صفحات الناسهيفاء بيطار

بين أطباء الجيش السوري ومدرّبات الفتوّة/ هيفاء بيطار

 

 

قبل الثورة السورية كنتُ، وعلى مدى عامين، أكتب في جريدة “الثورة” مقالاً في الأسبوع، فأتناول مواضيع إجتماعية وخصوصاً تلك المتعلقة بالتخلف والفساد، أو عرضاً لكتب استوقفتني.

كنت أحب أن يكون لي منبر في إحدى صحف وطني الحبيب سوريا، وأن يقرأ الناس ما أكتب. وبعد إندلاع الثورة السورية، رفضت جريدة “الثورة” نشر مقال لي تحدثت فيه عن العار في إقامة إحتفالات وتشييد خيم إحتفالية في مركز اللاذقية وإحضار مكبرات صوت عملاقة تبث أغان بصوت كالجعير يسبب الطرَش. أغان لم تعد تحرك في النفوس شيئاً مثل “سوريا يا حبيبتي”، ولافتات تحمل شعارات كاذبة. وأهم تلك اللافتات “خلصت، خلصت، خلصت” والمقصود الثورة التي اعتبرها النظام منذ اليوم الأول مؤامرة كونية، ولافتة مثل “مهما إرتقى أعداؤك سيدي الرئيس، فإن رؤوسهم لن تلامس نعل حذائك” فيما كان الدم السوري قد بدأ يسيل بغزارة في شارع الصليبة والطابيات وغيرها.

اتجهت للكتابة في جريدتي “السفير” و”الحياة”. مقالات عديدة تسببت لي بإستدعاء جهاز أمن الدولة مراراً. ولا أنسى قول ضابط أمن الدولة لي، بعدما احتجزني ساعتين عنده، بأنني يجب أن أكون كاتبة “وطنية”، وبأنه من المعيب أن أكتب مقالات أشبه بنشر الغسيل الوسخ. فقلت له يومها بأن الكتابة تعني لي تحديداً نشر الغسيل الوسخ.

أحب أن أستعيد بعض المقالات التي رفضت جريدة “الثورة” نشرها قبل بداية الثورة السورية. كتبتُ مرة عن فساد الجهاز الطبي التابع للجيش، وكيف كان العديد منهم يتقاضى رشاوى ضخمة من الشبان الذين يريدون الإعفاء من خدمة الجندية وهم في كامل صحتهم. وكنت أعرف مثلاً طبيب العيون الذي كان يتقاضى مليون ليرة من الشاب الذي يتهرب من خدمة الجيش (العسكرية)، مقابل أن يكتب له تقريراً بأن لديه درجات حسر بصر وإنحراف عالية تُعفيه من خدمة الجيش.

فاحت رائحة الفساد بين أطباء الجيش، وصار الناس يتناقلون تلك الفضائح، فكتبت عنهم مقالاً رفض المسؤول عن جريدة “الثورة” نشره. وحين قلت له على الهاتف أني أعرف أسماء هؤلاء الأطباء، منعني من نطق أسمائهم وقال بلهجة مبطنة بالتهديد: أحذرك، الجيش خط أحمر وكل ما يتعلق به ممنوع التطرق إليه.

ومن جريدة “الثورة” أنتقل إلى وزارة الإعلام. تطرقت إلى سوء معاملة مدربات الفتوة للطالبات في المرحلة الإعدادية والثانوية، وكتبت عنهن مقطعاً في روايتي “امرأة من طابقين”، وكيف كن يصرخن بنا حين نردد تحية العلَم كببغاوات: “أقوى يا حيوانة”. ثم نجعر: “بالروح بالدم نفديك يا رئيس”. ونتلقى وابلاً من الشتائم لأن حبال حناجرنا لم تتمزق. وكن يعاقبن الطالبات بالزحف مهما كان البرد شديداً والأرض مُبللة بالمطر.

رُفضت روايتي “امرأة من طابقين” مرتين من قبل لجنة القراءة في “اتحاد الكتّاب العرب” ووزارة الإعلام. واعتقدت أن الرفض سيكون لسببين. أولهما أني انتقدت المؤسسة الدينية التي تزرع فينا أفكاراً رافضة للآخر ومعادية له. والثاني أن ثمة صفحات في الرواية جريئة وتصف العلاقة الجنسية بين الشابة الطموحة التي تريد أن تكون كاتبة، وبين كاتب البلاد العجوز المُكرس من قبل النظام والذي تُقام على شرفه حفلات التكريم وكتب روايات في مديح النظام ورأس النظام. ثم تبين لي، عبر صديقة مخلصة تمكنت من قراءة التقرير حول رفض روايتي في سوريا، بأني تعرضت لمدربات الفتوة اللواتي يمثلن “حزب البعث” وهذا ممنوع المساس به، فهو أيضاً خط أحمر.

اضطررت بأسى وألم أن أحذف الصفحات المُتعلقة بمدربات الفتوة، حتى طُبعت الرواية في سوريا. بعدها لم أعد أطبع في سوريا مُطلقاً، بل في لبنان. ومن حسن حظي أن مجموعتي القصصية “الساقطة”، رفض “إتحاد الكتاب العرب” طباعتها بحجة أنها جريئة جداً، وكان لي الحظ أن أتقدم بتلك المجموعة إلى جائزة أبي القاسم الشابي في تونس وأحصل على الجائزة من بين 150 مخطوطة في العام 2003 .

حرية التعبير عن الرأي الحر معدومة في سوريا. فإتحاد الكتاب العرب، يبدو فرعاً من فروع الأمن. وظل علي عقلة عرسان يترأسه ربع قرن، وكان أشبه بالبطل الوحيد في مسرحيات من بطولة ممثل واحد.

لكني إخترت أن أرجع إلى وطني الحبيب وإلى اللاذقية المُنتهكة، كي أكون أقرب إلى شعبي، وصوته وضميره وشاهدة عصر، أجد المظاهر نفسها تتكرر. وأتأمل الجرائد الرسمية السورية كيف تنشر كل أسبوع صفحة كاملة تضم أكثر من أربعين صورة لشبان استشهدوا، فأحس بالإختناق ويزوغ نظري في تأمل تلك الوجوه النضرة الشابة المُبتسمة وكيف زُج بها إلى موت عبثي ومعركة قذرة. ثم الأسطر القليلة المكتوبة تحت كل وجه، عن فرح وإعتزاز الأهل أو الزوجة أو الأخ بموت كل منهم. صفحات من مسرح اللامعقول ومن العطب الفكري، والأهم من الخوف المتجذر في قلوب السوريين منذ أكثر من نصف قرن.

أتمنى لو أستطيع نشر مقالات في جرائد وطني سوريا، لكن النظام ما زال قبضة حديدية تخنق كل صوت حر. بينما إعلام النظام يتبجح بضرورة عودة المعارضين الشرفاء إلى سوريا (وطبعاً وحدة قياس الشرف للنظام هو، وهو وحده)، وبضرورة الحوار وأهمية الحل السياسي… فأيّ عار ألا يتمكن كتّاب سوريا الشرفاء وأصحاب كلمة الحق الشجاعة من نشر مقالاتهم في صحف سورية؟ متى سنتحرر على طريقة السيد المسيح حين قال: “الحق يحرركم”؟

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى