بكر صدقيصفحات سورية

بين «القيامة الآن» و… التاريخ


بكر صدقي

إذا سقط النظام ستندلع الحرب الأهلية الكبرى التي ستدمر المنطقة بأسرها، وسيأتي الغزاة الغربيون لإعادة استعمار المنطقة، تلي ذلك الحرب العالمية الأخيرة بين حلف الناتو وحلف الممانعة بقيادة إيران. حريق هائل سيندلع في خزان النفط الأهم في العالم! إنها القيامة الآن!

هذا ما يهذي به، صراحةً وضمناً، مدافعون عن النظام في سورية ولبنان وخارجهما أيضاً. وإذا كان أصحاب المصالح الحقيقية يعرفون ما يفعلون بإطلاقهم لمثل هذه التهويلات، فهناك من استسلموا لهواجسهم الضيقة ودخلوا مرحلة الهذيان والانهيار العصبي.

فإذا كان مفهوماً أن يستدعي رأس النظام المتهالك أمام إصرار ثورة الشعب، مراسلَ «الديلي تلغراف» ثلاث مرات في غضون يومين، ليطلق تهديداته بالزلازل والحرائق التي ستدمر المنطقة، ومثله مفتيّهُ الذي هدد عواصم الغرب بخلاياه النائمة المفترضة من الانتحاريين، فإن وصول بعض الضحايا السابقين للنظام إلى حد تهديد رموز المعارضة بالقتل، إنما يدخل في باب الحالات السريرية المأسوف عليها. فالنظام يخوض معركته المصيرية الأخيرة من غير أن يترك لنفسه أي مجال للحلول الوسط. ونفهم أن يستخدم ما لديه من أوراق لإطالة عمره يوماً إضافياً. وبعدما فشل في جميع محاولاته لحرف مسار الصراع بعـــيداً من هدفه المتمثل في إسقاطه، لم يبق أمامه سوى الإيحاء بأنه ما زال يملك أوراقاً لم يستخدمها، على أمــل منــه أن يــثير مخاوف الخصوم من «المخفي الأعظم».

أما الفئة الأخرى التي وصفناها بالحالات السريرية، فقد أدركت بغريزتها أن النظام سقط أو كاد، فانفصلت عن الواقع وأخذت تهذي. أليس ظهور الشيخ العرعور على شاشات التلفزيون بلحيته البيضاء وابتسامته الاستفزازية، أشبه بظهور المسيح الدجال؟ ألا يشبه يأجوجاً عبد الباسط الساروت (حارس مرمى فريق الكرامة الحمصي ومنتخب شباب سورية الذي يغني في التظاهرات المناهضة للنظام في حمص) وهو يتحدث من بين أنقاض بيته الذي قصفته الدبابات في حمص، عن استشهاد شقيقه مع اثنتي عشرة ضحية جديدة أضيفوا إلى قائمة الشهداء، فيما رفيقته في المظاهرات الفنانة المسرحية فدوى سليمان تشبه مأجوجاً؟ بل إنني سمعتُ معارضين ممن يشاركون في الثورة بالفعل أو القول، تنتابهم مشاعر غريبة وهم يشاهدون على شاشات التلفزيون، بعض قادة المجلس الوطني السوري، يتم استقبالهم استقبال رجال الدولة في بعض العواصم.

فقد فتح معظم سوريي اليوم عيونهم على الحياة في ظل حكم الأسد الأب، وأطفال المدارس الذين يخرجون في التظاهرات أو يملأون جدران مدارسهم بشعارات إسقاط النظام، ولدوا قبيل صعود بشار الأسد إلى سدة الحكم أو بعيدَه بقليل، فسمعوا بأبيه حافظ من كتبهم المدرسية وحسب. وبعدما انتقل الحكم إلى الوريث بحكم ضرورات الطبيعة القاهرة، لم يعد أحد يتصور، ولا في أحلامه، سورية من دون أسد. اثنان وأربعون عاماً من حكم الأب وابنه ليست مثل سبعين سنة من حكم الحزب الشيوعي السوفياتي في روسيا. فهذا الأخير كان ديكتاتورية طبقة حزبية ومؤسسات. أما الديكتاتورية المشخصة كما في سورية وليبيا وكوريا الشمالية وكوبا، فهي تكرس لدى المحكومين، بمرور السنوات والعقود، شعوراً بأبدية كل شيء. وحين يفعل التاريخ فعله وتأتي لحظة النهاية، يبدو الأمر في نظر المحكومين –معارضين كانوا أم موالين- كأنها القيامة التي بعدها العدم والسديم.

ماذا عن اللحظة السورية الراهنة في التاريخ الواقعي؟

لم يعترف النظام إلى اليوم بوجود انشقاقات في الجيش، بل إن ممثله في الجامعة العربية يوسف الأحمد تحدث، في أعقاب صدور قرار تعليق العضوية، عن أن معدل حالات الفرار الفردي من الجيش لم تتعدَّ معدلها المألوف في السنوات السابقة. وهذا في الوقت الذي بات العالم كله يعرف بوجود جيش موازٍ من المنشقين، لولاهم لما تمكن المتظاهرون من التظاهر في مناطق محتلة من القوات الموالية للعائلة الحاكمة. ومع أن من شأن اعترافه بوجودهم إضفاء بعض الشرعية على عملياته العسكرية في بعض المدن، فقد فضَّلَ إنكار ذلك والاستمرار في الحديث عن عصابات إرهابية مسلحة تقتل من أجل لذة القتل وحسب، الأمر الذي ينطبق أكثر على ميليشيات الشبيحة وعناصر المخابرات التي تمارس أنواعاً من السادية لا يمكن تفسيرها، كاقتلاع الحناجر وتقطيع الأوصال بعد التعذيب والقتل وتخريب محتويات البيوت بعد سرقة ما خف وزنه.

ومرد هذا الإنكار طمأنة الذات وبقايا قاعدة اجتماعية تتضاءل باطّراد، بأن النظام متماسك كالصخر ولا يمكن أن يتفكك وينهار. فأمام فشل القمع ومختلف المكائد لإشعال الفتنة الأهلية والتضليل الإعلامي الذي فاق كل التصورات، لم يبق للنظام ما يحميه غير تماسكه الصلب. هذا ما يدفعنا لتخيل الحالة الكابوسية من المراقبة التي من المحتمل أن الطبقة العليا في الأجهزة التابعة تخضع لها، خوفاً من أية انشقاقات. أعني أن عموم الشعب أقدر على التنفس بحرية من القيادات العسكرية والأمنية و«السياسية».

وأزعم أن هذا الوضع سلاح ذو حدين، والزمن لا يعمل لصالحه. لذلك يشعر النظام بالحاجة إلى إخراج مسيرات التأييد الضخمة التي ترفع الصور والأعلام، كمن يمشي وحده ليلاً في مقبرة.

يدرك النظام أن تعليق عضويته في الجامعة العربية هو العتبة المؤدية إلى التدويل. وبما أنه لا يملك أي خيارات سياسية للخروج من الأزمة (لأسباب تتعلق ببنيته ولا مجال هنا للتوسع فيها)، فمن المحتمل أن يبدأ تفككه من هنا وحتى صدور أول قرار لمجلس الأمن بإدانة انتهاكاته بحق المدنيين العزل. ومن المحتمل أن يؤدي الاحتقان الطويل المذكور، إلى انهيار تام مفاجئ في سرعته، قبل أي تدخل عسكري لا نريده ولا تريده الدول العظمى الغارقة في أزماتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى