صفحات الثقافةنبيل سليمان

بين الألوهة والديكتاتورية/  نبيل سليمان

 

 

-1-

في سورة القصص نقرأ الآية 38: “وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري”. وقد كان الفرعون هو الحاكم الإله طوال حياته، ولا ينهي موته تأليهه. بل يمضي الحديث إلى أنه لم يكن إلهاً من آلهة، فقط، بل كان (آلهة). وهكذا يجتمع في الحاكم/ الآلهة (سيا) إله الإدراك مع (رع) إله الشمس مع (خنوم) خالق البشر مع (سخمت) إلهة العقاب.. ومن أنداد الفرعون المصري في الحضارات القديمة الإمبراطور الفارسي/ ملك الملوك الذي كانت الناس تسجد له وتؤلهه. كما أمر نيرون وكاليجولا بأن يعبدا في حياتهما. وبخلاف اليونان، كان السجود شائعاً في بلاد فارس وما بين النهرين، حتى إذا جاء الإسكندر إلى الشرق، واعتقد أنه إله حقاً، وليس مجازاً، أمر بالسجود له، لكنه أسقط الأمر أخيراً، لأن قومه (اليونان) رفضوه.

-2-

أطلق كريستوفر كولومبس على الجزيرة التي كانت أول أرض وصل إليها في العالم الجديد، اسم (هيسبانيولا). وهذه الجزيرة هي التي تضم اليوم هاييتي والدومينيكان اللتين عاشتا بامتياز تألّه الديكتاتور وتأليهه.

ففي هاييتي عدّت جمعية البيزانو السرية الرئيس بابا فرانسوا دوفالييه إلهاً أكبر، وملأت الجمعية مذابح المعابد بصور الرئيس الإله. وفي الروح الشعبية الهاييتية يسكن (دين الفودو) الذي هُزِمَ بفضله نابليون على يد قائد ثورة العبيد الهايتيّين. وقد استغل الرئيس الإله دوفالييه هذا الدين الشعبي، وتحول (إلى إله فودو)، وكان كسفه للشمس إحدى معجزاته.

أما في الدومينيكان فللألوهة والديكتاتورية حكاية أخرى، يتألق ماريو باراغاس يوسا في سردها ملء روايته (حفلة التيس). والتيس هو ذلك الإله الرئيس الجنراليسمو، المنعم، الدكتور رافائيل ليونيداس ترخوييو مولينا.

في هذه الحكاية لا يخفي الرئيس قبل أن يؤلّه ويتألّه احتقاره للمثقفين وللثقافة، ومنهم وزيره بالاغير، ومنها أشعار بالاغير وأبحاثه. لكن الخطاب الذي ألقاه بالاغير في مسرح الفنون الجميلة، عندما جرى ضمّه إلى أكاديمية اللغة كان استثناء. فالخطاب هزّ ترخييو من الأعماق، وجعله يتساءل مراراً عما إذا كان يعبر عن حقيقة عميقة، عن احد تلك الأحكام الإلهية عميقة الغور التي تسم قدر شعب من الشعوب.

كان الخطاب بالنسبة لترخييو أشبه بتلخيص لتاريخ الدومينيكان منذ نزل كريستوف كولومبس في جزيرة هيسبانيولا. وجوهر الملخص أن جمهورية الدومينيكان استمرت في الوجود أربعمائة وثمانٍ وثلاثين سنة، تعرضت خلالها إلى محن كثيرة منها الغزوات الهايتية، والقرصنة، ومذبحة البيض الذين لم يبق منهم غير ستين ألفاً عند استقلال الدومينيكان عن هاييتي. أما بقاء الدومينيكان على قيد الحياة فقد كان بفضل العناية الإلهية. ولكن، ابتداءً من عام 1930 حلّ رافائيل ليونيداس ترخييو مولينا محل الإله في هذه المهمة الشاقة.

لم يكن بالاغير أول من ألّه الديكتاتور الذي يتذكر أن بروفيسور القانون المحامي والسياسي دون خانثينتو ب. بينادو هو السابق، وبالاغير هو اللاحق. وحين جرت احتجاجات دولية ضد انتخاب ترخييو للمرة الثالثة رئيساً سنة 1938، بسبب مجزرة الهايتيين، أنعم على بينادو بمثل المنصب الرفيع لبالاغير. وقد رد بينادو على نعمة المنعم بأن علّق على باب بيته إعلاناً مضيئاً كبيراً يقول “الله وترخييو” وسرعان ما تألقت شعارات مماثلة على بيوت كثيرة. ولم يكن ذلك مفاجأة ترخييو الكبرى، بل ما بدا حقيقة ساحقة جعلته يكابد الإحساس بثقل يدٍ خارقة للطبيعة على كاهله. ثم جاء خطاب بالاغير الذي تعاد طباعته كل سنة كمادة قراءة إجبارية في المدارس، وكنص أساسي في كراس الثقافة المدنية المخصص لتربية تلاميذ المدارس وطلاب الجامعة على العقيدة التروخييوية. وهكذا صار الديكتاتور إلهاً.

-3-

بعد زلزال 2011 في سورية تواتر اشتغال الرواية فيها على ما بين الألوهة والديكتاتورية. ففي رواية ابتسام التريسي (لعنة الكادميوم – 2016) يلتحق بداعش الملازم خضر، أحد ضباط الفرقة 17 التي حوصرت سنتين شمال الرقة. وهذا الضابط العلوي يروي كيف سقطت في الحصار الهالة القدسية للجيش، والتي كانت تجعل العسكري ينصاع للأوامر بلا نقاش ولا تفكير. وبسقوط هذه الهالة، يقول الملازم خضر: “صرنا نفكر، وتجرأنا على شتم القيادة العسكرية، بما فيها قيادة الأركان ووزير الدفاع، حتى تطاولنا على الذات الإلهية لشخص الرئيس”. ولا تجعل الرواية من خضر، هنا، ناطقاً باسم من في الفرقة من العلويين، بل باسم الجميع، فيتساءل: “أي إله ذاك الذي يترك عبيده محاصرين كالفئران؟”.

-4-

تجزم رواية إبراهيم الجبين (عين الشرق) بأن العلويين يؤلهون الرئيس. وأول ذلك ما تحدث به تلك التي يصافح المؤلَّه المتألّه يدها برهبة وتقديس، عن حيرتها بين تصديقه وتكذيبه عندما يصف نفسه بالبساطة والزهد “فلا يمكن للإله أن يكذب”. وتتساءل المرأة: “فكيف يمكن للإله أن يكون إن لم يكن على هذه الصورة؟ إله البساطة؟ إله الأرض؟ إله العلويين”.

لا يتقنع الكاتب بالسارد في هذه الرواية السيرية، بل يتولى السرد باسمه الصريح، فيتحول السرد إلى إعلانات جامعة مانعة، وإذا بالموت في الحرب السورية ليس قدراً للذين حملوا السلاح دفاعاً عن (إلههم)، بل هو خيار. وإذا بالعلويين ينظرون إلى الرئيس على أنه أعظم شخصية ظهرت في تاريخهم بعد علي بن أبي طالب الذي كان إلهاً في معتقداتهم. ولذلك فقد ورث الرئيس تلك الصفة، فهو إله بالضرورة. ويتابع الراوي/ السارد/ الكاتب أن بسطاء العلويين يدركون أن الإمام معصوم، وبالتالي “هذا إله من إله”. كما أن تلك التي تعمل في مكتب الرئيس وتقضي معه ساعات على انفراد، تروي للكاتب أن “الإله يتغير”. وهذا الذي شاخ، وبات أسير عزلته، يحدث عن نفسه، كما يكتب الكاتب: “كنت إلهاً. لا شك أنني كنت إلهاً. لكنني لم أكن إلهاً عادياً. خالد وجبار ومنتقم. لا يزول غضبي.. فقط ليتني أعرف ما الذي يحدث في الخارج”.

هكذا يصير التألّه والتأليه في أشراك الديكتاتورية تكفيراً يتذرع بما يسوق الكاتب من إعلاء لابن تيمية صاحب الفتاوى الشهيرة في قطع رؤوس الفرق الضالة المضللة، ومنها العلويون. ومن المفيد هنا العودة إلى ما كتبه سلامة كيلة تحت عنوان (زمن دفاع اليسار عن ابن تيمية) في العربي الجديد  17/ 5/ 2017.

-5-

من مصر تأتي رواية وحيد الطويلة (حذاء فيلليني) متخذة من سورية فضاءً لها في زمن الزلزلة. وتبدأ لعبة التأليه في الرواية بما تنقل من هتاف الموالين للنظام منذ عقود، وهو: “يا ألله حالكْ حالكْ/ القائد هيحلّ محلّك”. والهتاف باللهجة السورية، وليس المصرية، وهو: “يا ألله حلّك حلّك/ القائد يقعد محلك”. وأذكر منذ ذلك الزمن البعيد أن الهتاف كان يسمي الرئيس السابق أو شقيقه (رفعت). كما أن الشعار الذي تردد منذ ذلك الزمن (قائدنا إلى الأبد/ الأمين حافظ الأسد) ينادي التأليه المندغم بالنبوة كما مر بنا في روايات شتى في الفقرة الثالثة.

من الاحتفالات التي يجلجل فيها صوت الإذاعة مؤلِّهاً، تنقل رواية (حذاء فيلليني) ساخرة من دغدغة مذيع لـ “غدد النضال المتوفرة بكثرة عندنا”، إذ يهدر: “ألا يكفي السماء أنها تستمد جلالها وجمالها من حكمة قائدنا وجمله الخالدة؟”. ومثل ذلك هدير مذيعة في وصف مظاهرة مؤيدة للرئيس في عيد المولد النبوي، إذ تقرأ مما أعدّ المعد عن النبي “القائد الأول للبشرية”، فتنحّي الأوراق وتهدر مستنكرة: “يا الله! كأنه يكتب عن السيد الرئيس”. وفي موقع آخر يتمطق لسان السارد مردداً اللقب الذي شاع بعد رحيل حافظ الأسد وهو (القائد الخالد) فنقرأ: “نحن لا نضع صور وتماثيل القائد الخالد من أجل ميزة له، فالخالد لا يحتاج إلى صفات أخرى”. ومع ذلك يعدد السارد من صفات الخالد: الصنديد ورب السيف والقلم والزراعة والصناعة والرجل والمرأة والأسرة ورب الحرب والسلم والدجاج.

وفي محاولة حاذقة لاستيعاء تأليه الديكتاتور وتألّهه، ترمح رواية (حذاء فيلليني) إلى الصين زمن ماوتسي تونغ، لتنسج إهاباً عالمياً لما بين الديكتاتورية والألوهة. فحين تهتف ثلاثمائة مليون حنجرة باسم ماو، ويقع الزلزال الذي يحيي الروح، تلد الحبالى وهن يهتفن، وتصرخ الإناث المولودات كأمهاتن: ماو، وعندئذٍ يولد ماو آخر اسمه الإله ماو. ويذهب السارد إلى أن إلهاً لو شاء صناعة ديكتاتور، لما فعل أكثر، بل ولَمَا كان طموحه وشياطينه أكثر. أما في لحظة تألّه ماو، وتأليهه، فيفقس الديكتاتور جلادين، يبدل أمخاخهم ويدخل في عقولهم، فيقدسونه ويسبحونه، ويصيرون كائنات على مقاس جلالته.

-6-

يروي سلام الكواكبي مما سمع من أقاصيص في دولة عربية عميقة الخبرة فيما يسميه (الأمنوقراطية) مشتقاً هذه الكلمة من كلمتي الأمن والبيروقراطية. والقصة هي أن قائد جهاز أمني كان يحضر محاضرة، وكان عنصراً صغيراً من جهاز أمني آخر حاضراً أيضاً، فَطُلِب منه برجاء أن يخرج، لعدم إحراج ذلك القائد، فما كان من العنصر الصغير إلا أن أجاب بثقة لا مثيل لها، أنه يهزأ بهذا القائد، وبرئيس الجمهورية نفسه، لأن إله العنصر هو (معلمه المباشر)، أي رئيسه المباشر.

ويروي ياسين الحاج صالح من ذكرياته في سجنه المرير الطويل أن ضابطاً كان ملقباً بـ (أبو الموت)، وكان يصف نفسه للمعتقلين بأنه عزرائيل، قبل أن يستدرك بأنه هو الله، وأنهم سينتقلون على يده إلى ديار الحق.

وآخر ما أختم به هو قول نزار قباني في قصيدته (السيرة الذاتية لسيّاف) ناطقاً باسم الديكتاتور المتأله: “من سيشفي بعدي الأعرج والأبرص والأعمى/ ومن يحيي عظام الميتين؟/ من ترى يُخرج من معطفه ضوء القمر؟/ من ترى يرسل للناس المطر؟/ فاسجدوا لي في قيامي/ واسجدوا لي في قعودي”. وبالمقابل، من الشعر أيضاً ما ينقض ألوهية الديكتاتور، كما في قول بدوي الجبل: “يسومنا الصنم الطاغي عبادته/ لن تعبد الشام إلا الواحد الأحدا/ تألّه الفرد حيناً ثم عاصفة/ هدارة، فكأن الفرد ما وجدا”.

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى