صفحات الثقافة

تأملات في قتلى بلادنا سورية: لا نعرف الموت…. يعرفنا


زياد بركات

لا نعرف القتلى, لا نرى صورهم.

كان ذلك في أزمنة مضت. آنذاك كانوا أخباراً تُقرأ في الصحف وكلمات تُسمع في نشرات الأخبار. أصبحوا أخيراً وخاصة في العقد الأخير صوراً, والأسوأ من ذلك إنهم أصبحوا صوراً قابلة للإعادة. وأنت في بيتك تشاهد الصورة نفسها للقتيل نفسه تتكرر المرة تلو الأخرى على شاشة التلفاز, بل إن في إمكانك إذا توفرت على جهاز كمبيوتر أن تُوقف الصورة ثم تُعيدها من جديد لتتملى في هذا المشهد أو ذاك منها, بهذا أصبح الموت قريباً جديداً, لم يعد غُفلاً بل مُجسّدا: صورة لا يدحضها نفيٌ عابرٌ ولا يقلل من ثقل حضورها شجبٌ أو دمعة حزن عابرة حتى لو كانت حارة وصادقة.

الموت ثقيل.

الموت جبلٌ يجثم على الصدر.

الموت…. ليس إستعارة, لقد كف عن كونه كذلك: ليس طائرا بجناحين أسودين عظيمين يخطف البشر من أحضان من يحبونهم, أصبح كتلة قوية صلدة بلا مشاعر تقف في وجهك فجأة وتذكّرك بوجودها.

الموت أسود: كامل السواد. يذهب بالبشرة إلى التغيّر والجسد للتعفن والإنتفاخ, ويشيع رائحة تشمها وأنت تتابع الصورة على الشاشة.

التاسع من حزيران مجرد يوم آخر في حياة رجل جاوز الأربعين, ما معنى إستدراك كهذا؟؟؟

لا شيء…. لا شيء, لكنها الأربعون أو مشارف الخمسين للدقة, حيث لا كآبة يشيعها الرقم نفسه, فتلك كانت في الثلاثين, إذ لا كآبة كتلك, حين تبلغ الثلاثين من عمرك ينتصف العمر الإفتراضي وتدخل في الغروب الشفّاف أو هذا ما تشعر به على الأقل. تدخل النصف الثاني المفترض, او بمعنى آخر تعاين بعينيين شاحبتين عدّك التنازلي.

آنذك, في تلك الكآبة التي قد يولّدها التفكير بالموت وأنت في ذروة شبابك, قد يصبح الموت إستعارة. قد يصح فيه القول إنه أسود, وإذا صح فلأنه نتاج تلك الكآبة السوداء التي هي نتاج الثلاثين.

لكن ماذا عن كونه أسود وأنت على مشارف الخمسين.؟؟؟؟ ذلك لأنه أسود حقاً وثقيل وبارد ومُستخف ولا مبال, ذلك لأنه الموت ببساطة.

في التاسع من حزيران, وتحديداً آخر الليل ما يعني فجر العاشر من الشهر, ترى تلك الصور. إسمه ازفار شاه: باكستانيٌ نحيلٌ ويبدو فقيراً جدا: ثيابه فقيرة, توسلاته فقيرة, حركات يديه فقيرة, إستسلامه في البداية ليد الشرطة وهي تدفعه من رأسه تماما, يا إلهي!!!! كم هو فقير ازفار شاه على نحو يجرّده من إنسانيته, يدفعه الى بدائيته ويدفع الآخرين وهذا هو الأسوأ لحيونته.

هل ترى ذلك يا إلهي؟؟؟؟ هل رأيتَ وأنت من يرى!!!!

يدفعه الشرطي بقسوة, ثم تذهب بنا الصور الى الشاب نفسه واسمه مجددا ازفار شاه في قبالة أربعة أو خمسة أشخاص من قوات شبه نظامية, أحدهم على الاقل تُظهره الصور وهو يحمل بندقية. يضم ازفار شاه يديه متوسلا كما يفعل الرهبان البوذيون, يتحدث كلاما قليلا والآخر يصوب اليه البندقية. يندفع ازفار, هذا هو اسمه ازفار شاه, يندفع منحنيا ومتوسلا نحو حامل البندقية, ثم يعود متراجعا, وإذذاك نسمع الصوت عاليا: صوت الرصاصة.

ترى القتل بعينيك فتُعيد الصورة لتتأكد, فهذا هو عملي في الحقيقة: أعمل منذ سنوات في قناة تلفزيونية, نحرّر الصور كما يحرّر الصحافيون في الصحف الأخبار المكتوبة مع فارق حاسم ان كلمات الخبر هي صور في عملنا. في الصحف قد تُعيد الصياغة كاملة, لست في حاجة الى لغة رويترز الاخبارية الباردة, تضيف وتحذف وتدمج خبرا بآخر, تلخّص ثم تبسط التفاصيل إلخ, أما في التلفزيون فالوضع أكثر تعقيداً, لا تستطيع مثلا أن تحذف الموت مهما فعلت. إنه هنا ليس كلمة لتُحذف أو يتم تغييرها إلى ‘فارق الحياة’ مثلا أو ‘قضى نحبه’ أو ‘رحل عن ثمانين عاما’, إلخ….

هو هنا صورة لا يغيّر تكرارها من طبيعتها. قد يغيّر من الإحساس بها لكنه لا يغيّرها أبدا. الموت هنا غير قابل للتحرير.

أُعيد الصورة: ينطلق الرصاص الذي سمعته قبل قليل. صوته عال جدا… يقع الشاب ميتا.

لا معنى لأي شيء آخر.

بعد الموت تأتي التفسيرات, فالشاب الباكستاني اسمه ازفار شاه, قد لا يعني الاسم شيئا بالنسبة لك أنت الجالس في الدوحة في آخر الليل تنتظر نهاية الدوام لتغرق في النوم, وقد لا يعني شيئا لأي مشاهد في الاميركيتين أو غرب افريقيا وشرقها وغربها وجنوبها, لكنه يعني الكثير لمن تأتي صورهم تباعا بعد صورته وهو يقتل أمام عينيك أنت.

لعلها تلك التي تبكي هي الأم. تتساءل, لكنهم كلهم يبكون, نساء أخريات يبكين في الصورة وفتية ورجال يهتفون غاضبين, هذا لأن الاسم مهم بالنسبة لهم. الاسم هو الشاب الذي رأيته يُقتل. الاسم هنا ليس مجرد حروف تُكتب في صحيفة أو تُنطق في نشرة أخبار مسموعة, بل صورة لها حياتها الخاصة, كينونة كاملة, فمن قُتل هو ازفار شاه وليس شقيقه أو أحد الجيران, هذا ما تقوله الصورة لمن يعرفه, تقوله لأمه وشقيقته الصغيرة ورفيق صباه.

لمن لم ير الصور مثلك وكان من سكان المنطقة سيعنيه الاسم ليعرف من هو القتيل, فلو لم يكن ازفار قد يكون الحزن أقل بالنسبة له أو اكثر إلخ إلخ,,,,,,

هذا يعني ان ازفار وهو يُقتل ويذهب الى عالم آخر فإنه يترك اسمه لنا, للآخرين ممن لم يموتوا بعد. عندما تتذكره أمه بعد عشرين عاما ستجلس على عتبة البيت وتنطق اسمه وتشهق. هل تتخيل ما أذهب اليه من هذه الكتابة؟؟؟؟ أرجو أن تفعل. تقول الرواية الرسمية الأولية انه ألقي القبض على ازفار بينما كان يحاول السرقة, وانه قُتل لأنه حاول الاستيلاء على بندقية أحد عناصر القوات شبه النظامية, بمعنى أنه قتل لأنه حاول.

لك أن تتخيل إنه في الحالتين لم يفعل بل حاول لكن قتله حدثَ فعلا ولم يكن محاولة. لا محاولة في الموت بل فعل أكيد, لذلك فإن الموت ثقيل, وأنت هنا تستطيع أن تفهم الاستعارة بعد أن تسللت إليك على مهل في السطور السابقة, وأصبحت حقيقة باردة لا وصفا أدبيا, وأنت هنا تستطيع أن تشعر بحواسك كلها كم هو أسود. فلا كتابة من جديد, لا إمكانية لتحرير الخبر. لقد حدث مرة واحدة وإلى الابد ولا مجال لتغييره. إنه صفحة كُتبت وامتلأت حبرا. والحبر أسود يا صديقي, والحبر هنا فاض وساد وأصبح سوادا كاملا .

هذا هو الموت يا صديقي. لم يعد استعارة بعد اليوم.

قبل ذلك بأيام دخلتَ غرفة المونتاج لتحرّر صورا أخرى لسوري قتيل جرى سلخ جلده. رأيت قدم القتيل مسلوخة فعلا, لم تستطع أن تكمل, خرجت لتدخن, ثم عدتَ, قطّعت الصور كما يقال في التلفزيون ثم ذهبت لترى زميلا اخر يقطّع صورا أخرى قادمة من سوريا.

يا إلهي في سماواتك!!! يا إلهي !!!. إنها صور الطفل حمزة الخطيب.

لماذا يبدو الموت أسود إلى هذا الحد؟؟؟ ذلك لأنه مؤلم وقاس ولا مبال, لأنه كان يعرف انه جاء إلى حمزة دون غيره, ولكن ذلك ما كان ليعنيه وإن أصبح يعني كل من شاهد صوره وهو قتيل على ذلك النحو الفجائعي.

حدث الموت هنا أكثر من مرة: قُتل حمزة تحت التعذيب في الثالثة عشر من عمره, ثم قُتل بالرصاص ثم قُتل بكس العنق والتمثيل بالجثة, ولا يعرف بعد هل تم قطع عضوه التناسلي في أثناء التعذيب أم بعد القتل. فاذا كان بعد القتل الأول يكون حمزة قد قتل مرة رابعة كوعد رجل لن يكبر أبدا.

سيظل حمزة الخطيب في الثالثة عشر من عمره بوجه وجسد مُنتفخين وجسد مثقوب بالرصاص ومن دون عضو تناسلي.

المؤلم كان إنتفاخ الوجه والجسد. المؤلم هو الطفولة حين تُقتل على نحو همجي. ذلك ما لا تقوله كلمات. هناك أشياء كثيرة تتعلق بالإحساس الفج, الفطري, وبالمشاعر التي تدهمك فجأة فتجعل اللسان معقودا على خلاف الدمع الذي ينفر من العين رغما عنك. ذلك ما لا تقوله كلمات بل تفعله الصور.

من قتل حمزة الخطيب؟؟؟ ليس مهما هنا اسم القاتل, المهم هو اسم القتيل, وهو ما كان يعرفه القاتل جيدا. القتلة أذكياء غالبا, فهم من يلعب مع الرب ويتحداه, ويسعى لسلبه هبته الأعظم تلك التي منحنا إياها: الحياة.

القتلة أذكياء, ومن الغباء اعتبارهم مجموعة بلهاء لا يعرفون هول ما يفعلون فذلك يعفيهم من العقاب, ومن الغباء الأكبر إعتبارهم ساديين فذلك يحيلهم مرضى يجب علاجهم وربما التعاطف معهم باعتبارهم ضحايا أيضا.

القتلة أذكياء, لذلك حاول قاتل حمزة الخطيب إخفاءه. كان القاتل أو القتلة يعرفون ان القتيل سيكون علامة وشاهدا حيا عليهم لذلك حاولوا قتله مجددا. عليك ان تمّحي يا حمزة, عليك أن تموت مرتين, ثلاثة, أربعة, عليك أن تختفي, فنحن من يقرر من هو الأكثر أهمية, نحن من يقرر أن تموت وتموت معك الحكاية, لكن الحكاية بدأت بالتوالد من هذه النقطة بالتحديد. ذلك أن الميت لا يموت سوى مرة واحدة, بعد ذلك تتحول الحكاية إلى قتل للجثة وإعلان دائم عن القاتل وبحثا عنه, والقتيل ينتصر مرة واحدة والى الابد إذ يدفع قاتله للخوف منه بقتله مرة وأخرى. القاتل يتراجع منزلة ومستوى إنسانيا إلى ما دون سوية البشر بينما هو يسعى لتحويل ضحيته إلى ذلك.

حمزة الخطيب ليس ازفار شاه, في صور الشاب الباكستاني كانت هناك وقائع قتل معلن: صادم وفج ومجاني, بينما في صور حمزة الخطيب ثمة وقائع تحيل الى وحشية القاتل والى وقائع قتل مكتوم أو هذا ما توخاه القتلة.

لا وعي القاتل هنا بدائي وهمجي ولا علاقة للسادية هنا بسيكلوجيا القاتل كما ذهب البعض, بل بكلبيته: حيث لا حدود, فحدود السادية تحقيق المتعة وعندما تتحقق ينتهي الفعل مُشبعا راضيا. السادي مريض بالمتعة ما يعني الإبقاء على الضحية لتذكّره بما حقّق على جسدها أما الكلبي فمريض بالمحو. يريد محو الضحية لأنه تذكّره بلا إنسانيته, بأنه بدائي وهمجي يدب على أربع.

هل قلت الألم قبل قليل؟؟؟؟!!!

بلى, ما يحدث في بلادنا سوريا يضج بالألم, على خلاف ما كانت تبعثه صور الثورتين التونسية والمصرية, فلسبب ما كنت تشعر بالفرح وأنت تشاهد الصور القادمة من هناك. كانت صور شعب ينهض, وفي مخاضه كان ثمة دم يبشّر بولادة جديدة. الشعب كان هناك فاعلا بإمتياز, وحاضرا على نحو طاغ وساخر أيضا.

في سوريا ثمة ألم. الفرد لا الشعب حاضر, بالأحرى الفرد حاضر أكثر من الشعب, لذلك فإن كل ألم يكون خاصا ويُمارس على جسد دون غيره, وهذا ما يفعله النظام هناك بإمتياز, فعل هذا في درعا, دخل البيوت بيتا بيتا, إستهدف أشخاصا بعينهم, قتلهم لأنه يريد أن يقتلهم هم, وحدث بين هذا وذاك أن قتل آخرين عشوائيا في طريقه لقتل البعض دون غيره.

فعل هذا أيضا مع رجل ضرير اسمه أحمد الصياصنة, وذاك رجل دين كان له دور كبير في درعا في بدايات ثورة السوريين الكبرى: لقد قتل إبنين للشيخ ثم إختطف ثلاثة آخرين منهم, وساومه على حياتهم, فاذا لم تسلم نفسك للسلطات سيتم قتلهم هم وأولادهم, أي أحفادك أيها الشيخ الضرير, ماذا تفعل لو كنت مكانه؟؟؟!!! ستفعل ما فعله بالضبط وسوى ذلك إنتحار للمعنى وتغييب لإنسانية الكائن الإنساني, هذا الكائن المتعجرف والهش. لقد سلّم نفسه لهم لكنهم لم ينجحوا بكسر روحه في حفلة إذلاله على شاشة التلفزيون الحكومي, فلقد رأى: الضرير رأى الموت أخيرا وإبتهل له وناجاه بأن يأتي ليخلّصه.

كان ضابط المخابرات المختبىء في ثوب المذيع يفرط بالابتسام وهو يحقّق مع الرجل. كان ضابط المخابرات يسعى بكل قوة لإذلال الرجل, وأنى له ذلك!!! فأي إنتصار هو ذاك على رجل ضعيف, ضرير, واهن الجسد, ألجأه إحتجاز أنجاله والتهديد بقتلهم وأحفاده إذا لم يفعل ما تريده السلطات إلى ما فعل!!! فأي إنتصار هو ذاك إن لم يكن هزيمة أخلاقية مدوية للنظام نفسه لا يجمّلها إبتسام أو محاولة تمثّل الضحية والنطق باسمها.

فعل ذلك أيضا مع شاب فقير اسمه احمد بياسي. كان بياسي من بين من تم دوسهم بالبساطير في قرية البيضا. إنه أول من نراه في تلك الصور الصادمة: يُداس على رأسه ثم يضرب بالبسطار على وجهه بينما هو مقيد اليدين من الخلف. ينهض الشاب الفقير بياسي, بياسي المهان والخائف, بياسي الذي هو أنا وأنت أينما كنا وحثيما كنا, ينهض بياسي ويركض.

بياسي, وأناديك بأخي وحبيبي… لا تخف يا أخي, لا تخف يا حبيبي, أقولها وأنا أعرف معنى الخوف وعشته, وأعرف حق الإنسان بأن يخاف كحقه في أن يعيش في بلادنا العاهرة هذه. بلادنا التي جعلتنا نزحف كلنا مثلك على أربع وأن نهرب, نهرب…. نهرب من ضعفنا ومن حقنا في الخوف, نهرب من مهانتنا تلك التي لم نشعر يوما بسواها في بلادنا هذه. بلادنا الكلبة, بلادنا العاهرة, بلادنا الحقيرة بين البلدان والمنحطة بين الأمم.

بياسي….. لا بأس: سيُخرجونك من السجن يا حبيبي ويطلبون منك أن تقول بأنك لم تمت, ولا بأس أن تبتسم وأن تشتم من تحدث عن موتك. لا بأس يا حبيبي, إفعل ولا تخف مما طلبوا منك. إفعل فأنا أعرف أنك حرٌ وحي مهما فعلت أو قلت وأنهم عبيد وموتى.

‘ كاتب من فلسطين

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى