودبي. المعرفة (في بيروت) تُقاس بالتواضع، والأناقة بالبساطة. (لذا) شعرتُ انني في بيتي”.

¶¶¶

هل كانت بيروت الثقافية وغير الثقافية أيضاً، في حاجة الى ثورة سورية مأسوية، والى عيون ومرآة دمشقية، كي تستعيد، او تتوهم انها تستعيد، شيئاً من صورتها الزاهية، وحيويتها الزائلة؟!

يا لمفارقات الأقدار! فيما ينعى اللبنانيون يومياً بلدهم يائسين مما آلت إليه أحواله وأحوالهم من انحطاط سياسي وتفسخ وطني وشقاق أهلي مستفحل وتخثر ثقافي، وفيما يجيّش حزب الحروب والانتصارات الالهية المدمرة مقاتليه وجمهوره العصبي، لتحرير سوريا من شعبها الثائر على جلاّديه وقتلته طوال أربعة عقود؛ ها هم السوريون الهاربون إلى لبنان يقولون للبنانيين ما قاله لهم السوري ياسين الحافظ قبل عقود: أنتم لا تعلمون في أيّ نعيم تعيشون في بلدكم مقارنةً بالجحيم في “سوريا البعث والأسد”.

لكن، أتكون بيروت الدمشقية أكثر من أحلام زائلة، أو أنها، كما قال المتنبي في أحد أبياته: “حبيب راحل” يُزوِّدُه دمشقيون حسراتهم وقُبَلهم الأخيرة؟

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى