صفحات العالم

بين “التدمير” و”التغيير”متى يقبل السوريون “الحقيقة”؟

    عبدالامير الركابي

تحتاج سوريا من دون شك اليوم، الى افق اخر، لا وجود له لا في معسكرالنظام ولا في المعارضة. ومع ان افقا كهذا ليس سوى تمنٍ، يمكن المرء ان يتصوره. الا ان الاعلان عن قحط حالة بعينها، بطلب نقيضها، قد يكون افضل، واكثر عملية، من البقاء ضمن هيمنتها الذهنية والمفهومية وبالطبع الشعورية.

اذا كان للشعوب والامم ان تستخلص من التجربة، خاصة التجارب الدموية والتدميرية دروسا، فإن ما يبدو ملحا على العقل السوري اليوم هو، هل اصبح من الواجب واللازم لاجل الوعي العام الوطني والمستقبل، ان تحاكم تجربة هذا البلد، بعد اكثر من سنتين على بدء ماحدث ويحدث فيها من مسار تدميري، ام ان مثل هذا الوعي، او بداياته ستظل غائبة، ويظل في الحصيلة اولئك الذين يتحدثون بحماسة عن “الثورة” كما هم، في مقابل من يتبعون النظام  ويخالفونهم على طول الخط، بينما يستمر الدمار مسيطرا على الحياة والحاضر، ويدمر المستقبل؟

 لو فكر المرء اليوم بمقترحات يقدمها للقوى الحية في سوريا، تتعلق بصوغ المفاهيم الاساسية او اعادة صوغها في على ضوء التجربة المعيشة، لا المفترضة او المتخيلة، فماذا سيقول؟ لنجرب عرض هذه النقاط، ولنترك للنخبة السورية، ان ترى ما تراه بصددها، مع انها في الغالب لن تقبلها بداية، وقد تميل لرفضها جملة وتفصيلا، لكن التاريخ كما تعلمنا التجارب، لا تحكمه مسارات وحيدة ولا ثابته، واذن فإن باب الإحتمالات يظل مفتوحا في كل حدث، والاستدراك والحالة هذه لا وقت له، ولاشيء يمنع تقديمه، حتى وان بدا في غير أوانه:

1 – واول فكرة جديرة بالانتباه في سوريا اليوم، هي تلك التي تتعلق بالمنظور الوطني، وبالوحدة المجتمعية التي يبالغ السوريون كثيرا في اعتبارها متحققة، مع ان الذي لاتتحكم بوعيه الايديولوجيا والاعتباط، يدرك بأن مثل هذه الوحدة لا اساس لها، ولسنا نعرف من اين تأتي او أتت، ففي مجتمعاتنا، من التجاوز غير المقبول الحديث عن وحدة وطنية شروطها معروفة. فلا السياقات الاوروبية للقومية والدولة الامة، لها حضور، ولا الاسباب القديمة لقيام الدول الشرقية تنطبق على الحال السورية. فالحضارات والدول القديمة قامت على ضفاف الانهار، في مصر وجنوب العراق، في حين يعد من الخروج على المنطق، القول بأن اماكن اخرى من المنطقة العربية خاصة، قد عرفت التبلور الوطني، او قيام الدول التي تمثل نصاب الامة. والشام بالذات هي ممر الامبراطوريات، وارض دول المدن، وحتى الى ماقبل قيام دولة حافظ الاسد، لم يكن هنالك من مظهر او معلم، او مناسبة تدل على ان سوريا موحدة، ولها ذاتية وطنية تعي بها وجودها. ويوم قام فيها تاريخيا نظام يوحدها قام على يد  كتلة موحدة جاءت من الخارج، ابان الدعوة الاسلامية والفتح، على يد معاوية بن ابي سفيان والامويين.

2 – هذه الحقيقة تجعل من موضوع “الثورة”، او التسمية التي من هذا النوع كما هي جارية الان، لا تنسجم مع المعطى المعيش فعلا، فالحداثة السياسية التي عرفتها هذه البلاد، كانت نتيجتها ومآلها الدولة التي انشاها حافظ الاسد، والتي هي حصيلة الممكن المتوافر. وقد قامت وهي  تعاني في الاصل من نقيصة جوهرية، بما انها تعاكس الحالة ” الطبيعية” السورية، اي انتفاء المركزية وتوزع الولاءات والسلطات على المدن. فدولة حافظ الاسد “الحديثة”، هي خطأ مجاف للتاريخ و”ديكتاتورية” بهذا المعنى، بينما معارضتها ترتكز الى ما دون مفهوم الدولة المركزية، وتتغذى من التفتت، وتعدد السلطات والولاءات التي يمكن مشابهتها بـ”الديموقراطية” بما انها تستجيب للحال الطبيعي، غير ان الاشكال العويص في محاولة اعادة الحال الطبيعي الى سابق عهده، انه  لم يعد ممكنا، لانه مفتت، اولاً وبديهياً في اصوله، كما بسبب دخوله نفق التشوهات التي اضافها وفرضها صعود وتشكل دولة الحداثة القسرية، هذا عدا عن التحوير الاخر، الناجم عن شروط مواجهة او قلب الدولة الحديثة القسرية، فلا خطاب اعتدال او بنية مدنية متوافرة، يمكنها ان تتصدى لخوض مواجهة طبيعتها استثنائية.

3 – اذن فالتسميات التي تطلق منذ بدء التحركات في سوريا  تحتاج للتدقيق، فلا الذي يجري “ثورة”، ولا هو منحى يفضي الى “الديموقراطية”، و لا “المعارضة” تنطوي على المعنى والمفهوم المقصود منها كمشروع، والارجح ان حساب التوازنات، كما هو قائم، اقرب الى الدفع نحو التفكير بمفهوم التدمير الذاتي. الذي لا نهاية له ولا نتيجة.

4 – والامر الأكثر خطرا، هو انعدام تلك القوة التي بمقدورها الارتفاع فوق هذا الوضع،بطرفيه الماثلين، فاذا وجد بالفعل وضع كهذا، واصبحت سوريا في نظر نفرمهم من ابنائها، ابعد من دولة الحداثة القسرية، وابعد من الرغبة في العودة للتفتيت الاصلي، وولفت بين هذين المفهومين، المعبرين عن قصور البنية الوطنية وعجزها، فان سوريا تغدو وقتها فقط اقرب الى الفعل الذي يتجاوز حالة ما قبل المفهوم الوطني. حتى ذلك الحين، ستظل المعارضة اقرب الى فعل “السيبة” في حالة المغرب العربي، والدولة الحديثة القسرية نظام انكشاري محدث.

5 – هل يحدث ان تكون المفاهيم التي تصر على تحقق الوطنية، وتبالغ في ادعاء انتظام البلاد في العصر، من قبيل المرض الناشيء عن عدم تحقق العصرية، نعم هذا ممكن وهو قائم بالفعل في حالة سوريا اليوم، ولكن اولئك الذين تصوروا في بداية التحركات والتظاهرات السورية، ان المجتمع المدني راسخ، وقادر على قيادة “ثورة”، مازالوا الى اليوم، يهمهم ان يكونوا مواكبين او على قرب من “النصرة”. وهذا ابتذال مفهومي ومبدئي، اصحابه لايكادون يشعرون بأي تغير، لافي نظرتهم وتقديرهم للواقع ومجرياته والتباساته، ولا في اتجاهات سير الاحداث، وما تتكشف عنه واقعيا. وهذا في الاجمال، مظهر يستحق ان يعالج بمنظار لايبرر التقدير وضده، ولايتبع المجريات كما تسير، والى اي مكان تصل.

6 – اخيرا الا يبدو الحال السوري الحالي، محطة كارثية، على طريق سوريا ما بعد المعارضة التفتيتية والدولة القسرية، حيث التخيلات عن “الوحدة العصرية”، وتشكّل الذاتية الوطنية، تصير من قبيل السذاجة، وحيث تصور البلاد، وافاق وحدتها او ثورتها، تكللها مقاربات وتصورات وآراء من نوع اخر، هذا عداعن المسلك والممارسة. على كل حال، لقد ضج العالم وضاق باناس هم دون شعاراتهم، واقل بكثير من مبررات الصلاحية التي يحتاجها اي مشروع للتغيير. ومن سوء حظ هؤلاء ان العالم وداوئره الفعالة اليوم، اصبح اكثر تعقيدا وصرامة، واختباراته وتشابك مصالحه لم تعد تسير فوق جادات مستقيمة. ذلك بينما الافق السوري بمنقلبيه لا جادة تستوعبه… مؤلم حال المجتمع في سوريا، سيكون ثمن صحوته ونهوضه، اكبر بكثير من ان يعادل بثمن.

كاتب عراقي

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى