صفحات العالم

تأصيل الأردوغانية/ مصطفى زين

 

 

 

بثقة الباحث الذي توصل إلى اكتشاف عجزَ عنه المؤرخون، وقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ليؤكد أن المسلمين اكتشفوا أميركا قبل كريستوف كولومبوس، من دون أن يعلم أو يشير إلى أن مؤرخين وجغرافيين كثيرين وثقوا ذلك، بينهم المسعودي وباحثون غربيون في العصور القديمة.

اكتشاف أردوغان ليس مهماً في حد ذاته. هو أشبه ما يكون بمفاخرة لبنانيين بانتمائهم إلى الفينيقيين الذين «وصلوا إلى أميركا قبل آلاف السنين» من وصول كولومبوس إليها، ويبقى قولهم مجرد محاولة لدعم أسطورة التفوق والذكاء، أو هو من قبيل تبرير نوع من العنصرية، متناسين أن الفينيقيين كانوا منتشرين على طول ساحل البحر المتوسط، وأن وجودهم لم يقتصر على سواحل جبيل وصور وصيدون وصور.

هذه مفاخرة اللبنانيين. أما مفاخرة أردوغان فليست سوى تأصيل لدعوته إلى نشر الإسلام السياسي. والتأكيد أنه وريث الحضارة الإسلامية وممثلها المعاصر والناطق باسمها، منذ بدء الدعوة إلى اليوم، مروراً بالخلفاء الراشدين والخلافتين الأموية والعباسية، من دون أن ينسى العصر الذهبي في الأندلس (تزامن سقوط غرناطة عام 1492 مع اكتشاف أميركا)، والسلطنة العثمانية التي يعكف على إحيائها وتجديدها، وعصر الأنوار والصحوة في ظل «الإخوان المسلمين»، فضلاً عن «داعش» و «النصرة» اللذين يحظيان بدعمه وتأييده.

يريد أردوغان أن يقنع مواطنيه ومحازبيه بأنه يفاوض الأميركيين والأوروبيين انطلاقاً من هذه الخلفية الحضارية. وأنه ليس تابعاً لسياسة واشنطن ولا يلعب دور حامي مصالحها في الشرق الأوسط، والمدافع عنها في مواجهة إيران وروسيا، كما يريد تذكير الأميركيين، قبل زيارة جو بايدن الذي لا يترك مناسبة إلا ويذكّر بصهيونته بأن الفضل الأكبر في اكتشاف أميركا يعود إلى المسلمين، وأن لا تاريخ حضارياً لهم سوى أنهم امتداد للتاريخ الأوروبي وجريمة إبادة الهنود الحمر.

كي يترجم كل هذا الادعاءات عملياً، أعلن أردوغان أن الخلاف بينه وبين الإدارة الأميركية على محاربة الإرهاب، وعلى تسوية المسألة السورية ما زال قائماً. فهو مازال مصراً على إسقاط النظام وإقامة منطقة عازلة في الشمال السوري وفي الجنوب، إذا وافق الأردن، تمهيداً لهجوم «الجيش الحر» على دمشق، في حين ترى واشنطن أن المحافظة على الجيش النظامي الذي يقاتل منذ حوالى أربع سنوات يجنب الحلفاء الوقوع في التجربة العراقية والليبية، ويمنع انتشار الفوضى في الدول المجاورة، وبينها تركيا.

واقع الأمر أن الخلاف التركي- الأميركي ليس على العداء للنظام السوري، فالطرفان يريدان التخلص منه، الخلاف بينهما على اليوم التالي، أي على الجهة السورية التي تأتمر بأمر أنقرة وواشنطن. البيت الأبيض لا يرى في «الجيش الحر»، وهو على حق، سوى جماعات متشرذمة انتهى دورها، ويجب البحث عن جماعة أخرى لتقوم بمهمتين: محاربة «داعش» والتصدي للنظام في الوقت ذاته. لكن مشكلة هذا الطرح أنه يصطدم بواقع الجماعات المسلحة التي تنتمي إلى الإسلام السياسي وتقاتل باسمه وترفع شعارات (ليس لدى أي منها برنامج سياسي) الثأر والذبح والتهجير ونبذ الآخرين إلى أي طائفة انتموا. أما البديل العشائري، وهذا ما تسعى الإدارة الأميركية إلى التركيز عليه، فليس مضموناً، إذ إن العشائر موزعة الولاء بين النظام وأمراء الحرب، وبين هذه الدولة وتلك.

قد يجد الحليفان التركي والأميركي تسوية لخلافهما. تسوية لن تكون إلا على حساب سورية والشعب السوري. أما عودة أردوغان إلى التاريخ فمحاولة فاشلة لتكريس نفسه ناطقاً باسم الحضارة الإسلامية والمسلمين، فهو يعرف تماماً أن أهمية تركيا ليست في واقعها الحضاري بل في انتمائها إلى الحلف الأطلسي، وسعيها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وفي دورها القديم المتجدد كجبهة أمامية في مواجهة روسيا.

تأصيل الأردوغانية لن يفيد في مواجهة واقع الشرق الأوسط المعاصر. بل يعقد الأمور، ويطيّفها (من طائفة) أكثر.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى