صفحات مميزةمازن كم الماز

تأملات بعد العودة من سوريا المحررة


    مازن كم الماز

    بعد قضاء 3 أشهر بعيدا عن كل شيء إلا الموت و الخوف و الألم و الجوع , أو المفردات الجديدة لحياة السوريين , أحتاج إلى فترة من “النقاهة” أولا , ثم من “التأمل” , تماما كالعائد من أرض الميعاد , من أرض الأحلام , أو من أرض الحرية .. لم تكون عملية سقوطا للأوهام , فلا أحد “منطقي” يمكنه أن يتوهم أن الناس , خاصة الأكثر فقرا , قد أصبحوا ملائكة , أو بشر نموذجيين , بمجرد أنهم وقفوا ضد السيد , أو الطاغية الذي كان يقمعهم .. الثورة مثل الحياة , مثل الولادة , عملية صعبة و شاقة .. عندما ترى الثوار عن قرب , تحاورهم , تراقبهم , تصنفهم دون وعي أو انتباه منك , يمتلكك شعور مزدوج , بالإعجاب و الصدمة في نفس الوقت , لا يمكنك أبدا أن تنسى أن هؤلاء بالتحديد هم من قالوا لا للديكتاتور , أن هؤلاء هم من هتفوا لحريتهم و تلقوا الرصاص في صدورهم , و أنهم هم بالضبط أولئك البشر الذين أعرفهم جيدا , منذ فتحت عيني فوق هذه الأرض قبل 47 عاما , بكل تفاصيل حياتهم المبتذلة حينا , البطولية حينا و المأساوية حينا .. هناك , حيث التضحيات , و الألم , الموت و الخوف , الأمل و حتى الحلم , و حيث أيضا السرقة , و المحسوبية , حيث توجد البلطجة جنبا إلى جنب مع البطولة , لا تبحث هنا عن أبطال , بل عن بطولتك أنت , و يرضي غرور المثقف أو مدعي النضال السياسي ربما هذا اللعب الخطر مع كل شيء , مع احتمالات الموت بقذائف الأسد , و مع الخطر الكامن في كل لحظة و في كل زاوية من هذا العالم الغرائبي بكل معنى الكلمة , في أن تكون أيضا خارجا على ما يقدسه الثوار و يقدسه حملة البنادق و الرشاشات الثقيلة أنفسهم , تمضي هذه المغامرة لكن إلى حيث تمضي الثورة أيضا , إلى المجهول .. لم تبق هناك ثورة شعبية , هناك ثورة مسلحة فقط , الناس أصبحت مشغولة بتدبير شؤونها , الطعام , الخبز , حليب الأطفال , الكهرباء , الماء الخ الخ , تعيش هنا فقط لحظتك العابرة , فهي في كل الأحوال تحتاج إلى كل تركيز ممكن , كي تمر , فقط , السلاح أيضا يقلق الناس , بقدر ما يشعرها بالأمان , و هي ترد على ذلك بتعميم ثقافة العنف , كل هذا الرقص اليومي على تلك الأعصاب المشدودة و كل هذا الموت العبثي بقذائف الأسد يجعل العنف هو اللغة العامة , الثوار و أيضا الناس يلجئون للسلاح فيما بينهم , القهر و التمرد يرتبط بقوة باستخدام العنف … السادة القدامى ( الديكتاتور ) و “الجدد” , و أيضا العبيد المتمردين , و كذلك العبيد في خصوماتهم التافهة , جميعهم يستخدمون العنف كسلاح أول في الإخضاع و الاحتجاج و الاختصام .. ما الجيش الحر إلا عينة دقيقة نسبيا عن الطبقات الفقيرة المهمشة قبل الثورة , هناك الثائر و هناك اللص , هناك الحالم بيوتوبياه قبل 14 قرن و هناك الحالم بعدالة و ربما بحرية لا يفهمها بدقة لكنه مستعد للموت و القتل في سبيلها , هناك الحالم و هناك المزيف , هناك من يموت و هناك من يتاجر بدماء من يموتون , يتاجر حتى بصورهم … المجتمع المدني ضعيف جدا , منشغل بالإغاثة أساسا , و بلملمة جراحه , و يضطر للبحث في كل مكان عن “داعم” و “ممول” , و هناك عادة التسول , هذه أيضا مثلها مثل القتل و التجويع الذي يمارسه الأسد , تخدم كسر إرادة الناس التي اكتشفوها و التي تعاظمت بسرعة بعد الثورة … فقط كلمة لكل ما يسمى معارضة سورية : فالبعض لا يفهم من الثورة إلا أن السيد القديم قد سقط أو على وشك السقوط , هذا البعض الذي لم يضحي بأي شيء كما فعل الناس ينصب نفسه وصيا على الناس , يحاول اختطاف الثورة من أيدي من صنعوها و أبقوا نيرانها متقدة بدمائهم .. هذا البعض المخلص بكل قوة لأنانيته و فذلكاته و لصورته هو عن الثورة , كفعل يوصله إلى كرسي السيادة , يحاول أيضا أن يخلق حالة إرهاب فكري و عقلي موجهة ضد كل شيء و شخص يتحدث عن الحرية , هذا البعض يحاول أن يبتز كل من يحلم بالحرية بنفس حجج أي طاغية تافه , خاصة في أتفه تلك الحجج : أن العبودية هي اختيار الناس , أن العبودية هي اختيار العبيد أنفسهم , أن نفس من خرجوا , من ثاروا , في سبيل حريتهم , يقنعون الآن بسلاسل و قيود جديدة , بعبودية من طراز جديد , يحاولون التذاكي بنفس المنطق الذي يصبح مبتذلا و مثارا للسخرية عندما يردده ديكتاتور آفل , معتقدين أن الخدعة القديمة التي تنفع حتى مع نفس العبيد الذين ثاروا على من كان يرددها , أكثرهم ربما على الأقل , ستنطلي بسهولة من جديد على الجميع و أنهم إذا تمكنوا من إلهاء كثيرين عن كلمة الحرية نفسها بكلمات أخرى يدعون أنها أكثر أهمية , كل هذا كاف برأيهم لكي يطالبوا بكل صفاقة من الآخرين و من الجميع أن يستسلموا لاستبدادهم .. في حالة كهذه , لا وجود لمنطق الأكثرية و الأغلبية , صحيح أنه لا يوجد أتفه من إجبار الناس على أن يرفضوا العبودية و يختاروا حريتهم , لكن ليس أقل تفاهة محاولة إجبار الجميع على الصمت على الاستعباد بحجة أن العبودية هي خيار كثير أو أكثر العبيد , إذا كانوا يريدون فرض العبودية فليفعلوا كما يفعل كل الطغاة و السادة , بالحديد و النار , و لا أعتقد أنه يعوزهم التصميم و الرغبة على فعل ذلك .. يتساوى في هذا كل مريض بالسلطة أو بالاستبداد , “علماني” كان أو إسلامي … إن مشروع الأناركية هو مشروع مقاومة الاستبداد و الاستغلال , مشروع نفي علاقة سيد – عبد أو تابع من العلاقات بين البشر , تماما كنفي علاقة مستغَل و مستغِل بين البشر , هذا المشروع لم يخترعه أحد , ربما عبر عنه بعض الأشخاص بعينهم , لكنه كمشروع بدأ و استمر منذ ظهور الطغيان على هذه الأرض , اخترعه كل من قاوم القهر و القمع و الظلم , و هذا يعني العبيد في كل زمان و مكان , و خلافا لكل أحلام السادة , الحاليين أو المحتملين , فإن هذه المقاومة مستمرة , لا يمكن سحقها , يمكن إضعافها و يمكن تجريمها و تكفيرها لكن سحقها رهن بسحق الحلم بالحرية و العدالة من قلوب و عقول البشر , أو ربما بسحق البشر أنفسهم في نهاية المطاف , و لذلك استمرت المقاومة و ستستمر ما استمر الطغيان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى