صفحات الثقافة

بينما تشعر بثقل جناحيك/ أنطوان كسّار

 

 

نهار 1

 

فلنخطُ الخطوةَ الأولى من هذه الكفّارة،

إني وهذا الجسد نلفظ الإثمَ العتيق.

أربعين نهاراً، عشرةَ آلاف خطوة أسلخُ كلَّ صباح

حتى تنتهي السنةُ، أو أذوي.

الخطوة الأولى، الخطوة الثانية. كلُّ خطوةٍ وثبةٌ

فوقَ هوّةٍ بلا قرار، فوق انهيار أزليٍّ

يربض ويُطلق ضحكه المكتومَ بأنيابٍ شرهة؛

هوّاتٌ تركّزتْ على الدروب الملتوية

في خرائط الماضي المتحللة.

الخطوة الثالثة. الرابعة. ثم كلُّ خطوةٍ أكثر خفّةً

من سابقتها، وتستدعي اللاحقةَ؛

يتحسسُ باطنا قدميَّ الأرضَ،

ذاهلَين عن أنهما يدوسان صراطاً مستقيماً.

الخامسة، السادسة، السابعة – حتى أتوهَ

في عَدِّ الأشباح المتضائلة ورائي،

حتى ليعلو صدري خفيفاً كالهواء.

أريد الرذاذَ في رُفاتِ شَعري؛

أريد العرقَ أن يتصبب على عنقي وكتفيّ،

وعِمادةً تغسلُ أحرفَ اسميَ.

أريد حرارة حقيبةِ الظَّهر أن تسفع ظهري،

أريد الدمَ أن يجيشَ في ساقيَّ،

ومَوقداً يطهّر جسدي من خطاياه.

أربعين نهاراً، عشرةَ آلاف خطوة أسلخُ كلَّ صباح،

قاصداً ذراعين ليستا إلا للأفق،

قاصداً شفتين ليستا إلا للنسمات،

قاصداً ثديين حميمين ليسا إلا للشمس.

أربعين نهاراً أستهلّها اليومَ حتى تنتهي السنةُ،

لأكفّر عن كلِّ إثم، لأطرد كلَّ خوف،

لأبْسُطَ الخريطة مرةً أخرى، أضعها حيث يجب أن تكون،

لأضبطَ البوصلة حتى نهاية الصراط،

وبعدها إمَا أمضي في المسير، أو أذوي.

■ ■ ■

 

ليل 2

 

لا أستطيع إرغامك على التعلّق بالبحر.

قد انتظرتِ سنتين لتقولي لي إنك تنفرين منه.

انتظرت سنتين لتقولي لي إن الهواء المالح

يجعلك ترغبين بلفظ أحشائك.

كلّ تلك القلوب إنما انتثرتْ في الرمال

لكي تعترفَ فيما بعد أنك،

منذ البداية، قدِ ازدريتِ أمنيتي

بأن نغرسَ، أنت وأنا، نصفَ جذورنا على هذه الجزيرة

وكلّ الأشعار التي نَظَمْتُها لأنفاسك

مع جَزْرِ ودفْق المويجات، لرموش عينيك

مع علوّ وهبوط الموج، لضفائرك

مع الأمواج التي أبحرتُ فوقها لكي أرسو لصقَ صدرك.

واليومَ لستُ أعرف إن كنتُ أنشدتُ اسمكِ مع البحر

أو كنتُ أنشدتُ البحرَ بأحرفِ اسمك.

لا أستطيع إرغامكِ على التعلّق بالبحر.

قد انتظرتِ سنتين لتقولي لي إنك تنفرين منه.

حينذاك، زلّتِ الأرضُ تحت قدميّ،

تركتِني هنا وجذوري مُشرَعة في فراغِ

شاطئٍ بلا بحر، بلا رمال،

وجزيرةٍ بلا تربة تعوم في العتمة

حيث أحرفُ اسمكِ تلتفّ، تدور كزوبعة،

وعلى متونها وفي تضاعيفها، ثم تؤوبُ إلى أعشاشها،

واليدُ في اليدِ، ألفُ روحٍ نشوانة.

■ ■ ■

 

نهار 13

 

أبلغِ الشَّرِطة، في داخلي قاتلٌ

يمشي بخطىً ثقيلة دون أن يُطرِق عينيه

لديه مائة ألفِ قبضة، مائة ألف سكّين

عيناه حمراوان تقطران بأحلام الانتقام

عمره ثمانية أعوام ويشيلُ غضبَ ثلاثين عاماً

له أنياب متعطّشة تعضّ الهواءَ

فاجتنبه قبل أن يزعق في وجهك

وإذا سخرتَ من لهجته فقد يحطمك ويجعلك أجزاءً

عمره ثمانية أعوام ولا يدرك ما الذي يحدث

فقد أضاع بوصلته ولا يدري إلى أين يسير

لديه صليب أسود يُشهره لدى أية إيماءة

لديه قنبلة يزرعها تحت كلّ لافتة

لديه ستمائة وستّ وستون شوكة

يغرزها في قلوب الزهر واحدةً إثرَ أخرى

لديه منشار مسنون لكل شجرةٍ

تُذكِره بميلادٍ أمضاه باكياً

مختبئاً خلف الأغصان لشدّة خوفه

من أن يدفع عن أمه ضربات البوط

لديه مطرقة حُفر عليها وجهٌ يشبه بالضبطِ

الوجهَ الذي يتوعّده في المرآةِ كلَّ مساء

لديه في الفمِ رغوة تشبه رغوة البحر

حيث سيُغرقُ ذات ليلةٍ رأسَ أبيه

ويصغي إلى انفقاء آخر فقاعة

عمره ثمانية أعوام ولا يُدرك ما يفعله

ومع كل خطوة ترتجّ الأرضُ تحته وحده

مع كلّ زعقة يقسو المطرُ في هطوله عليه وحده

كلّ حجرٍ يركلها بما أوتيَ من قوةٍ

هي كرةٌ ملتهبة تطير في ذهنه وحده

عمره ثمانية أعوام ورغم ذلك قد يوقِفُ وجهُه دوران الساعةِ

مُثيراً الهلع في المارّة الذين يعبرون الشارع

“سيدتي، لا تخافي، فلن أعضّكِ

أيها الصبي الصغير، لا تخفْ، فليس هذا وجهي الحقيقي

أيها الكلب اللطيف، لا تهربْ، فلن أركلكَ”

عمره ثمانية أعوام وها قد غزاه الشيبُ

كما شوهدَ من قِبَلِ وجهٍ يتفحصه عبر الزجاج

ويرقبه الآن بينما يتهاوى على الأرض، جريحاً-

عجوزاً في الثامنة من عمره، أرداهُ شبحُه،

وبدلَ بركة الدم، كان كلّ ما ذرفه هو الدّمع.

■ ■ ■

 

ليل 36

 

بمضيّ الوقتِ تستقر الأمورُ وتستقيم.

خطوة إثر خطوة سيثقل سفكُ الدمِ الكاهل.

من قلب الغابات يأتي الهواء أبديّ النقاء.

حتى لهذا المترمِّل حديث العهد، القلب المترمِّل.

هناك سؤال عميق الغور لا تستطيع أن تسمعه بوضوح.

سؤال يتعلق بالدم، وبالحب.

يتعلق بالجذور المكشوفة على الملأ

لهذه الشجرة التي تسعى لأن تتواشجَ وساقك

لتجعلك لها وحدها، لتضمّك أكثر،

لترشف دمك حتى يمتلئ رحمها.

حينها ستُترَك بقاياك لكي تغذي التربة،

وتستقبلَ الثمار التي تتساقط في الخريف.

هناك سؤال عميق الغور لا تستطيع أن تسمعه بوضوح.

سؤال يتعلق بالدم، وبالحب.

وبطبيعة الحال أجبتَ مرتين، بل إنك لا تزال غارقاً في التأمّل

بينما تشعر بأن جناحيك ببطء يثقلان كاهلك.

■ ■ ■

 

نهار 37

 

بين الحين والآخر ستثور موجةٌ في دمك.

ستشعر بها تتكور في محجريك.

ستشعر بقلبك يتهيّأ للبلل.

لا تحرّكْ ساكناً. احبس أنفاسك. اهمدْ وترقَّبْ.

لا تغصْ. ابقَ طافياً. لا تنبس بكلمة.

اترُكِ الموجةَ تأتي إليك، والزبد قربَ الفمِ.

اتركها ترفعكَ دون مقاومة.

اتركها تنزلك بأناةٍ وكأنها مهْدٌ.

أصغِ إلى الموجة وهي تموت وراءك على الرمل.

واعتبرِ الأمرَ دليلاً على أنك حيٌّ بكلّ ما فيك.

 

* شاعر من مواليد لندن عام 1978 لأبوين مالطيين. نشأ ودرس في بريطانيا ومالطا وإسبانيا وإيطاليا وفرنسا. يكتب بالمالطية ومن أبرز أعماله “فسيفساء”، الذي تنضفر فيه أصوات وإيقاعات لغات عديدة في تناغم سلس ودفق متماسك في الأفكار. نشرت ترجمات لقصائده في إيطاليا وإسبانيا والدانمارك وأميركا. يقيم كسّار ويعمل في لوكسمبورغ.

 

** ترجمة: أحمد م. أحمد

العربي الجدبد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى