صفحات العالم

بين الاستفتاء والحسم: الأسد في صلب الحلّ


رفع الاستفتاء على الدستور الجديد وتيرة الحسم الأمني في سوريا، كي يخرج الرئيس بشّار الأسد التسوية السياسية بطريقة الكيّ. تصفية معارضيه المسلحين بالتزامن مع تأليف حكومة جديدة تضع الدستور الجديد موضع التنفيذ. لكن الخيارين لا يقودان سوريا حتماً إلى التسوية

نقولا ناصيف

تركت نتائج الاستفتاء السوري العام على الدستور الجديد الأحد 26 شباط بضع ملاحظات ذات دلالة، توازن بين استعجال الحسم الأمني ووضع أرضية تسوية سياسية، يريد الرئيس بشّار الأسد الذهاب بالمعارضة إلى التفاهم معها عليها بعد أن يكون قد انتزع منها الأرض: أولها، أنها المرة الأولى لعقود طويلة يُعدّل فيها الدستور السوري خارج القاعدة المتبعة منذ تعاقب الانقلابات العسكرية في سوريا عام 1949، وهي أن تعديل الدستور، كما وضع دستور جديد، تقرّره إرادة الحاكم أو الرئيس منفرداً فور تيقنه من أنه بسط سيطرته على الحكم والبلاد، فيدعو السوريين إلى الاقتراع لدستور يكرّس هيمنة الحاكم والرئيس.

حصل ذلك لأول مرة مع أول دستور في حقبة الانقلابات عام 1950، ثم كرّت السبحة حتى الدستور العاشر في ظلّ الحقبة نفسها عام 1973. انتخاب الرئيس يسبق الاستفتاء على الدستور كي يكون على صورته.

في استفتاء الأحد، رغم ما قيل مراراً عن سعي الأسد إلى إصلاحات سياسية ودستورية لبلاده لم تتحقق طوال 12 عاماً من ولايتيه، أتى تعديل الدستور يكسر القاعدة تلك، ويُطلق أول إشارة إلى النتائج التي ترتبت على الاضطرابات التي شهدتها سوريا منذ 15 آذار 2011. وهي أن الدستور الجديد يمثل التنازل الأكثر تأثيراً في انتقال سوريا من حقبة إلى أخرى، من دون أن تنجح الاضطرابات تلك في إسقاط الرئيس والنظام الذي يرأسه، وكانا هدف العصيان والانتفاضة وتنظيم المعارضة المسلحة. ذهب النظام أو يكاد، وبقي الرئيس الذي حكم في ظلّه، ويسعى إلى أن يستمر في ظلّ الدستور الجديد.

بل طوى الدستور الجديد ـــــ وهو لا يزال إلى الآن على الأقل حبراً على ورق ـــــ حقبة طويلة من انقلابات عسكرية ألغت تعدّدية سياسية كانت قد ازدهرت في سوريا بين عامي 1930 و1949، ووضع البلاد عند مفترق جديد. وبمرور سنوات طويلة من الاستقرار الداخلي في سوريا، لم يشأ الرئيس حافظ الأسد، ولا من بعده نجله، التخلّص من المبرّرات التي أوجبت احتكار الحكم والسلطة في حزب واحد.

كان الخوف على فقدان السلطة والتحوّط من الانقلاب عليها، وراء دساتير عدة تعاقبت منذ عام 1950. هكذا مرّ دستور 1953، ودستور 1958 (حقبة الوحدة مع مصر) ودستورا 1961 و1962 (حقبة الانفصال) ودستورا 1964 و 1966 (حقبة البعث) ودستور 1971 (اتحاد الجمهورية العربية المتحدة)، ثم دستورا 1971 و 1973 (حقبة الأسد الأب). لأول مرة مذ ذاك أتى استفتاء الأحد ثمن إرادة شعبية تريد التخلّص تماماً من النظام برمته، وتضع الرئيس أمام امتحان الخضوع للدستور لا إخضاعه لإرادته.

بالتأكيد، يحلّ الدستور الجديد أزمة الطعن بالنظام والحزب الحاكم، ولا يحلّ أزمة الثقة بالأسد.

ثانيها، أعطى الاستفتاء الأسد الابن تأكيداً إضافياً أنه لا يزال بين سائر القوى التي يتنازع معها دموياً في سوريا (المجلس الوطني ومعارضة الداخل والإخوان المسلمون والتيّارات السلفية) يتمتع بالشرعية الشعبية الأكبر، بمعزل عن صحة الأرقام ودقتها والطعن فيها.

في حصيلة نسبة مشاركة بلغت 57.4 في المئة من الناخبين السوريين، أظهر الأسد أنه لا يزال قادراً على الحصول على تأييد 51.3 في المئة من الناخبين السوريين.ح وهو بذلك يسيطر على النصف +1 من الشعب السوري الذي يضع كل السلطة في يده. لا يحجب هذا الرقم حقيقة مقابلة، ثقيلة الوطأة، هي أن 42.6 في المئة من الناخبين السوريين لم يشاركوا في الاقتراع. أي إن أقل من نصف الشعب السوري بقليل لم يستجب للاستفتاء، في مقابل أكثر من نصف الشعب السوري بقليل استجاب. قال لا للاستفتاء على الدستور 5.2 في المئة من مجموع الناخبين السوريين، مثلوا بين المشاركين فيه نسبة 8.9 في المئة.

ثالثها، عكست النتائج الرسمية للاستفتاء سقوطاً مدوياً وحقيقياً لكل إجماع كانت تبرزه في استفتاءات الحقب العسكرية المنصرمة وانتخاباتها، بما فيها مرحلتا الأسد الأب والابن. بالتأكيد يعرف الرئيس السوري أنه فقد الإجماع عليه رغم انتخابه به مرتين في استفتاءي 2000 و2007. ويعرف أنه لم يستطيع مع ذلك توفير الإجماع على الاقتراع لدستور جديد يتخلّص من حزب البعث وحكم العقود الخمسة المنصرمة. بيد أن نسبة الـ 42.6 في المئة من السوريين الذين تغيّبوا عن الاستفتاء تتوزّع على أكثر من سبب للإحجام عنه: بينهم مَن قاطع وبينهم مَن خاف ومَن حالت الاضطرابات دون اقتراعه.

وهكذا ليس كل الـ42.6 في المئة هم خصوم الأسد وأعداءه، وليس أيضاً كل الـ51.3 في المئة هم جميعهم مريديه الحقيقيين. لم يكن الاستفتاء على تجديد الثقة برئيس الدولة، بل على دستور جديد في الغالب، في الأنظمة الديموقراطية، يجتذب مشاركة أوسع من استفتاءات انتخاب الرئيس بسبب الارتباط المباشر للدستور الجديد بالمواطنين وعلاقتهم بدولتهم، وموافقتهم على آليات جديدة لتنظيم هذه العلاقة ونظام الحكم، فيقترعون بالموافقة أو الرفض ويتجنبون المقاطعة والامتناع. ليس الموقف نفسه مع انتخاب الرئيس. مع ذلك استخدم النظام النسبة المعقولة من المشاركة، غير المألوفة في أي حال في سوريا، كي يُطابق بينها وبين الشرعية الشعبية.

وخلافاً للمجلس الوطني الذي سخر من الاستفتاء، فإن معارضين للنظام من داخل البلاد نظروا بمرونة إلى الاستفتاء، وعدّوه خطوة إيجابية كالمعارض قدري جميل المرشح لترؤس الحكومة الجديدة.

لا تعني هذه الأرقام سوى مؤشرات أولى على أن المجتمع السوري، في ظلّ الأسد، لم يعد هو نفسه. وسواء نُظر إلى الأرقام الرسمية التي أعلنتها وزارة الداخلية بصدقية أو بشكوك، إلا أنها تشير حكماً إلى مرحلة جديدة يتوقع منها الرئيس السوري مزيداً من التنازلات المؤلمة، أولها تأليف حكومة جديدة ترأسها شخصية من معارضة الداخل، وتضم في صفوفها شخصيات معارضة وأخرى مستقلة، وكذلك أعضاء من حزب البعث.

رابعها، رغم أن الاستفتاء لن يحظى بتأييد العرب والغرب الذين يعلقون موافقتهم على أي تسوية في سوريا على تنحّي الأسد، إلا أن نتائجه فرضت أمراً واقعاً جديداً تسلحت به روسيا والصين، هي أن الرئيس السوري بات جزءاً من الحلّ ما دام قادراً على تنظيم استفتاء عام وعلى الاحتفاظ بقاعدة شعبية كبيرة، فيما يعتقد العرب والغرب أنه يمثّل المشكلة برمتها.

وهو مصدر التناقض الحقيقي الدائر بين واشنطن وموسكو حيال التسوية التي يقتضي اتفاقهما عليها لإنهاء اضطرابات سوريا، ومحورها مصير الأسد: روسيا تريده على رأسها، وواشنطن تصرّ على استبعاده من دون ممانعتها في بقاء نظامه تبريراً لدعم المبادرة العربية التي تصب في المنحى نفسه. يدافع الروس عن الخطوات الإصلاحية التي اتخذها الأسد في الأشهر المنصرمة، وآخرها الدستور الجديد، وكانوا وراء استعجال تحديد موعد الاستفتاء، فيما يتوقع الأميركيون الإصلاح بعد تنحّي الأسد وبين أيدي معارضيه في المجلس الوطني بعد توليه السلطة.

في المقابل يتناقض الموقف الأميركي مع شريكيه السعودي والقطري من تسليح المعارضة، وكلا الطرفين ـــــ بعد طول إنكار ـــــ يتحدّثان عن وجود معارضة مسلحة. تجتمع واشنطن والرياض والدوحة على إسقاط الأسد، وتفرّق على خيارات إطاحته.

في ظلّ هذا التناقض، لن تصل الأزمة السورية إلى مجلس الأمن بسبب خلاف الغرب مع المعسكر الشيوعي القديم. ولن يُطاح الأسد بالقوة بتدخّل عسكري خارجي، ولن تسمح موسكو بتحايل على التدخّل العسكري الخارجي بإنشاء منطقة عازلة تقتطع سلطة الرئيس السوري على بلاده وتطلق دولة ظلّ للمجلس الوطني. لكن الواقع أيضاً أن الاستفتاء على الدستور الجديد، ثم إعلان نفاذه، مثّل غطاءً شعبياً إضافياً للأسد لمواصلة الحسم الأمني ضد معارضيه المسلحين بعنف غير مسبوق، وانتزاع الأرض منهم: بعد تجريد الإخوان المسلمين والتيّارات السلفية من ذراعها العسكرية وتجاهل المجلس الوطني، يقود معارضة الداخل إلى تسوية وضع هو دستورها.

الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى