صفحات الرأيموريس عايق

بين توماس هوبز والسياسة الشرعية/ موريس عايق

 

 

يتعرض الاستدعاء المعاصر للسياسة الشرعية إلى نقد محق، ينطلق من مناهضته الديموقراطية وإسهامه في ترسيخ الاستبداد باعتباره «فقه الطاعة». غير أنه يمكن تقديم قراءة أخرى للسياسة الشرعية عبر مقارنتها مع الفكر السياسي لتوماس هوبز، بما يفيد بموضعة الإشكالية التي فكر فيها منظّرو السياسة الشرعية في سياقها التاريخي، بما يكشف حدود استخدامها الراهنة والممكنة من جهة، ويبيّن أصالتها وإدراكها المعضلة التي واجهتها من جهة أخرى.

ينطلق هوبز في بنيانه السياسي من تصور للوضع الطبيعي يتمثل في حرب الجميع ضد الجميع، والذي لم يكن سوى انعكاس للحروب (الحرب الأهلية الإنكليزية والحروب الدينية في أوروبا) التي عاصرها هوبز وقتها. بهدف إنهاء الحرب وتحقيق السلام تعاقد البشر في ما بينهم، متخلين عن حرياتهم للدولة مقابل ضمانها الأمن. التخلي عن الحرية يعني التسليم بالسيطرة التامة للدولة- الوحش (الليفياتان) على رعيتها، وهي سيطرة مرهونة بتحقيق وظيفتها الأساسية والمتمثلة بمنع الحرب الأهلية. إن السلطة المطلقة التي يحوزها الحاكم هي نتاج العقد الاجتماعي، والذي بحسبه يتخلى المواطنون عن حرياتهم العامة مقابل الأمان والخروج من حالة الحرب الأهلية. هو ليس عقداً بين المواطنين والحاكم، إنما بين المواطنين في ما بينهم، مما يجعل الحاكم غير ملزم بشيء تجاههم. الالتزام الوحيد الذي على الحاكم تحقيقه يتمثل بمنع الحرب الأهلية، لكن في المقابل، إن حاول السلطان الاستبداد في المجال الخاص لمواطنيه وتهديد أمنهم وملكياتهم الخاصة والتي في سبيلها تخلوا عن حريتهم، لا يعود هناك داع للالتزام بالطاعة للدولة، وهو ما اعتبره هوبز حقاً طبيعياً للمقاومة. المسألة المركزية لهوبز تكمن في منع الحرب الأهلية، التي تنشأ بتدافع الناس في الحالة الطبيعية، وعليه فإنه يقدم إطار نظرياً لفهم نشأة الدولة، بحيث تتأسس انطلاقاً من دورها في منع الحرب الأهلية، وهو ما يستدعي التخلي عن الحرية وتقييدها. هذه العلاقة مع الدولة تؤدي إلى انشطار الفرد إلى كيانين: المواطن الذي يتوجب عليه الطاعة في المجال العام، والإنسان في مجاله الخاص. الفرد هو، بالتالي، إنسان حر في مجاله الخاص فقط.

بدورها، تتمحور السياسة الشرعية حول إشكالية مشابهة لإشكالية هوبز وهي «درء الفتنة»، الحرب الأهلية بتعبيرنا الحديث، بما يحفظ الدين والأنفس والأموال، ولأجل درء الفتنة يتوجب على الرعية الطاعة وعدم الخروج على الحاكم. غير أن الطاعة ليست مطلقة، بل مشروطة بما لا معصية فيه، وإلا ينتفي الغرض منها وهو حفظ الدين والدنيا ولا يعود هناك داع لاستمرارها. طبعاً هذا أحد الاختلافات بين هوبز والسياسة الشرعية، فالحد الذي وضعته السياسة الشرعية مرتبط بالمعصية، أي بحق من حقوق الله، وليس بالوظيفة الناتجة عن العقد الاجتماعي والذي هو جزء من المجال الإنساني. فالتمايز بين المجالين العام والخاص لم يكن موجوداً في السياق الإسلامي في الشكل الذي عرفته أوروبا مع بداية عصورها الحديثة، والمؤسس على الملكية الخاصة والحق الخاص في الاعتقاد، أي الرأسمالية والإصلاح الديني. اختلاف آخر يظهر في اعتبار هوبز السلطة المطلقة ضرورة لإنهاء حالة الحرب، بينما لا يبدو الملك العضوض أو الجبري ضرورة لدرء الفتنة، والفتنة لم تكن موجودة في عهد الخلافة الراشدة.

يمكن القول إن النجاح الذي لاقاه الفقهاء في جعل السياسة محكومة بضوابط الشرع هو امتيازهم على هوبز، وهذا ما مكّنهم لاحقاً من احتكار مسائل التشريع وتفسير الدين لأنفسهم واضعين بذلك قيداً مهماً على قوة السلطان. هذا القيد، بحسب رواية باتريشيا كرونه ومارتن هيندز في عملهما «خليفة الله»، كان نتاجاً لانتصار الفقهاء خلال خلافة المتوكل في صراعهم مع الخلفاء ونجاحهم بانتزاع سلطة تأويل الشريعة من الخلفاء ورهنها بهم، والذي ترافق مع تحول مفهوم الخليفة من خليفة الله إلى خليفة الرسول.

يمكن القول، باختصار، أن هوبز ومنظري السياسة الشرعية انطلقوا من هَمّ مشترك إلى حد بعيد يتمثل بمنع الحرب الأهلية، وعليها تدور نظرتهم إلى السلطة السياسية وشكل التعامل معها، ودرء الفتنة لا يمكن تحقيقه إلا بتوفر شرطين: الأول هو عدم تحدي السلطان وفرض الطاعة على الرعية، والثاني هو التزام السلطان بحدوده، وإن تباين فهم الحد الذي يجب على السلطان الوقوف عنده.

لم تستمـــــــر الملكيات المطلقة عندما انتفى الشــرط التاريخي للعقد الذي قامت عليه بحسب نظرية هوبز. من جهة لم يعد الملك يتصرف عقلانياً بالسلطة أو حتى محترماً لاستقلال المجال الخاص. ومن جهة أخرى حصل تحول بنيوي في المجال العام مع ظهور البورجوازي العقلاني، الذي سعى بدوره إلى إخضاع المجال العام لمعايير العقل والكفاءة متحدياً بذلك سلطة الامتياز الطبيعي للسلطة وسيادتها المطلقة.

كذلك أصاب العجز السياسة الشرعية مع التحول البنيوي الذي حل بـ «العقد» الذي قامت على أساسه وهدفت إلى رعايته وحفظه. فقد فُرض على نظام الحكم الإسلامي التقليدي القيام بتحولات هيكلية في مواجهة تحديات النظام الرأسمالي الحديث تحت تهديد الموت، تحولات استدعت تغييراً في بنية الحكم والتحول إلى الدولة الحديثة على النموذج الأوروبي. فسعت الدولة إلى توسيع نفوذها وفرض سلطتها على المجتمع مباشرة وأنشأت التعليم المدني الحديث، وأخضعت التشريع لسلطتها، فأُبعد الفقهاء واستُبدلوا بخريجي كليات الحقوق الحديثة، والبقية منهم تحولوا موظفين مُلحقين بجهاز الدولة من خلال إخضاع مؤسسة الإفتاء والتعليم، بما فيه الديني، للدولة. هذه التحولات التي أصابت الدولة والمجتمع أدت إلى نشوء مجال عام وبزوغ عصر السياسات الجماهيرية التي تحدت بدورها الشرعية التقليدية للسلطة السياسية.

التحدي الأهم للإسلام التقليدي وسياسته الشرعية أتى من طرف الإسلام السياسي، الذي اعتبره رضوان السيد تفكيكاً للإسلام السني من داخله. فالإسلام السني- في سياق تكريس الطاعة من قبل السياسة الشرعية- اعتبر الإمامة، السلطة السياسية، من الفروع لا من الأصول كما لدى الشيعة، غير أن الإسلام السياسي قام بتعديل موقع مسألة الإمامة ناقلاً إياها إلى الأصول، جاعلاً من إسلامية الدولة مسألة عقدية مركزية. المسألة هنا ليست دفاعاً عن الإسلام التقليدي وتأثيماً للإسلام السياسي لأنه قام بتسييس الدين كما يرى رضوان السيد، بل النظر إلى العملية التاريخية التي حصلت وأدت إلى تغيير السياق التاريخي برمته، أي العملية التاريخية بوصفها حداً على نطاق صلاحية التفكير بمقولات السياسة الشرعية. الإسلام السياسي يُفهم بوصفه رد فعل على تضخم الدولة الحديثة ونزاع معها على الهيمنة على المجال العام، فهو أيضاً ابن عملية التحديث، وأعضاؤه ينحدرون من طبقات وسطى حديثة، ومخياله السياسي يدور حول الدولة الحديثة وأسلمتها، أسلمة هي أقرب إلى الأيديولوجيات الحديثة منها إلى الإسلام التقليدي.

استعادة مقولات السياسة الشرعية مع إهدار السياق التاريخي الذي حكم نشأتها ومقولاتها لن تعدو سوى أن تكون خيانة لها، وتفضي إلى نتيجة من اثنتين مما نشهده:

– تقديم مقولة الطاعة باعتبارها المقولة المركزية والناظمة للسياسة الشرعية، بما يجعل السياسة الشرعية أداة في يد الاستبداد، من دون مراعاة أن الإمام لم يعد هو الإمام.

– دمج السياسي بالديني واعتبار السياسة من أصول الدين، بما يسمح بتأويل كل خلاف سياسي باعتباره خلافاً دينياً، الأمر الذي فتح الباب على التكفير والحروب الدينية التي نراها.

هوبز ومنظرو السياسة الشرعية انطلقوا من منع الحرب الأهلية الناتجة من غياب السلطة، أما اليوم فإن الطريق إلى الحرب الأهلية يمر عبر استبداد الدولة العربية.

* كاتب سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى