صفحات الثقافةمحمد أبي سمرا

بيروت عاصمة للكتابة الميدانية عن الثورات العربية؟


محمد أبي سمرا

يندر أن تقرأ في دورية عربية كتابات تتناول حوادث وظواهر ثقافية واجتماعية وسياسية في بلدان عربية مختلفة. فإلى ان الصحف اليومية العربية يحصر معظمها اهتمامه الاساسي بأخبار البلدان المحلية وشؤونها وقضاياها، فإن الدوريات (المجلات) الاسبوعية والشهرية والفصلية العربية المفتوحة على المجالات الثقافية والسياسية العربية العامة، نادرة الوجود في العواصم العربية منذ عقدين او ثلاثة، مع انحسار الايديولوجيات والافكار القومية في تياراتها ومذاهبها المتباينة.

اما القليل المستمر في الصدور من تلك الدوريات، فيعيش ما يشبه احتضاراً يجعله عديم الأثر والحيوية الا في دوائر لا تكاد تتجاوز جماعات الناشرين والكتّاب واصدقائهم ومعارفهم. وحدها المجلات الفنية التجارية والاعلانية، مجلات النجوم والازياء النسائية الطابع، تخرق هذه القاعدة وتتجاوزها، ويتكاثر عددها ويتسع توزيعها، وخصوصا اللبنانية والخليجية منها. هذا دليل على ازدهار سوق المطبوعات الرائجة التي تغلب على موادها الصور والدعايات لسلع الاستهلاك واخبار الفنانين. المطبوعات هذه جددت أساليب طباعتها الفنية ومادتها لتواكب ما تقدّمه المحطات التلفزيونية الفضائية المتكاثرة في مجالات الفيديو كليب والمسلسلات والرياضة، الى جانب الفضائيات الدينية المزدهرة منذ تسعينات القرن العشرين.

إسلاميو ما قبل الثورات

قبل ثورات “الربيع العربي”، كانت الفضاءات السياسية والثقافية في البلدان العربية تعيش في حال من الركود والاستنقاع والانغلاق، حيث كان الناشطون والناشطات في قضايا المجتمع المدني وحقوق الانسان يعملون على نحو مستقل او منعزل في كل بلد، ويشوب عملهم ونشاطهم يأس مرير حيال قوة السلطات الديكتاتورية ومكرها وسيطرتها على المجتمعات والاعلام والرأي العام، المكتوم او المدجّن. ولعل التيارات الاسلامية، الجهادية وغير الجهادية، الاخوانية منها والسلفية، استطاعت بعملها وتواصلها “السريين” ان تخترق الحصار والعزلة وجدار اليأس في العقدين المنصرمين، على ما بيّنت المعلومات والتقارير عن شبكات الاسلام الجهادي على الاقل. وقد يعود الى هذه التيارات السبق في استخدام الفضاء الالكتروني وشبكاته في تواصلها، بحسب الكثير من الشهادات، وخصوصا المصرية منها، التي اظهرت ان الاسلاميين المصريين الشبان في الجامعات، كانوا سباقين في اطلاق تحركات وانشطة احتجاجية في بعض المدن المصرية منذ الحرب الدولية على عراق صدام حسين بعد احتلاله الكويت العام 1990. وما لبث هؤلاء المحتجون ان استخدموا شبكات الانترنت لإطلاق مدوناتهم ومواقعهم الالكترونية التي قد يكون “إسلام أونلاين” انشطها واشهرها في مصر. لكن تأثير المدونات والمواقع الاسلامية وحضورها كانا يتجاوزان الدوائر الوطنية والمحلية في البلدان العربية الى فضاءات اقليمية ودولية تجمعها طبيعة الدوغما الاسلاموية وقضاياها وشؤونها التي تتجاوز الأوطان والبلدان، برغم الدعوات والتوجهات والفتاوى المتضاربة. فثقافة الاسلام الرسالي والدعوي تفترض اصلا وجود “امة اسلامية” حدودها “ديار الاسلام” كلها في العالم. وهذا ما أظهرته الفضائيات التلفزيونية الاسلامية، قبل انتشار الفضاء الالكتروني.

في المقابل كانت التيارات المدنية الشابة في البلدان العربية ضعيفة النشاط والحضور الوطني والاقليمي، مقارنةً بالتيارات الاسلامية. ففي سوريا على سبيل المثل، بيَّنت بعض الشهادات ان الاسلاميين الشبان، كانوا على تعارف وتواصل وتأطير في دوائر سرية، وعلى الشبكة العنكبوتية، منذ مطلع الالفية الثالثة. اما مجموعات النشاط الاحتجاجي المدني في مصر على سبيل المثل، فتأخر حضورها الملحوظ حتى العام 2005، مع حركة “كفاية” الشهيرة، وسواها من المجموعات الاصغر حجماً وحضوراً اعلاميا على الاقل. لكن ثورات “الربيع العربي”، وواسطة عقدها الثورة المصرية، قلبت هذه المعادلة. فالثورات هذه كانت المجموعات الشبابية المدنية، غير الاسلامية وغير الحزبية والايديولوجية، هي السباقة في التحضير لها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، واطلاقها في الشوارع والميادين، على الرغم من أن هذه المجموعات ما كانت تحضِّر لثورة ولا تحلم بها ولا تدرك مآل حركاتها الاحتجاجية، حتى انها فوجئت بما اطلقته وهي تردد هتاف “الشعب يريد اسقاط النظام” في تونس والقاهرة وصنعاء وتعز وطرابلس الغرب وبنغازي والمنامة ودمشق وحمص.

نجومية الـ”فايسبوك”

كان الـ”فايسبوك” نجم الثورات العربية التواصلي والتنظيمي في الفضاء الوطني الخاص بكل بلد، وفي الفضاء الاقليمي الاوسع الذي أطلقته واقامته الثورات نفسها. النجومية هذه تصدَّرها الناشطون والناشطات من التيارات المدنية، التي برز منها اصحاب الخبرات والتجارب الاحتجاجية في الشوارع، وفي شبكات التواصل الالكتروني، امثال وائل غنيم مهندس موقع “كلنا خالد سعيد”، واسماء محفوظ وتوكل كرمان، وسواهم من امثالهم في عواصم “الربيع العربي”. لكن فاعلية الـ”فايسبوك” اليوم، بعد مضي حوالى 21 شهرا على بداية الثورات، وصلت الى ذروتها، وأمست غير قادرة على استجابة ما تحتاجه هذه الثورات في نقل تجاربها وخبراتها وتداولها ومناقشتها وعرض حوادثها ومنعطفاتها الراهنة، وخصوصاً بعدما تمكن الاسلاميون من تصدر المشهد السياسي والاجتماعي والانتخابي في غير بلد عربي. فثقافة الـ”فايسبوك” اعلامية واعلانية واخبارية، سريعة ومتشظية، ولا تغني عن الثقافة الكتابية التي تتجاوز الاعلام والإخبار الصحافيين والتلفزيونيين والالكترونيين، الى فضاءات المراجعة والنقد والمناقشة والمتابعات والشهادات والتحقيقات الميدانية المكتوبة.

“بدايات” بيروتية

يبدو أن مجلة “بدايات” الفصلية البيروتية، في عددها الثاني لصيف 2012، تنهج في اتجاه جمع شهادات وتحقيقات ومتابعات متنوعة عن “الربيع العربي”. فالعدد هذا عنوانه العام الجامع، “الثورات في المرحلة الانتقالية”. والمجلة في توجهها هذا للمرة الثانية بعد عددها الأول، تستعيد شيئاً من “سليقة” لبنانية بيروتية مكرسة منذ خمسينات القرن العشرين وستيناته، ومنقطعة في زمن الحروب الملبننة، ولم يقوَ زمن ما بعد الحرب و”ثورة الأرز”، على استعادتها. “السليقة” أو التقليد الثقافي البيروتي هذا، قوامه الخفة والانفتاح والاستجابة السريعة الى ما يحدث خارج لبنان، في الفضاء العربي. فكيف إذا كان ما يحدث في حجم الثورات الراهنة؟!

الحق أن هذه الاستجابة اليوم تختلف عن سابقاتها في الربع الثالث من القرن العشرين، حينما كان الفضاء الثقافي البيروتي يستقبل شوارد ومتون ما تنتجه الثقافة في البلدان العربية المختلفة، ويعيد تركيبه ونشره وتوزيعه في فضاء من الحرية كان ممتنعاً في غير لبنان وعاصمته. آنذاك كانت ثقافة الشعر وسجالاته، والأفكار الايديولوجية في تياراتها القومية واليسارية وسجالاتها “النخبوية” المجردة، تتصدر مسرح الحياة الثقافية وتطغى على دورياته ومنشوراته البيروتية. وإذا كانت الحروب الاهلية العربية، ومنها الحروب الملبننة، قد أذنت ببداية أفول هذا النوع من الثقافة وسجالاتها المختلفة، لصالح ثقافة النثر والرواية، فإن الثورات العربية الراهنة قد تعمل على ترسيخ هذا الاتجاه وتوسيع أفقه في الفضاء الثقافي اللبناني البيروتي، على الرغم من أن لبنان اليوم ليس من بلدان الثورات العربية التي قد يكون استبقها بـ”ثورة الأرز” على نظام الوصاية، بل الاحتلال السوري الذي استطاعت شبكاته السياسية والأمنية المحلية الراسخة القيام بـ”ثورة مضادة” أجهضت احتمالات الثورة الاستقلالية والكثير من أهدافها.

لكن هذا لا يحول دون مواصلة التقليد الثقافي البيروتي في استقباله مستجدات المنعطف السياسي والثقافي الكبير الراهن. فالملاحق الثقافية الصحافية في بعض الصحف البيروتية تكاد  تكون الثورات العربية شاغلها الأساسي. وهناك ثلاث مجلات ثقافية وفكرية فصلية جديدة صدرت في بيروت متزامنةً تقريباً مع الثورات العربية، هي “كلمن” و”الآخر” و”بدايات”. لكن هذه الأخيرة قد تكون الأقرب الى “نثر الثورات”، المتنوع والفوضوي، في نشرها شهادات وتقارير ومتابعات ميدانية كتبها ناشطون وناشطات، صحافيون وصحافيات، من التيارات المدنية اليسارية الجديدة في بلدان الثورات.

هل تكون بيروت عاصمة للكتابة الميدانية عن الثورات العربية؟

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى