صبحي حديديصفحات الرأي

بين كولومبس وأردوغان: سلطة الجغرافيا/ صبحي حديدي

 

 

في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أثار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لغطاً واسعاً (وسخرية، صريحة أو مبطنة، لدى خصومه داخل تركيا وخارجها)؛ حين أعلن، خلال استقبال وفد من مسلمي أمريكا اللاتينية، أنّ البحارة المسلمين بلغوا أمريكا قبل 314 سنة سبقت كريستوف كولومبس، الذي يُنسب إليه «اكتشاف» القارّة. ولقد اتكأ أردوغان على تلك الفقرة، الغامضة حمّالة تأويلات متضاربة، التي وردت في مذكرات كولومبس نفسه، وتتحدث عن وجود «مسجد» في أعلى تلّة، على شواطىء كوبا.

وقبل أردوغان، كان باحثون مسلمون قـــد استندوا إلى «مروج الذهب»، عـــمل المؤرخ المسلم الكبير أبو الحسن المسعودي (871-957)؛ الذي روى عن بحّار أندلســي مسلم يدعى خشخاش بن سعيد بـــن أسود، كان برتبة أمير البحر، جمع جماعة من أحداث قرطبة وفتيـــانها، وغاب معهم في «هذا البحر المحيط»، ثمّ «انثنى بغنائم واسعة».

رحلتان إضافيتان إلى أمريكا، الأولى قام بها ابن فروخ الغرناطي، سنة 999؛ والثانية سجّلها الإدريسي (1100 ـ 1166)، ذلك الجغرافي العربي العبقري، الذي روى عن مسلمين أبحروا من لشبونة وتوقفوا في إحدى جزر الكاريبي، فوقعوا في الأسر، ولم ينقذهم إلا مترجم من أهل الجزيرة كان يتكلم العربية.

وسوى المسلمين هنالك شعوب أخرى زعمت سبق الرسوّ على شواطىء القارّة البكـــر: بحّارة الصين، ومناطق آسيوية محاذية، ممّن عبروا مضيق بيرينغ؛ بحّارة الفايكنغ، من آيسلندا؛ صيّادو الحيتان، من الباسك؛ صيّادو بريستول، الــــذين قلّدوا زملاءهم الباسك؛ البحارة الروس، من سيبيريا… لكنّ سلطة إطلاق الاسم الراهن على القارّة، أمريكا، لم يمارسها أيّ من هؤلاء، بمَن فيهم كولومبس نفسه بالطبع؛ بل عُقدت في نهاية المطاف للكاتب والرحّالة الإيطالي أمريغو فيسبوشي (1454 ـ 1512)، الذي لا يُعتدّ كثيراً بصدقيته في الميدانين معاً: الرحلة والكتابة!

ففي العام 1503، أتمّ فيسبوشي رحلته البحرية الثالثة إلى «العالم الجديد»، كما سارت التسمية في تلك الأحقاب، وصار بذلك أوّل أوروبي يطأ شواطىء البرازيل وكولومبيا والأوروغواي والأرجنتين. كما بات أيضاً أوّل أوروبي شاهد بأمّ العين، ولكنه أجاد وصف، ثلاثة من أكبر أنهار العالم: الأمازون، والبافيا، والبلاتا. واستناداً إلى منجزات كهذه، لن يطول الوقت حتى يتحلل الجغرافيّ والخرائطي الألماني الشهير مارتن فالدسيمولر (1475 ـ 1522) من كلّ تردّد وحرج، فيقرّر إطلاق اسم «أمريكا» على ذلك العالم الجديد، مستلهماً التسمية من اسم… أمريغو! وفالدسيمولر لم يشكك في حقيقة أنّ كولومبس وصل إلى «العالم الجديد» في العام 1492، قبل أمريغو؛ ولكنّ هذا الأخير انفرد عن كولومبس بهذا الفارق الحاسم: لقد كان أوّل أوروبي يدرك أنه وصل إلى عالم جديد بالفعل، وليس إلى الأجزاء الغربية من آسيا، كما اعتقد كولومبس طيلة سنوات.

وكان من مفارقات التاريخ أنّ الكاتب والرحالة هو الذي كوفيء أخيراً بالتسمية الإعجازية الكبرى، وليس الملاح (كولومبوس) أو الفاتح (هرنان كورتيس) أو الكاهن (بارتولومي دي لاس كاساس).

أكثر من ذلك، حين أخذ فيسبوشي ينعم باحتكار التسمية وإطلاق أمجاده ونصوصه، كان الأميرال كولومبوس ـ الذي «اكتشف» القـــارة و«العــــالم الجديد» بأسره ـ يرسف في الأغلال وينتــــظر محاكمة مَلَكية قاسية، ويستعطف الملك فرديناند والملكـــة إيزابــــيلا: «إنني وحــــيد في عــــذاباتي وارتــيابي والموت الذي أنتظره كل يوم… إبكيا عليّ، أنا المترع بالإحسان والحق والعدل»!

وصف فيسبوشي للعالم الجديد كان أكثر بلاغة ورشاقة وحذقاً وقدرة على الإقناع من رسائل كولومبوس الدينية والرؤيوية، وكانت نصوصه تتوجه إلى قارئ عريض يبحث عن المتعة والإثارة، وليس إلى القارئ الصيرفي أو القارئ الأسقف. المناخات التي دوّنها (أو بالأحرى: الأكاذيب التي اختلقها) لم تكن من حيث الجوهر مختلفة عن تلك التي رواها كولومبوس عن «الهنود» الحمر: عراة، بلداء، جبناء، أكلة اللحم البشري. لقد بدأ من التنميطات ذاتها، لكنه جعلها مصنفة مرتبة في ثلاثة أبواب: 1) عُري الهنود، وافتقارهم للدين وطبيعتهم الخانعة؛ و2) أكل اللحم البشري، وخاصة «تسمين» الهنود للأطفال؛ و3) الوصف الجنسي، حيث يطلق فيسبوشي لمخيّلته العنان إذْ يروي عن شبق الهنديات غير المحدود، في وصف تفصيلي مثير، شبه بورنوغرافي.

بمثل هذه النصوص انتزع فيسبوشي حقّ تسمية «العالم الجديد» باسمه هو، وليس باسم أيّ من مئات الفاتحين والغزاة والأساقفة والفلاسفة والدبلوماسيين؛ حتى بات ممتنعاً، عملياً، افتراض وصول شعوب أخرى إلى القارّة؛ وصار محطّ تندّر أن يتفاخر أردوغان بالبحارة المسلمين الأوائل. هنا مرجعية التسمية، وهذه هي السلطة العليا في الجغرافيا!

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى