صفحات سوريةعارف دليلة

بين النزاهة السياسية والنزاهة الاقتصادية

 


عارف دليلة

جاءتني رسالة من الاخ حسن العيسى تقول :

موقفك الأخلاقي السياسي: شخص معارض يدافع عن حقوق الانسان وربما سجن أيضا بسبب مواقفه السياسية، ولكن له سوابق جنائية كسرقة أموال الدولة، يتولى منصبا حكوميا؟

فكتبت مايلي :

جرى نقاش منذ سنوات بيني وبين صديق كان طالبا سابقا من طلابي ثم اصبح مديرا في احدى الوزارات ولم يكن لديه بيت وكان صاحب عائلة . منذ فترة رايته وقد اصبح متقاعدا فسالته عن احواله فتنهد بعمق وفال : دائما ما اتذكر نقاشنا منذ حوالى 25 سنة . انا الان متقاعد. اولادي اصبحوا شبابا وانا لااحسن اي عمل وراتبي التقاعدي بعد سنوات طويلة قضيتها مديرا في موقع مهم لا يكفي لدفع النفقات الثابتة من ماء وغاز وكهرباء وهاتف وانتقال وايجار منزل بعد اخلائي من المنزل الحكومي الذي كان ياويني خلال سنوات عملي . واعاد تذكيري بنقاشنا القديم الذي الخصه فيما يلي: قال لي: امامي معاملة تنفيذ عقد بين وزارتنا ومتعهد خاص يطلب تصقية مستحقاته ، وجميع مسؤولي الوزارة المطلوب منهم التوقيع وقعوا ولم يبق غير توقيعي وهو الاهم من الناحية العملية لاني الاعلم بالموضوع . المتعهد يعرض علي كي لااعرقل التصفية مبلغا يكغي لشراء بيتين وانا لااتحمل اي مسؤولية عن وضع توقيعي لان الاعلى مني وضعوا تواقيعهم وبمجرد موافقتي سينتهي الامر وهو مغطى كليا من الناحية الشكلية والقانونية فما هو رايك؟

قلت (وانا واثق من انه لايريد مني ترخيصا بالرشوة، ولكني اتساءل بيني وبين نفسي : لماذا اذن يعرض المتعهد الرشوة ؟) فماذا عن سلامة الموضوع من الناحية الفعلية ، اي من ناحية التنفيذ وفقا للمواصغات المطلوبة ؟

قال :هنا تكمن اللعبة الكامنة وراء عرض المتعهد الرشوة الضخمة علي . المطلوب تمرير وغض النظر عن تجاوزات تعادل قيمتها اضعاف الرشوة المعروضة علي ولذلك فان احدا من الموقعين لم يطلب مني شخصيا التوقيع حتى لايظهر متواطئا ومرتشيا وله مصلحة خاصة في تمرير الموضوع وانما هم واثقون – وهم يعرفون وضعي المادي والمعيشي جيدا والذي لايقارن باوضاعهم- بان المتعهد لايعدم الوسيلة لاقناعي !!

فلت : تريد رايي؟ ساشرحه لك . انك تعلم ان الملايين التي ستوفرها على الدولة في حال اصرارك على عدم التوقيع ليست الا نقطة في بحر ما يسرقه غيرك من اموال الدولة والشعب .اضافة لذلك فان مايسرقه اولئك يذهب اما لقضاء السهرات الحمراء او على طاولة القمار او لبناء القصور وشراء السيارات الفارهة النادرة التي يشترون بها الزوجة الثانية او العشيقة ،  او يهرب ويودع في المصارف العالمية ليصب في ملكية الخارج عمليا ويحرم منه اصحابه الفعليون الفقراء لدينا .

ورغم معرفتنا انت وانا بذلك ، ورغم حاجتك الماسة التي لن تغطيها من راتبك ولو لم تنفق فلسا منه على معيشتك حتى التقاعد، الا اننا متوافقون دون اي تردد على انك لن تضع توقيعك ولن تستجيب لرشوة المتعهد ، لان طبيعتي وطبيعتك لم تتغير لتساير تيار القساد الجارف .

وهذا ما حصل فعلا . فالمدير السابق ( لبط النعمة!) كما اصبح يقال باللغة الدارجة في ايامنا، و هاهو بعد التقاعد قد ارسل عائلته لتعيش في بلدته لان مصاريفها في العاصمة فوق طاقته اما هو فلا يزور العاصمة الا عند الضرورة ,

لنعد الى السؤال الذي قادني الى هذه الحكاية . يتحدث السؤال عن رجل معارض ومدافع عن حقوق الانسان وربما سجن بسبب من مواقفه السياسية ولكنه سرق اموال الدولة (سواء كان من خلال اساءة الامانة اوغض النظر عن سوء تنفيذ العقود او التلاعب بالقانون للتهرب من الجمارك او الضرائب او من التهريب الخ فان قيامه بذلك يبرر ويغطي كل اعمال الفساد التي يقوم بها الاخرون ويفقده صفة المواطن الصالح ، لان المال العام هو في المنبع والمصب مال الشعب وليس مالا خاصا برجال السلطة. فالسلطة شيء والدولة ( كمفهوم اعتباري بمثل وحدة الارض والشغب) شيء آخر . فاذا كانت السلطة ليست سلطة الشعب فالدولة هي دولة الشعب ، واي اساءة يرتكبها المواطن سواء كان حاكما او محكوما هي اساءة للدولة ، اي للوطن، بارضه وشعبه .

ان انتشار الفساد حتى اصبح اهم سمة من سمات الحياة العامة في ايامنا يحرم الدولة (الارض والشعب) من كل مقومات النهوض والتقدم ويصبح السبب الاهم للتخلف . ويصل الامر الى حد المصيبة او الوباء العام عندما تصبح الامانة والالتزام بالمصلحة العامة مستهجنة ومدانة واقعيا عندما يشيد اكثرية الناس بشطارة الفاسدين وذكائهم وقدراتهم الخارقة مقارنة ب (غباء وكسل وبلادة وقلة حيلة ) الشرفاء الذين حافظوا على نظافة اليد وتحملوا العنت وشظف العيش ، الذي كان من اهداف المخططين لتعميقه (تنظيف ) البلاد من اعداء الفساد وبالتالي من المعارضين الشرفاء!.

الانسان خطاء ولذلك يمكن ان تقبل توبته ولكن ذلك يشترط ان يكفر عن خطئه . ويحضرني هنا مثال من المغرب العربي ، وان كان ينضوي تحت مقولة الاستبداد وهو الاخ الاكبر للفساد المادي .

احد مسؤولي امن السلطة (وهو في بلادنا غير امن الدولة! ) ايام ما اصبح يسمى في المغرب ب”سنوات الجمر او الرصاص” ( وهي سنوات القمع الاسود الطويلة ايام الملك الحسن الثاني) وبعد الاعلان عن تشكيل “لجنة المصالحة” التي جمعت كل حالات القمع على اختلافها وعوضت على اصحابها وازالت المظالم التي رافقتها واعادت الاعتبار لضحاياها ) دعا عام 2000 الى مؤتمر صحفي طلب فيه من كل مواطن مغربي اصابه بسببه او علي يديه اي نوع من انواع الاذى المادي او الجسدي او المعنوي ان يسامحه ويغفر له جرائمه بحقه التي ارتكبها وهو يؤدي وظيفته القمعية ( بعماء كامل )وذلك حتى يموت ولديه شيء من الامل بان الله سيسامحه ويغفر له خطاياه بعد ان غفرها له ضحاياه !

لاادري ان كان الرجل مازال على قبد الحياة او انه ذهب الى ملاقاة ربه ولاقى هناك ما يستحق من جزاء عادل !

لكن بقية السؤال تقول : هل لهذا الفاسد السابق والذي اصبح معارضا سياسيا ديمقراطيا ومدافعا عن حقوق الانسان لدرجة دخول السجن  بسبب من معارضته للقمع ان يتولى من جديد منصبا حكوميا ؟

انه سؤال ذو اثر ميداني هام في واقعنا !

لن اجيب نيابة عن احد ولكني اقول قولا قاطعا ” لا ،ليس له الحق بذلك ابدا !”

فان كان قد تاب توبة نصوحا وبرأ ذمته تجاه الدولة والغير فله ان يدعم بما يستطيع الصواب والحق ويعارض الاجرام والاساءة للشعب ولاي انسان بجميع اشكالها فيما تبقى له من العمر .

ويحرم عليه احتلال اي منصب جديد ، سياسيا كان او اداريا او اقتصاديا!

ولكن في واقعنا من الذين ’يحكمون ب (التجريد المدني) الذين يحرمون من استلام اي منصب لاحقا ؟ هل هم المدانون بالفساد ، وما اقلهم (ولاسباب شخصية ،غالبا!) ، ام الفاسدون والمعتدون على الشعب والوطن  والمواطنين، غير المدانين قضائيا ( ولاسباب سياسية، دائما !) ، ام المدانون من قبل قضاء  عديم النزاهة ب ( نشر اخبار كاذبة توهن نفسية الامة زمن الحرب، وبالانتساب الى جمعية غير مرخصة و بالتحريض على الحرب الاهلية ، او بالعمل على تغيير دستور الدولة او النظام الاقتصادي الاجتماعي الذي اختاره الشعب بالقوة ، او  او الخ من تتمة ما اسميته ب “اللصاقة “المستلة من قانون عفوبات الانقلابي الاول في الوطن العربي حسني الزعيم ) عندما يكون اكبر واشمل من تنطبق عليه هذه الاتهامات والذي ينفذها بالقوة والغصب يوما بيوم وعقدا وراء عقد هي السلطة صاحبة هذا القضاء لاغيرها؟

في واقعنا ، الذين يحكمون ب(التجريد المدني) هم اعداء الفساد والاستبداد ، الداعون الى قيام دولة القانون بدلا من سلطة اللاقانون !

والقضية – اي السؤال المطروح اعلاه – معروضة على الجميع لابداء آرائهم  !

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى