صبحي حديديصفحات سورية

بيروت: ساحة حمص.. شاشة نصر الله


صبحي حديدي

قبل أيام أصدر عشرات من الأصدقاء اللبنانيين بيان تضامن مع الانتفاضة السورية، ومع مدينة حمص خصيصاً، شدّدوا في عنوانه على أنهم ‘من الجنوب اللبناني’، و’من مشارب سياسية وفكرية مختلفة’، عانوا ‘الاحتلال الإسرائيلي والتهجير والنفي والحروب على مدى عقود’، وكذلك ‘ظلم الفيتو’ الأمريكي لحماية جرائم إسرائيل ضد أبناء الجنوب. لكنهم، اليوم، يؤكدون مجدداً وقوفهم الى جانب الشعب السوري وهو يكمل السنة الأولى من عمر ثورته، ثورة الحرية والكرامة، وثورة إسقاط الاستبداد وطيّ صفحة حكم الإرهاب والقمع’.

بعد هذا الموقف، بادر عشرات الكتّاب والمثقفين اللبنانيين إلى الاقتداء بزملاء مصريين وفلسطينيين ومغاربة، في تقديم طلب انتساب جماعي إلى ‘رابطة الكتاب السوريين’؛ جاء في نصّه التأكيد على ‘مشاركتنا الإخوة السوريين رفضهم لسلطة القمع والدكتاتورية’، و’تضامننا مع الثورة السورية، ومؤازرتنا لصمود أبنائها ـ في مواجهة الهجمة الدموية التي يشنها النظام ـ بشجاعة قلّ نظيرها، ونشاطرها الطموح نحو إقامة دولة المواطنة، المؤسَسة على مبادئ المساواة والحرية والديمقراطية للشعب السوري بجميع مكوناته وأطيافه’.

إلى هذا، ورغمّ أنّ ما في القلوب قد لا يتطابق البتة ـ أو قد لا يتلاءم إلا قليلاً، إذا لم يتناقض ـ مع ما يُقال على الألسن (وأحدث الأمثلة خطاب وزير الخارجية السعودي أمام مؤتمر ‘أصدقاء سورية’، حيث بدا سعود الفيصل أكثر انتصاراً للانتفاضة من برهان غليون!)؛ ليس من الإنصاف إغفال الإشارة إلى اعتصام وليد جنبلاط وهاني فحص وآخرين، في ساحة سمير قصير، تضامناً مع الشعب السوري. رئيس ‘الحزب التقدمي الاشتراكي’، أوضح أنه يتحدث ‘كمجتمع مدني’، و’كمواطن يرى عذابات هذا الشعب الرهيبة لكي يقدّم إليه ما يستطيع’؛ وما استطاعه كان رفع لافتة تقول: ‘مدينة حمص، تضامناً مع أهلها ضد حملة الإبادة التي تتعرض لها’، فضلاً عن مطالبة بشار الأسد بأن: ‘إرحل’. السيد فحص، من جانبه، ذكّرنا بانتفاضة البحرين، المغدورة المنسية عن سابق قصد؛ وحسناً فعل في نهاية المطاف… أياً كانت البواعث في القلب، هنا أيضاً!

على مبعدة أمتار من هذا الاعتصام، كان ‘منحبكجية’ النظام السوري، من اللبنانيين أيضاً، قد تجمهروا في اعتصام مضادّ، وهتفوا ـ نعم، كما ينبغي لهم أن يفعلوا دائماً ـ بحياة بشار الأسد، ورئيس مجلس النوّاب نبيه برّي، والأمين العام لـ’حزب الله’، وروسيا، والصين، و… الجيش اللبناني! قبلها، كان حسن نصر الله قد أتحف السوريين بأخبار مطمئنة، تفيد بأنه لا شيء يقع في حمص؛ وأن ‘إصلاحات’ الأسد لم ‘يقدم أو يمكن أن يقدم عليها ملك أو أمير أو شيخ أو رئيس في أي نظام عربي حالي’، و’ هذا دستور جديد، تفضلوا على الاستفتاء’. الشيخ أحمد قبلان، المفتي الجعفري الممتاز في لبنان، نبّه الغافلين إلى أنّ ‘لبنان يشكل رأس حربة في المنطقة، وقد يتمكن أصحاب المصالح الخارجية من جعله فتيل حرب يشعل في أية لحظة’؛ وأن ‘ما يُخطط له من مؤامرة ضد سورية هو من أجل قطع ذراع من أذرع المقاومة في المنطقة، والتي تمتد من لبنان، مروراً بالعراق، وصولاً الى طهران’؛ محذراً، في الختام المسك: ‘سقوط سورية يعني أنّ العدو الإسرائيلي سينتصر’.

هي وقائع تأتي من بيروت لكي تتيح لنا أن نجزم، مرّة تلو الأخرى، بيقين أشدّ وثوقاً وتوثيقاً، أنّ بيروت هي بيروت: تروح وتجيء، تغيب وتحضر، تضعف تارة لكي يشتدّ عودها طوراً؛ ولكنها هكذا، غنية، متعددة، واعدة، فسيحة، تليق بتعبير محمود درويش البليغ، في وصف زوال لا يزول. وبيروت ذُبحت مراراً، ثمّ قامت من الذبح مراراً أيضاً، لأنها كانت نسيج وحدها في صناعة هذا التعدد الإنساني والثقافي والسياسي، وفي تثمين قيمته، والاختصام حول حدود ما يتيحه من حرّية، ومدى ما يستثيره من اختلاف. وكان طبيعياً أن تُذبح بيروت بيد جيرانها الأشقاء، قبل أبنائها وقبل الغرباء في الواقع، لأنّ ‘فيروس’ الديمقراطية التي أخذت المدينة السخية تنقله يميناً ويساراً، كان من نوع لا يملك كارهو الحرية علاجه إلا بالذبح.

ولقد مرّت حقبة أكثر التباساً، شهدت شيوع هتافات لبنانية من النوع التالي: ‘لا لجمهورية الكعك’، و’ما بدنا كعك بلبنان، إلا الكعك اللبناني’، في ذروة هيمنة النظام السوري ليس بواسطة الكعكة السورية، بل بسطوة الدبابة وأجهزة عنجر ودولة غازي كنعان. وعلى نحو ما كان حنين أولئك اللبنانيين إلى كعك لبناني صافٍ، وصمتهم المطبق حيال الجنرال السوري بالمقارنة مع استئسادهم على العامل السوري، أشبه بنوستالجيا مقلوبة ترفض ‘جمهورية الكعك’ السورية من أجل إحياء ‘جمهورية الموز’ اللبنانية! المفارقة أنّ بعض الدونكيشوتيين، محاربي بائع الكعك السوري آنذاك، انقلبوا اليوم إلى حَمَلة مباخر، ونافخي أبواق صدئة، دفاعاً عن النظام السوري!

بيد أنّ بيروت تظلّ ‘صخرة كأنها وجه بحّار قديم’، كما يقول جوزف حرب في أغنية فيروز الشهيرة، وهي ‘من روح الشعب خمر’، و’من عرقه خبز وياسمين’؛ ولهــــــذا فإنّ في وسعها أن تكون ساحة التضامن مع حمص الصامدة، وشاشة نصــــــر الله المصفّق لآل الأسد، في آن مـــعاً. أمّا التاريخ فهو الشاهد، والحَكَم!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى