صفحات الناسمحمد المطرود

بينَ الرقة وعفرين/ محمد المطرود

 

 

الهتاف الذي رفعهُ السوريون ودفعوا من راحتهم ودمهم ثمنه صارَ في مهبِ الريحِ بل ومدعاة للسخريةِ والتندُر، كما لو أنَّ ذلكَ الهايكو الطافحِ بالبراءةِ ولايقلقُ أحداً إلّا من آلمتهُ حقيقتهُ وخافَ منه، بدا هذا المقطع الشعري الحياتي حادي الكثيرين في الشوارعِ والجوامعِ والبيوتِ أمراً نافلاً، وصار انتظامِ الموسيقا فيهِ دحضاً للحقيقةِ، بل صارت المقولة برمتها تعني بلداً آخرَ غير سوريا التي لم تكن يوماً إلّا موحدة في أملها بالخلاصِ من الدولةِ الأمنيةِ، الدولة التي فتحت حدودها ليتجسسَ عليها أعداؤها، وفتحت سجونها لتتجسسَ علىَ رعاياها، حتى صارَ الأخُ ذئب أخيه، وصار للحيطانِ آذانٌ أكبر من النوافذِ المفتوحةِ على الريحِ والحياة والتأمل!

” واحد واحد، الشعب السوري واحد”، تآخت مدنٌ وبلدات ودساكرُ، تألمتْ قرى لآلام قرىَ، كفرنبل ترفعُ لافتةً عامودا، وتهتف قرية في درعا لأجل حَيّ في حمص، أسماء الجُمع لم تكن طائفيةً، إنّما كانت مناطقية، كانت أسوار سوريا المصطنعة حولَ أحلامهم مناطقية أكثر مما هي طائفية، فأهل الدير المدينة يعيرونَ أهلهم في الريف بشاويتيهم( شاوي طَب المدينة، شرب العرق، يحسبو شنينة)، وكانَ الحموي يتندر على الحمصي، ويتحدثُ عن سرقته لنهر العاصي، الأكراد ينقسمونَ إلى غربيةٍ بخلاء وآشيتيه يحبونَ الحلاوة، ويقالُ أنْ غربياً اشترى تنكة حلاوة فوجد في داخلها آشيتياً، ويتفقُ الكردُ على العرب وبالعكس:” كردي ذيلَ الجردي” ويردُ الكرد:” عرب مال الجرّب”، في اللاذقية ساحل وجبل، في حلب تجار وصناعيين وأساتذة جامعات وبائعي صابون الغار وفي ريفها مزارعين وفلاحين ومصدري خضروات وأجبان وألبان وزيتون وزيت الزيتون، تكادُ لاتقفُ هذه المناطقيةِ غير المؤذية بين المدنِ وريفها لتأخذ حصةً حضورها بين حي وآخر وبينً قرية وأخرى ريفياً، وإذا كانَ من سوءٍ فهو قابعٌ في نظرةِ (الدولة) وتعاملها معَ مناطقها بمبدأ” جوّع كلبكَ ليتبعكَ” فالجزيرة السورية التي تمّ الحديث عنها في التسعينات بأنّها قادرة بحكم ثرواتها أنْ تعيلَ سوريا كاملة ول90 عاماً فيما لو توقفتْ كلَّ الفعاليات الاقتصادية في البلد، صارَ أهلها بعد 2000 جوعى وهائمين على وجوههم في مزارعَ ومداجنَ في درعا ًوحمص والساحل، ويسكنونَ بيوتاً من الصفيحِ والخيش، وتحولّ اسمهم من أبناءِ الجزيرةِ الخضراء إلى (غجر الجزيرةِ)، للإمعانِ في إذلالِ أناسٍ كانت تُهمهم جاهزة:” يسعون إلى الانفصال واقتطاعِ جزء من سورية لصالح دولة أجنبية” أو” العمل على وهن نفسيةِ الأمة وتحقير السيد الرئيس” أو” بعث يميني صدّامي” وأخيراً “وهابيون” وصار كل ذي لحيةٍ وثوب قصيرٍ هدفاً للاعتقال!

تتوزعُ سورية الآن على حواضن اجتماعيةٍ خلبيةٍ إذا جازَ التعبير، ترتبط هذه الحواضن بالعلاقاتِ التي توفرها فصائل مسلحة على الأرض، وتكاد القوىَ السياسيةِ أنْ تكونَ غائبة خلا ذلكَ الغطاءِ المموّل لهذا الطرفِ أو ذاك وبما يخدم قوى إقليمية ودولية رأت في هذا المكان ضالتها في تصفيةِ حساباتها، العربية منها وجدت قتل النموذج السوري للثورة منجاة لها من انتقال هذا( الشر) إليها، والدولية منها رأت فرصة التموضع ورسم خريطة جديدة متوفراً وإن كانَ الأمرُ مكلفاَ ويشكل عبئاً على اقتصاداتها، إلا أنّه استراتيجياً بحسبها ستكونُ المردودات أكثر جدوى، وسيكونُ أمنها القومي بخير.

ترتفعُ أسوار نفسية بين السوريين، ويتحصّن كل طرف بحكم حاجته وخوفهِ خلفَ فصيلٍ ما، إذ في غيابِ القانونِ المغيّب أصلاً ومن ثمَّ في زوال مركزيةِ القمع، صار على من تبقىّ أن يحمي نفسهُ بالدفاعِ عن أفكارٍ مفروضةٍ عليه باعتبارهِ محتاجاً وخائفاً، وليسَ عن يقينيات وإيمان بالفكرةِ وحامليها، إذ يبدو واضحاً أنْ ثمة حالة( مافيوية) تقود القطيع، ولا ذكر لدولةٍ أو مشروع وطني جامعٍ، إنّما هو سباقٌ محمومٌ للظفر ببعضِ التركةِ التي سيخلفها الجسم المريض، وسيكونُ المثلُ الشعبي جائزاً ومتمثلاً للحال:” الجمل لوطاح كثرت سجاجينه”.

في العودةِ إلى العنوانِ أجدني قدمتُ بما يشي بالمتنِ الذي سأكون فيهِ موجزا، ومحيلاً إلى الحياء والأخلاقيات التي انتظمتنا كأناس تعايشنا ولم تكن الحدود الفاصلة بيننا بذلك الوضوح الذي نراهُ اليوم، بل على العكس تماماً فما كانت السلطةُ تحرصُ أن تبنيه بوصفها عدواً لرعاياها، والتي لم تراهم رعايا وإنما نظرتْ إليهم عبيداً وكلاباً لابدّ من تجويعهم، كانَ الإنسانُ السوري، يعلنُ انتماءه لإنسانيتهِ أولاً، فلم يحصل بغيابِ السلطةِ والمتنفذين أنْ اعتدى أحدٌ على آخر بذهنية امتلاكهِ القوة وافتقاد الآخر لها.

منذ أيامٍ أطلقَ ناشطونَ حملاتِ وهاشتاغات” انقذوا مدنيي الرقة” بعد ارتكابات فظيعةٍ بحق المدنيين، ذهب ضحيتها المئات، في حين فتحت ممراتٌ لداعش، الأمر الذي وجد فيه على الضفة الثانية ممن يؤيدونَ طرفاً آخر، يتحالفُ مع التحالف ومع النظام في أماكنَ أخرىَ بأنْ هذه الدعوة جاءت من حقدٍ على الحاضنة الاجتماعيةِ للميليشيا العسكرية وليس على الميليشيا نفسها، وذهبَ ضحيةَ هذا التوصيف مثقفون وكتّاب، غيّبوا ذلك الحياء وتلك الأخلاقيات، والتي قد يقال عنها أدوات ماقبل الدولة لكنها ناظمة ووازنة، وراحوا يسخرونَ من مطلقي الدعوات، وينكّلون بهم في صفحاتهم غمزا أو تصريحاً. تعادُ اليوم الكّرةَ مرة أخرى وفي مكان آخر(عفرين)، تشتدُ الحملةُ على أتباع حزبِ العمال الكردستاني في المنطقة، وهي بالضرورة تكتظُ بالمدنيين، ولن يكونَ التركي بأرحمَ من التحالف في هذا الشأن، فالحرب في نظرهم وبجزء منها بما تتركه من تدمير للبنى العمرانية والنفسية، وسترتفع نفس أصوات هؤلاء الذين سخروا من حملة” انقذوا مدنيي الرقة” ضدَّ من لايكونْ مع حملة” انقدوا عفرين” من همجيةِ الفاشية التركيةِ، ليبدو الأمر هنا فاشية ضدّ شعب أعزل وفي الرقةِ محررين ضدَّ عصابةٍ لاينكر أحد ذي عقلٍ أنّها هدّامة وخلفها دول عميقة.

لن أقول” كل شي بالدين حتى دموع العين” لأن هذا مفهوم عاطل، يأخذ به من كانتِ الأسوار مبنية في ذاته، وأعمىَ الحقدُ بصرهُ وبصيرتهُ، بل سأقولُ كلُّ مكانٍ في بلدي مكاني، ولمْ تقسم سوريا بعد، وإنْ فرطت الدولة رغم وهنها، فلتذهب إلى الجحيم، ولتصبحَ بدلاً من( الدولة) مدجنةً أو محششةً أو حظيرةً للثيران، ولكلّ منا مزرعة، يرفعُ عليها علماً، وتكونُ الزيارةُ بفيزا أو كفلاء ومعرفين.

*شاعر وناقد سوري

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى