رستم محمودصفحات الثقافة

بين حانوت عادل ومقهى الروضة في دمشق


من أحوال البلاد قبيل الثورة

باريس ـ رستم محمود

كلما مررنا بتلك الزاوية، حيث تقاطع شارع العابد مع بوابة الصالحية، كان بائع الجرائد الأشهر في دمشق، عادل، يغمزنا بعينه، ثم يحرك يده نحو داخل حانوته الصغير في تلك الزاوية. كنا قد اعتدنا على حركة عادل تلك، فهي كانت إشارة بوجود منشور ممنوع من التداول والتوزيع، مجلة أو جريدة أو حتى مقالة مطبوعة، كان عادل قد حصل عليها بطريقته الخاصة من مؤسسة التوزيع، ويبيعها للذين يثق بهم من رواد مقهى الروضة القريب، “أحبابي” كما كان يحبذ أن يسميهم عادة. مرات كثيرة، كنا نكتشف بأن ما اعتبره عادل منشوراً خطيراً وسرياً، حيث مُنع تداولها من قبل لجنة الضباط الأمنيين، في المؤسسة العامة للنشر والتوزيع، كنا نكتشف بأنها مجرد مقالة أو قصيدة كنا قد قرأنها البارحة في إحدى الصحف اللبنانية أو المواقع الإلكترونية !. من أحداث مثل هذه، في تلك الزاوية، كان يمكن للمرء أن يعرف مستوى الحريات العامة، فكل الجرائد اللبنانية، التي كانت تعتبر متنفسا للسوريين، كانت قد حظرت على مراحل، بدءاً بصحيفة النهار وملحقها الثقافي، الذي كان نصيرا للمعارضة السورية، منذ بدء ربيع دمشق القصير، وانتهاء بصحيفة الحياة، مرورا بقرار منع صحيفتي الشرق الأوسط والمستقبل، إبان ثورة الأرز. حانوت عادل يعود إلى عشرينات القرن المنصرم، وصاحبه توارث المهنة عن أبيه، الذي كان يبيع فيه 54 صحيفة يومية دمشقية في خمسينات القرن المنصرم. في آخر الأوقات، كان عادل يبيع أعدادا قليلة جداً من ثلاث دوريات رسمية، مضجرة ومتشابهة، يشتريها المحامون لقراءة المراسيم، وبائعي الفلافل للتنظيفات العامة، فرخص سعرها البالغ، يؤهلها لتكون مصدر اجتذاب لهؤلاء. ويزيد عليها بعض الدوريات اللبنانية الأكثر بؤسا، حسب قوله، والتي لا يشتريها إلا بعض كبار العمر، من مستحاثات الأحزاب الايديولوجية، أيضا كما كان يسميهم .

كان الحانوت يعتبر جسما داخليا من مقهى الروضة الشهير، حيث من هناك بالضبط، كان يمكن ملاحظة ما قد تغير من ملامح المقهى خلال العقد الأخير من الزمن. المقهى الذي كان قد حافظ على فضاء من النقاش العام الثقافي والسياسي السوري العمومي، حتى فترات متأخرة، بديكوره الشامي التقليدي، حيث البحيرة والأشجار وكراسي الخيزران والمشروبات البسيطة. في السنوات الأخيرة، كانت طاولات الفروع الأمنية قد توزعت في كافة جنبات المقهى، يحملون صحيفة لا يقرأونها، ومشروبات لا يدفعون ثمنها، وبين الفينة والأخرى يوزعون نظراتهم على الجالسين، خصوصا حين يفاجأون بشخصين غريبين يجلسان على طاولة واحدة. مرات كثيرة، كان “جراسين” المقهى يقتربون من بعض المرتادين محذرين، هامسين :”الشاب يللي لابس رمادي، واحد جديد من الشباب الطيبة، خود حذرك يا أبي، ورفعة الصوت بتجيب النحل”. كانت ذلك الخنق المحكم، الذي أعقب “ربيع دمشق” دلالة على فرط حساسية النظام، حتى تجاه أي كلام سياسي او ثقافي مستقل، ولو كان بينيا وغير علني. ديكور المقهى كان قد تغير أيضا، وبات أكثر “حداثة” وبهرجة، وتغيرت نوعية المشروبات المقدمة، حيث غلت اسعارها أضعافا كثيرة خلال عام أو عامين، فلم يعد المقهى يستقبل رواده التقليدين، وبات مرتعا لأبناء الجيل الثاني من المنعمين الجدد، وبعض الاوساط الفنية الدائرة في فلك الأجهزة الأمنية. هذان الطرفان اللذان كانا يبحثان عن “ثروة” ثقافية متوهمة، رديفة لثروتهم المادية المكتسبة على عجل. بمعنى آخر كان في استنزاف مقهى الروضة، تعبيرا عن انهاك كل وجه الحياة العامة .

على الجانب الآخر من حانوت الجرائد، كانت تمتد محلات سوق الصالحية التجاري الشهير، ومئات البسطات المنتشرة في حواري الحي. المحلات التجارية التي كانت مركزا تاريخيا لترويج واستهلاك الصناعات السورية المتوسطة، وبالذات منها النسيجية والتحويلية والصناعية البسيطة، كصناعة الأدوات المنزلية. في السنوات الأخيرة كانت قد انهارت كلها تماماً. فجل الملبوسات السورية كانت تستورد من دولة الإمارات، وإن كان أصحاب المصانع والعاملين بها في الأمارات نفسها، من المهاجرين السوريين. فالصناعيون كانوا قد هربوا من ابتزاز رجال الأمن لهم، عبر المطالبة الدائمة بحصة في الأرباح، أو التهديد بسلاح التفليس عبر الضرائب الباهظة، كلما برزت ظاهرة صناعية وطنية. أما العمال، فالأكيد أنهم كانوا دوما من الخبرات الجامعية السورية، التي لجأت للاغتراب هرباً من إداء “عقوبة” الخدمة الإلزامية . أما الصناعات السورية المتوسطة الأخرى، فإنها كانت قد خضعت لموجة الاكتساح من قبل الصناعة التركية، ففي سبيل تحسين العلاقة السياسية مع تركيا، والتي أعقبت تهديد خريف 1998، فإن النظام كان مستعدا للتضحية بلب الإنتاج الوطني السوري، لصالح الإغراق من قبل الصناعة التركية. هذه الأفعال الثلاث: تدخل الفروع الامنية، والابتزاز الدائم عبر الخدمة الإلزامية وتفضيل النظام لصورته وعلاقته السياسية على مصالح شعبه.. كان قد انتجت في العقد الأخير، بحرا من العطالة والعمالة السورية الرخيصة وغير المؤمنة، فاضت بالأسواق اللبنانية والعراقية والخليجية والتركية. أما باعة البسطات، فقد كانوا من الطبقات السورية الأكثر انهاكا، كانوا من أبناء فلاحي ريف الجزيرة الشمالي والشرقي، الذين تخلت الدولة عن إي مستوى متوازن من التنمية في مناطقهم، واعتبرتها دوما سلتها الغذائية والنفطية فحسب. من تلك الزاوية، كان يمكن للمرء استكشاف التفارق الحاد بين طبقتين من السوريين، واحدة أقلية ومنعمة وبالغة الثراء، كانت من مرتادي المحلات الفخمة في شارع الصالحية. بينما ترتاد أغلبية واسعة من باقي السوريين البضائع التي على البسطات التقليدية هناك.

من تلك الزاوية، كان يمكن برفع البصر قليلا، مشاهدة عدد من الفتيات يطلن من سطح إحدى العمارات المقابلة، فهناك المطعم الوحيد في أعلى ذلك البناء، الذي رُخص له تقديم المشروبات الروحية، بعدما كانت عشرات البارات الكثيرة والمتنوعة تحيط بشوارع الصالحية، حتى بداية الألفية، لكنها كانت تغلق واحدا بعد الآخر. فالنظام السياسي الذي لم يستطع تقديم أي شيء واضح للمجتمع، كان يقارب الطبقات المحافظة وقتا بعد آخر، بأفعال رمزية مثل “إغلاق محلات الخمور”، وكان آخرها وأشهرها “نادي فيردي”. مبنى البرلمان الذي كان يظهر بشكل جلي في الزاوية الأخرى من الشارع، لم يكن أحد من المواطنين أو السياح يعيره أي اهتمام، كان دوما كتلة صماء لا حراك فيها، حيث كان العابرون على ضفة من الشارع قليلة جدا، فالكل كان يتحاشى رميات قشر البزر (اللب) التي كان تتطاير من شفاه الحراس الكثر، الذين يحيطون بالبناء الاصم ذاك، ويعتبرون رمي البزر ومن ثم الاعتذار والابتسام مع المارة، الحدث الوحيد الذي يكسر ساعات وحدتهم التي تطول!.

كانت الزاوية تلك، صورة لزوايا البلاد كلها، فالحال العمومية هذه كانت تتمظهر في كل تفصيل، وفي أي مكان كان. الاسم الرسمي للشارع هناك، كان “شارع العابد” نسبة للرئيس الأول للدولة السورية محمد علي العابد، الذي أصبح رئيسا عام 1932، لكنه قدم استقالته عام 1936، قبل عام واحد من انتهاء ولايته، التي كانت تمتد لخمس سنوات وقتها. لكن الرئيس العابد قدمها وقتئذ، بحجة التقدم في العمر، وهو الذي كان يبلغ فقط 67 عاماً وقتها (تصور يا رعاك الله أن رئيساً سورياً قدم استقالته لهذا السبب !!)، وهو ابن أحمد عزت هولو باشا العابد سكرتير السلطان عبدالحميد للعلاقات الاوروبية والذي كان يتقن ست لغات، وعُرف عنه موقفه الشهير برفض العودة إلى الدولة العثمانية 1908، عقب الانقلاب الذي نفذه الاتحاديون على السلطان عبد الحميد الثاني، وكان العابد حينها سفيراً للإمبراطورية العثمانية في الولايات المتحدة، وقد اعتبر خلع السلطان عبد الحميد، إنقلاباً على الدستور.

في ذلك الشارع الذي كان يسمى باسم الرئيس العابد، قبيل الثورة بأيام، كان ثمة صورة ضخمة قد رفعت لرئيس سوري آخر، واسفلها كتبت عبارة صغيرة “محل ما أنت بتدوس، نحنا بنركع وبنبوس”، لذا، كانت شجرة التوت التي تظلل حانوت عادل، قد جفت وتساقطت أوراقها وهجرها توتها .

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى