صفحات مميزةعمر قدور

بين خائبي الرجاء وصنّاع الأمل: عمر قدور

 

عمر قدور

تتكاثر الأسباب التي تدعو إلى اليأس من الثورة السورية، ولعل في طليعتها طول أمد الثورة، وعدم وجود أفق زمني متوقع لانتصارها، ما جعل الثورة في نظر الكثيرين تتحول إلى حالة حرب طويلة الأمد، أو حتى إلى حرب أهلية، مع ما ينطوي عليه التوصيفان الأخيران من بواعث تخفض من منسوب التعاطف مع الثورة، أو الاهتمام بمجرياتها. وليس بوسعنا أيضاً التغاضي عن أن موجة التفاؤل التي أشاعها الربيع العربي قد انحسرت إلى حد كبير، وأحياناً إلى حد يذكّر بحالة الإحباط التي كانت سائدة قبل التغيير، الأمر الذي انعكس تشككاً إزاء فكرة الثورة ككل، وإزاء الثورة السورية على نحو خاص.

لا ينبغي هنا أن ننكر ما اعترى الثورة أيضاً من سلبيات مع طول الوقت، مهما كانت هذه السلبيات متوقعة أو مبررة، ومن المؤكد أن تعدد السلبيات يعطي ذريعة للمتشككين وللمعادين من كل صوب أو نوع، من دون أن نغفل عن المترددين أصلاً وعن الانفعاليين أيضاً الذين تنجرف أهواؤهم وفق التفاصيل والدعاية على حساب جوهر الصراع. هذا لا يعني التوقف عن التذكير بالجانب الأخلاقي والحقوقي الذي يُراد طمسه من قبل أطراف متعددة المصالح والأهواء، حتى وإن تكن فكرة الحق غير كافية دائماً في ميدان السياسة، إذ لا ينبغي أن يغيب عن البال أن التشكيك في عدالة الثورة يبتغي في المحصلة التشكيك في أحقية السوريين في تقرير مصيرهم، ولا بد أن يمر بالطعن في أهليتهم وقدرتهم على إدارة شؤونهم، وفي النهاية تصويرهم كصنف أدنى من البشر يستحق الديكتاتورية بكل جرائمها.

لنعترف أولاً بأن عوامل اليأس الموجودة لدى السوريين أنفسهم كثيرة، ويبدو يأسهم محقاً بخاصة عندما يتعلق بأداء المعارضة السياسية التي لم تُحسن تمثيل الحراك على الأرض، ولم تنجح في تقديم صورة إيجابية عنه في الخارج. وسيكون يأسهم محقاً أكثر عندما لا يرتقي هذا الأداء مع فاتورة الدم والدمار المتصاعدين باطراد، بل عندما ترافق ارتفاع الفاتورة شبهات تطال شخصيات معارضة، إن على صعيد الارتباطات الخارجية أو حتى على صعيد الفساد الإداري أو المالي، ومن المتوقع دائماً ألا يكون المال السياسي بريئاً أو نزيهاً على نحو مرضٍ، كما من المتوقع ألا يمر فساد نصف قرن من عمر النظام بلا أثر على معارضيه. ومن المعلوم أن تهافت المستوى السياسي وعدم وحدته، أو حتى تحالفه، انعكس سلباً على المستوى العسكري فانتقل الانقسام إلى الميدان متمثلاً بفوضى كبيرة للسلاح ولتكتيكات استخدامه، ما أدى إلى خسارة العديد من الجهود والمعارك. ولا تغيب عن عوامل اليأس السابقة، بل تعززها، الأحوال المزرية للنازحين السوريين ومن في حكمهم في الداخل والخارج، فملف الإغاثة بدوره ينطوي على مساحة كبيرة من الشكوى تتراوح بين قلة المعونات وسوء توزيعها، فضلاً عن التساؤل عن أحقية بعض المستفيدين منها بالمقارنة مع الفئات الأكثر عوزاً.

أما يأس السوريين من الخارج فيتجسد أولاً في انخفاض منسوب التعاطف والدعم لدى الجوار والمجتمع الدولي منذ بدء الثورة، ما جعل الاصطفافات الخارجية ذات صبغة سياسية بحتة مقررة سلفاً، وتكاد تكون بعيدة كلياً عن الاعتبارات الأخلاقية. فالتحالف الإيراني الواسع، مع بضاعته من مثقفي الممانعة، كان جاهزاً للتصدي للثورة على كافة المستويات، ولم يوفر جهداً لدعم النظام في كافة جرائمه، ولم يتوانَ مثقفوه عن التحريض على القتل من على المنابر الإعلامية، ولا عن فبركة واختلاق التهم المكشوفة بحق الثوار والثورة، من دون أن يتصدى لهم أحد وفق القوانين الجنائية أو الجزائية. لقد أمسى التشبيح على السوريين سهلاً في العديد من المنابر الإعلامية العربية، وصار التحريض على قتلهم وامتداح أعمال الإبادة التي يقوم بها النظام مألوفين فيها، تحت دعوى الاختلاف في الرأي، ومرة أخرى من دون أي رادع قانوني أو أخلاقي، لذا لم يعد مستغرباً أن يتعرض السوريون إلى اعتداءات ومضايقات سافرة في الخارج بدءاً من أنصار النظام في لبنان، وصولاً إلى اليساريين والعلمانيين في الجامعة التونسية.

لقد تراجعت مع الوقت مظاهر التضامن، الخجولة أصلاً، في بعض دول المنطقة، وبخاصة منها تلك التي شهدت تغييراً ضمن موجة الربيع العربي، مع أنه كان من المتوقع من شعوبها وأنظمتها الجديدة إخلاصاً أكبر لفكرة الحرية. غير أن السوريين هنا أيضاً دفعوا ثمن يأس تلك الشعوب من التغيير، ومرة أخرى اتخذ هذا اليأس عناوين سياسية تحيل ما يحدث في سوريا إلى صراعات أبعد من الثورة، وتجردها بالتالي من مضمونها الحقيقي، وتُجرد السوريين مما كانت تلك الشعوب تراه حقاً لها قبل حين. ولعل الملمح الأبرز في تلك العناوين هو التخويف من نتائج الثورة بعد أن قفز الإسلام السياسي إلى صدارة السلطة في تلك البلدان، فكان الممر الأسهل للتهرب من المسؤولية إزاء ذلك اعتبار تلك المحصلة مصيراً محتوماً ونهائياً، ومن ثم تحميل تلك النتيجة على السوريين الذين لم يصلوا بعد إلى صناديق الاقتراع، ولم يتح لهم أن يكفروا بنعيمها على نحو ما يفعل أقرانهم في دول الربيع العربي.

في الواقع لم تتنطع الثورة السورية منذ بدايتها وحتى الآن سوى للتخلص من ديكتاتورية فاسدة عانى منها السوريون، وطالت آثارها بعض دول الجوار، وكان من الأفضل دائماً لو لم تُحمّل تبعات إضافية تخص الحسابات السياسية في المنطقة والعالم، وكان السوريون ليسعدون لو أن القوى الخارجية وجدت ساحة لها بعيداً عنهم، وكانوا ليسعدون أكثر لو لم تتحمل ثورتهم تبعات اليأس الذي يساور البعض إزاء الربيع العربي، وأيضاً لو لم يتحملوا تبعات التغيير في تلك الدول وما رتّبه من نكوص في مواقف القوى العظمى إزاء التغيير. فهكذا يُحاسب السوريون على أخطاء لم يرتكبوها، وتكون ثورتهم محل انتقام من شعوب وقوى أخطأت خياراتها في مكان آخر، فيدفعون ثمناً باهظاً علاوة على الثمن الذي ارتضوا دفعه لقاء حريتهم.

وإذا كنا لا نستطيع تغيير المعطيات الحالية المفروضة على السوريين، فمن الأولى النظر إلى ثورتهم كامتداد لقضية الحرية عموماً، فالسوريون ينظرون بعين التعاطف إلى الموجة التالية في دول الربيع العربي، وليسوا أنصار الأنظمة الجديدة فيها، ومن المخجل أن تناصبهم القوى المناهضة لتلك الأنظمة العداء على قاعدة العداء للثورة، وكأن تلك القوى تناصب العداء لقضية الحرية أساساً، فلا تجرد السوريين فقط من حقهم في الحرية بل تجرد أنصارها وشعوبها من ذلك الحق. لقد كانت الفكرة السائدة قبل الربيع العربي هي استحقاق شعوب المنطقة الخانعة لديكتاتورياتها، وثمة الكثير ممن يحاولون إعادة تكريس تلك المقولة اليوم، وسيكونون سعداء بهزيمة الثورة السورية كمدخل لتدجين شعوب المنطقة ككل.

تتأخر الثورة في الانتصار بفعل هذه العوامل مجتمعة، ولعل عوامل اليأس التي تحفّ بها وتتكاثر أكبر من دواعي التفاؤل. عطفاً على ذلك قد يكون السؤال الحقيقي عما يجعل الثورة تصمد وتستمر، لا عمّا يجعلها تتعثر وتطول. لعل الإجابة الحقيقية تأتي من أولئك الذين لم يتوقفوا عن التظاهر تحت قصف الطائرات والصواريخ، ولم ييأسوا من المطالبة بدولة الحرية والديموقراطية، هذا إذا لم نأخذ بالحسبان أولئك الذين اضطروا إلى حمل السلاح افتداء لحريتهم وكرامتهم. هنا، على الأرض، لا يتسع المكان الآن لخائبي الرجاء، ولا يكون الأمل ترفاً فكرياً بل هو أشبه بالصناعة اليدوية.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى