راشد عيسىصفحات الثقافة

بيروت.. السورية/ راشد عيسى

 يأتي الناس إلى بيروت لألف سبب وسبب، ولو أن محمود درويش اكتفى بأسباب خاصة: “نأتي إلى بيروت كي نأتي إلى بيروت”. لكن لم يكن في الحسبان أن يأتي السوريون إليها نازحين، أن تكون بيروت شاهداً على ضياعهم وتشردهم بعدما كانت حديقتهم الخلفية الأليفة. هكذا وجد المثقفون والإعلاميون السوريون أنفسهم بين بيروتين اثنتين، واحدة في المخيلة، في الذاكرة، وأخرى على الأرض لا ندري كم تشبه تلك.

الشاعر علي جازو، بعد أشهر قليلة من الإقامة في لبنان، انحاز إلى بيروت الأولى “بيروت المتخيلة أجمل من بيروت الحقيقية”. معتبراً أن “الأخيرة مكان للهرب، للتعثر، والإعاقة”. ويتأمل جازو، القادم من عامودا في أقصى الشمال السوري، متاهة بيروت: “من هو خارج بيروت يريد أن يدخلها، ومن هو بداخلها يريد أن يتركها. إنها أشبه بدوّامة بالنسبة إلي. مع ذلك هي أوسع من أن تقال بكلمة واحدة. من يدري، ربما دون أن نعلم، ندفع ثمن خيالنا إزاء المدن وإزاء أنفسنا”.

 الناشر عماد حورية، المعتقل مرتين في سجون النظام أثناء الثورة السورية، لا يرى نفسه نازحاً في بيروت، قال: “أنا لم أنزح، بل خُيّرت بين أن أهرب أو أن أموت”. بيروت الأولى بالنسبة إليه هي بيروت المقاوِمة لإسرائيل، فيما الثانية مقاوِمة للجوع. من الواضح أن ما يقوله حورية ليس في مديح المقاومة، قدر ما هو تهكم من تحولات المدينة “لم أعرف بيروت من الشعر أو من الأغاني و المخيّلة، عرفت بيروت بالمعايشة خلال الثمانينات. نعم هكذا عرفت بيروت من خلال المقاومة الوطنية اللبنانية. بيروت خليل حاوي، محسن ابراهيم، مهدي عامل، الياس خوري، حسين مروّة، مارسيل خليفة و زياد الرحباني. عرفت الوجه الحقيقي لبيروت المقاوم .بيروت التي أعرفها كانت ضد عدو يُسمّى إسرائيل بشكل حقيقي، هكذا كنت أعرف بيروت، أمّا اليوم فأنا أعاصر بيروت المقاومة للجوع، وانقطاع الكهرباء، وأقساط مدارس الأطفال”.

 هي إذاً مدينة التناقضات، تلك التي تتجاور فيها الأشياء المتصارعة جنباً إلى جنب من دون خجل. وهذه صورة من صور بيروت كما تراها حنان قصاب حسن (أستاذة مسرح): “أنا أحب بيروت، أحب تناقضاتها حيث تتجاور الأبنية الأكثر حداثة مع المنازل المهدمة التي ما زالت تحمل آثار الحرب، وحيث تنتقل بدقائق من عجقة السير وأصوات الزمامير وبائعي الخضرة في طريق الجديدة إلى الطرقات النظيفة المرصوفة والمحلات الغالية في وسط المدينة أو في فردان، وحيث تنتقل العين بلمحة بصر من شرفات بيوت الأشرفية العريقة وأدراج الجميزة الملونة وجدران مار مخايل المرسومة إلى محلات تصليح السيارات وبيع الأدوات الصحية”.

 لا ترى قصاب حسن فارقاً يذكر بين بيروت التي في الذاكرة وبيروت الواقع، إنها مدينتها كما تروي: “كنت وما زلت أعجب لهذه المدينة الساحلية التي تمتلك كل هذا البحر لكنها تدير ظهرها له حتى لتكاد تنسى وجوده، والتي رغم خروجها من الحرب ما زالت أحياؤها تتبارى يومياً بتبادل المفرقعات والألعاب النارية فيما يشبه المعركة. لم أشعر يوماً بالغربة في بيروت، ولا أشعر بها اليوم، فهي مدينة تستطيع تلمس نبضها بسهولة والإحساس بإيقاعها المتميز، ولأنها مدينة تستطيع السير فيها على قدميك والجلوس في مقاهيها لتلتقي بكل الذين تعرفهم. هذا وحده كاف ليزيل شعور الغربة عنك”. هكذا يصبح بديهياً أن تهمل قصاب حسن سيرة النزوح في سؤالنا حول ما غيّره نزوح السوريين في انطباعهم عن المدينة، فهي لا تلبث أن تستدرك: “ثم إنني لست نازحة إلى بيروت، كل ما هنالك أن فترة إقامتي فيها صارت أطول من العادة”.

 إيمان سعيد (كاتبة سيناريو تلفزيوني) ترى بيروت في سياق “نزوح” متكرر عن أكثر من مدينة عربية “لبيروت في خاطري أكثر من حكاية، هي مدينة لسحر الحرية الوحيد في المنطقة، مدينة منفلتة من مفهوم الرقابة والتحريم. مقاهٍ بصور كتّاب وقصائد شعراء. هي حكاية بعض أقربائي الذين فقدتهم فيها زمن الحرب الأهلية”.

 وتروي سعيد: “الآن  في تجربة نزوحي الثالثة بين المدن العربية،  أحط الرحال في بيروت، لتتحول المدينة الحكاية إلى واقع، وبعيداً عن عين القصيدة التي كنت أرى منها بيروت، اكتشفت أنها مدينة تكره فقراءها، فلن تجد في كل بيروت مقهى شعبياً يستطيع أن يجلس فيه فقير. بيروت شاطئ من دون صيادين. أناسها لا يعرفون بعضهم إلا عبر نشرات الأخبار. لبنان، وكما أذكر أنني قرأت في صفحة صديقة لي على الفايسبوك،  ليس البلد الذي سمعنا وقرأنا عنه، هذا بنك لبنان والمهجر. لكن مع ذلك لا يزال لهذه المدينة غواية من نوع ما حتى ونحن نتوسّل الأمان فيها وبعض الحرية”.

الروائية رشا عباس تحوّل وجهة السؤال، من سؤال حول الفارق بين بيروت المدينة التي في المخيلة، وبيروت النزوح إلى سؤال آخر “أظن أنّ السؤال في الأصل، وقبل أن نتحدث عن الطريقة التي نرى فيها بيروت الآن هو كيف نرى أنفسنا كسوريين في بيروت، فما دام موقف شارل الحلو موجود هنا، بما فيه من سيارات أجرة تنقلك إلى قلب دمشق في غضون ساعات، سيبقى من المستحيل على الكثيرين منا أن يصدقوا أنّهم مقيمون هنا بالفعل وليسوا في مجرد زيارة ستنتهي بعد قليل لنعود إلى الديار”. ثم تقارن رشا عباس بين بيروت التي وصلتها للتو، مبهورة بصورها الأولى المتدفقة، وبين ما سيلي من معضلات العيش اليومي: “أول الوصول إلى بيروت لا يشبه شهوراً أخرى من الإقامة. في البداية يلفتك كل شيء: الإعلانات الطرقية الملونة للبنوك والملابس والمشروبات وأنوار الطرقات، الغرافيتي. بعد ذلك تمرّ في أيامك من دون أن تشعر أنّك الآن في مدينة أخرى إذ تعود مثقلاً بذات هموم الساكن في أي مدينة: تفاصيل المواصلات والسكن والحاجيات. في كل مرة تبتاع فيها غرضاً أساسياً وأثاثاً للمنزل يصيبك الرعب: ولكن كم سأبقى هنا حقاً؟ أنت مصرّ أنّك في محطة مع حقائبك تنتظر حلاً، استقراراً أو يوماً يكون فيه بإمكانك أن تعود إلى الوطن”.

 الصحافية ضحى حسن قالت: “وقعت بغرام بيروت منذ أول زيارة لها، لكن شيئاً فشيئاً خفّ الانبهار، كانت آخر احتمال للعيش. لكنني اخترت بيروت لأنها أقرب إلى الشام، حتى لو لم يكن بالإمكان الذهاب إليها، ولأن معظم أصدقائي ومعارفي فيها، فذلك يشعرك بالألفة. تعرفت على أصدقاء لبنانيين، هؤلاء هم لبنان بالنسبة لي. أما المدينة فلم تعد مغرية لفضولية مثلي”. وختمت: “لكن هناك أسباباً أخرى تدفعك بعيداً عن حب هذه المدينة، الطائفية والعنصرية والسرفيس اليومي المزعج، وكمّ الكره والحقد عند البعض ضد السوريين والفلسطينيين”.

 بيروت ليست واحدة من اثنتين فقط، إنها بيروت التي لا تحصى، فحسب زوارها تتنوع التسميات والصور التي تلتصق بهذه المدينة، من ست الدنيا، إلى درة الشرق، ومدينة العالم، وهي اليوم عند السوريين لا شك تكتسب أسماء أخرى لم تكن في الحسبان.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى