صفحات العالم

بين القرم واللاذقية: أحلام أقرب إلى الكوابيس!/ محمد مشموشي

 

لا تختلف ممارسات من يطلق عليهم اسم «المواطنون الروس» في المناطق الشرقية لأوكرانيا عما ارتكبه «شبيحة» النظام السوري في المناطق التي خرجت عن سيطرة قواته وأجهزته الأمنية لدى بدء الثورة عليه قبل أكثر من ثلاثة أعوام. بالقدر ذاته، لا تختلف اتهامات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لمن يصفهم بـ «الارهابيين» و «النازيين» في أوكرانيا عن تلك التي ساقها رئيس النظام السوري بشار الأسد ضد معارضيه من أنهم ليسوا الا «عصابات مسلحة» تشارك دولاً وقوى خارجية في «حرب كونية» تشن على سورية. كما لا يختلف بدوره حديث بوتين عن استعداده لحماية المواطنين الروس، وحتى الناطقين باللغة الروسية، في العالم عن كلام الأسد على حمايته ونظامه الأقليات الطائفية والعرقية في سورية.

هل هناك توسيع للدائرة أكثر من ذلك؟ استراتيجياً، إذا جاز التعبير، لا فرق كبيراً من وجهة نظر الاثنين بين شبه جزيرة القرم التي أعلنها بوتين «دولة مستقلة ضمن الاتحاد الروسي» استناداً لاستفتاء ثارت حوله شكوك كبيرة، وبين محافظة اللاذقية ومنطقة الساحل السوري (هل تشهد استفتاء مماثلاً؟) التي يبدو أنها تسلك مثل ذلك الطريق تحديداً: كيان مستقل ضمن الدولة السورية، اذا أمكن، أو خارجها اذا لم يمكن أن تتسع له في المستقبل.

لكن أوجه التشابه، أو ربما التشبه عن سابق تصور وتصميم، لا تقف في الواقع عند هذا الحد، مع أن الأول يحلم بـ «امبراطورية» متسعة الأرجاء بينما لا يريد الثاني أكثر من الاحتفاظ بالسلطة (أو بجزء منها) على رغم التدمير الممنهج الذي ينزله بالأرض والشعب وبنية البلد التحتية للعام الرابع على التوالي.

ذلك أن»القيصر»، كما يحلو لأتباع بوتين وحلفائه (بخاصة العرب) أن يلقبوه، يعرف جيداً أن ما يدور في ذهنه لجهة استعادة ما كان لموسكو زمن الحرب الباردة معظم النصف الثاني من القرن العشرين، ليس سهلاً ولا حتى ممكناً في ظل نظام العولمة السياسية والاقتصادية والمالية الذي أعقب فترة تلك الحرب مهما قيل غير ذلك.

لكنه، على رغم ادراكه العميق لهذه الحقيقة، يظن أنه يستطيع استغلال الظروف الدولية الراهنة، بخاصة حال الولايات المتحدة الأميركية تحت ادارة الرئيس باراك أوباما، لاستعادة ما يمكنه من هيمنة ونفوذ غابرين في مجموعة الدول التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي السابق. وما فعله في القرم، ولا يزال يفعله حتى الآن في أوكرانيا، لم يكن الا تكراراً لما قام به في جورجيا في 2008 من دون أن يواجه بأي رد جدي لا من الغرب عموماً ولا من الولايات المتحدة على وجه الخصوص.

في موازاة ذلك، وجد بوتين، كما يبدو، ضالته في التململ الذي تبديه دول في الشرقين الأقصى والأوسط، من وحدانية القوة العظمى الأميركية، معتقداً أنه يوفر له الدعم الذي يحتاجه في مسعاه، إن لم يكن لإعادة إحياء ما يوصف في الغرب بـ «الامبراطورية الروسية القديمة»، فأقله لضرب وحدانية القطب الأميركي منذ انتهاء الحرب الباردة وانهيار الامبراطورية السوفياتية التي كان بوتين جزءاً من هيمنتها على ألمانيا الشرقية، واعتبر سقوطها في ذلك الحين «احدى أكبر الكوارث العالمية في القرن العشرين».

الصين واحدة من هذه الدول، ومعها الهند في شكل ما، لكن ما يُسمى «الدولة الصاعدة» في ايران كانت الأكثر حماسة من الجميع لركوب القطار الروسي في رحلته هذه، وحتى تزويده بما يلزم من مال وحقول استثمار بما فيها مجال الطاقة والمفاعلات النووية، أملاً في أن تحقق عبره ما تحلم به بدورها… التحول الى قوة اقليمية صاحبة نفوذ معترف به في المنطقة وفي العالم.

وليس الا في السياق ذاته (السياق الايراني مع روسيا) جاء دور بشار الأسد الملتحق كلياً بنظام «الولي الفقيه» في طهران، فضلاً طبعاً عن عقود التسليح الكبيرة بينه وبين موسكو والتي تدفع أثمانها ايران من جهة أولى، كما عن التسهيلات المعطاة منذ القدم للبحرية الروسية في طرطوس وغيرها من موانئ الساحل السوري من جهة ثانية.

وفيه تحديداً، تأسست الشبكة التي أخذت صيغتها بالحماية الروسية لنظام بشار الأسد في مجلس الأمن وعلى الأرض من خلال شحنات الأسلحة التي فاقت كل تصور، كما بالأموال الطائلة تتدفق عليه من ايران والعراق (التابع الآخر لنظام طهران)، وتالياً وقوع سورية وشعبها رهينة الحلمين معاً: حلم بوتين الكبير بـ «الامبراطورية الروسية القديمة»، وحلم الأسد الصغير جداً والمتمثل بالبقاء على رأس السلطة في سورية ولو على حساب بقاء سورية نفسها!

لكن ما يبقى هو السؤال: هل أحلام بوتين والأسد هذه هي أحلام قابلة للتحقق، فضلاً عن الحياة، أم أنها مجرد كوابيس؟

غني عن القول إنه قد يستطيع بوتين أن يطوق أوكرانيا ويحاصرها، كما فعل في جورجيا والشيشان وغيرهما، وقد يستطيع تقسيم أوكرانيا أو زجها في حرب أهلية، كما حذر وزير خارجيته سيرغي لافروف غير مرة، لكنه بالتأكيد لن يتمكن من اعادة بناء امبراطورية زالت في زمن انتهى فيه عهد الامبراطوريات.

وقد يستطيع الأسد بدوره اعادة انتخاب نفسه رئيساً لسورية في حزيران (يونيو) المقبل، كما يقول اعلامه وطاقم حكمه، أو حتى توجيه ضربة قاضية للثورة ضده بمساعدة بوتين و «الولي الفقيه» الايراني السيد علي خامنئي والأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله، أو ربما بعد تدمير بلاده عن آخرها وتهجير سكانها كلهم في أرض الله الواسعة، لكنه حكماً لن يتمكن من البقاء حاكماً لسورية على رغم ذلك.

ومن هنا، فهي كوابيس بوتين والأسد التي تشبه الأحلام وليس أي شيء آخر.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى