محمد تركي الربيعومراجعات كتب

تأمّلات آصف بيات «ما بعد الإسلاموية» داخل العالم الإسلامي/ محمد تركي الربيعو

 

في عام 1996، نشر السوسيولوجي الأمركي/الإيراني آصف بيات ورقةً بعنوان: «قدوم المجتمع ما بعد الإسلاموي»، ناقش فيها تبلور وجهات اجتماعية وأفكار دينية جديدة داخل إيران في مرحلة ما بعد الخميني، وهي النزعات التي جسدها «التيار الإصلاحي» في أواخر التسعينيات. وقد تجسّدت هذه المرحلة الجديدة في حركات واتجاهات اجتماعية، يُعبّر عنها من قبل الشباب والطلبة والنساء والعلماء الدينيون، الأمر الذي أجبر النخب الإسلاموية في الحكم على البدء بإحداث نقلة نوعية في النموذج الفكري والسياسي، وهو ما تمثل في مرحلة الرئيس هاشمي رفسنجاني وبرنامج إعمار ما بعد الحرب في إيران.

ومنذ ذلك الحين –وفقاً لبيات- تبنّى مراقبون بارزون في أوروبا وعدد من بلدان العالم هذا المصطلح ولو كان على نحو وصفي للإشارة إلى ما اعتبروه تحولاً عاماً في توجهات واستراتيجيات الإسلاميين الساخطين في العالم الإسلامي. إذ نظر الفرنسي أوليفيه روا إلى هذا المفهوم بوصفه يرتبط بفشل الإسلاموية، في مقابل ذلك تجاوز جيل كيبل في كتابه «الجهاد» وعرفان أحمد في كتابه «الإسلاموية والديمقراطية في الهند» مسألة الفشل بالتأكيد على أن الإسلاموية تتحول الآن إلى ما بعد إسلاموية، من خلال عدم التركيز على الدولة وقبولها الكبير بالتعددية داخل وخارج الحركة. وفي استجابة إلى الاستخدام الواسع لانتشار مصطلح ما بعد الإسلاموية، يشير بيات إلى أن هذا المصطلح يمثل «حالة ومشروعاً على السواء» أي كمحاولة واعية لتأطير مفاهيم ووضع استراتيجية لبناء منطق ونماذج متجاوز للإسلاموية في المجالات الاجتماعية والسياسية والفكرية، «فهي ليس علمانية أو غير إسلامية، بل بالأحرى تمثل سعياً نحو التدين بالحقوق والايمان بالحرية والإسلام بالتحرر. إنها محاولة لقلب المبادئ المؤسسة للإسلاموية رأساً على عقب من خلال التأكيد على الحقوق بدلاً من الواجبات، ووضع التعددية محل سلطوية الصوت الواحد، والتاريخية بدلاً من النصوص الجامدة، والمستقبل بدلاً من التاريخ».

ورغم أهمية الطرح السابق، يبقى مع ذلك السؤال الأهم هو إلى أي مدى يمكن تطبيق هذا المفهوم على سياقات وتجارب إسلامية في دول عربية وإسلامية أخرى، وإلى أي مدى امتدّ هذا الاتجاه داخل هذه الدول. وهذا ما دفع بيات إلى السؤال والكشف عن مدى إمكانية تطوير إطاره النظري في تجارب أخرى، من خلال تحريره لكتاب جديد تحت عنوان «ما بعد الإسلاموية: الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي» /صدر بالإنكليزية سنة 2013 عن مطبعة جامعة أكسفورد، وتمت ترجمته لاحقاً للعربية سنة 2016 عن جداول للنشر والترجمة/ والذي يضم روايات مفصّلة لباحثين أتراك وغربيين وعرب وباكستانيين عن الكيفية التي تحولت السياسات الإسلامية في عشر(هدول تسعة مو عشرة) دول مسلمة هي إيران ومصر وتركيا والسودان ولبنان والمغرب والسعودية وسوريا وباكستان، عبر ثلاثة عقود ماضية. ولعل ما يميز هذا الكتاب هو أننا نعثر في هذه الدراسات على ملاحظات مهمة حول محدودية وعدم تطابق مصطلح «ما بعد الإسلاموية» مع تجارب بعض الحركات الإسلامية كما في حالة حزب العدالة والتنمية التركي (جيهان توغال) أو الحالة الإسلامية في سوريا ما قبل الثورة (توماس بيريه)، أو على مستوى الموقف ما بعد الإسلاموي المتأرجح «لجمعية الهدى في باكستان».

فقد جسدت حركة الميلي جروش بقيادة نجم الدين أربكان (الذي أنشأ حزب النظام الوطني عام 1970) الإسلاموية التركية. وعرض الحزب في بداياته الفوائد البنكية وعضوية أنقرة في المجموعة الاقتصادية الأوروبية مفضلاً «حضارة مستقلة من الإسلام». وبعد حظر الحزب لكونه معادياً للعلمانية أنشأت الحركةُ الإسلامية حزبَ الرفاه ولاحقاً الفضيلة، غير أن الحركة تعرضت لانشقاق في عام 2001، عندما تحدى الإصلاحي عبد الله غول القيادة التقليدية لأربكان وقام بتأسيس حزب العدالة والتنمية والذي أخذ يجسد وفقاً للباحث التركي إحسان داغي (في دراسته «ما بعد الإسلاموية في تركيا») مرحلة التحول الديمقراطي في الإسلاموية التركية.

غير أن جيهان توغال (سوسيولوجي تركي في جامعة كاليفورنيا) يخالف هذه الحماسة لاستخدام مصطلح ما بعد الإسلاموية من قبل داغي في دراسة الحالة الإسلامية التركية، وبدلاً من ذلك يرى من خلال دراسته «الإسلام وإعادة تجذير المحافظية التركية» أن حزب العدالة والتنمية لا يمثل الانتقال نحو ما بعد الإسلاموية، بل بالأحرى إعادة تجذير المحافظية التركية، وهي مزيج من التنمية والديمقراطية والقومية التركية.

كما أنه يجسد في جوهره «الثورة السالبة» إذ استوعب تحدي الإسلاموية في الحاكمية النيوليرالية والتي تتميز بسيادة المحافظية القومية، وعولمة السوق الحرة والتعددية المقيدة وحوصلة الدين. وفي ذات السياق المشكك ببارادايم ما بعد الإسلاموية «البياتي»، يرى الباحث البلجيكي توماس بيريه (جامعة أدنبره) في دراسته «الاتجاه الإسلامي الاستثنائي في سوريا» والتي شملت قراءة لتاريخ التوجهات الحركية الإسلامية (الإخوان المسلمون) وعلماء الدين في سوريا قبيل اندلاع الاحتجاجات الاجتماعية التي شهدتها البلاد في عام 2011، أن الظروف التي كانت تعيق مرحلة الانعطاف ما بعد الإسلاموي في سوريا لم تكن ناتجة عن غياب اتجاه إصلاحي قوي داخل حركة الاخوان المسلمين، لأن خطاب الجماعة في سوريا لم يتغير منذ نشأة الحركة في الأربعينيات، وقد عرف هذا الخطاب بقبوله لجوهر الدولة الليبرالية الحديثة مثل الانتخابات الحرة التعددية ومواطنة غير المسلمين، في حين شكّل العلماء (وهم العمود الفقري لعملية الاسلمية الاجتماعية خلال النصف الثاني من القرن العشرين) تياراً محافظاً، ولذلك يعتقد بيريه (قبيل اندلاع الاحتجاجات) أن ما كان سيجعل الإسلام ديمقراطياً في سوريا، لن يكون انتصار ما بعد الإسلاموية على إسلامويي الحرس القديم (كما هو الحال في نموذج آصف بيات)، ولكن بالأحرى، قد يتحقق في سياق يسمح بصعود النشطاء ذوي النزعة الحقوقية على حساب العلماء ذوي النزعة الالتزامية.

وفي سياق موازي تحاول حميراء اقتدار (من جامعة كينجز كولدج، لندن) في دراستها «التيارات ما بعد الإسلاموية في باكستان» أن تتناول الانشقاقات المتنوعة لواحدة من أهم الأحزاب الإسلامية في باكستان (الجماعة الإسلامية التي أسسها أبو الأعلى المودودي) وذلك لإبراز الطرق المتنوعة التي تعيد بها الحركة الإسلامية إعادة تكونها وعملها، وكمثال عن هذه الانشقاقات تدرس الباحثة «جمعية الهدى» والتي تتكون فقط من النساء، وبدأت العمل في المجال العام في عام 1994 على يد الدكتورة فرحت الهاشمي (التي كانت مرتبطة بالجماعة الإسلامية أثناء سني دراستها في جامعة البنجاب بلاهور). كما تنتمي الهاشمي إلى أسرة من نشطاء الجماعة الإسلامية، كما أنها تزوجت ادريس زيبر الذي كان قد أعلن عن نفسه بوصفه وهابياً. وبعد سنوات الجامعة، انتقلت برفقة زوجها لإكمال درجة الدكتوراه في جامعة غلاسجو (اسكتلندا). ومع عودتها إلى باكستان، باتت تقيم حلقات دراسية تلقي فيها محاضرات أخذت تروق لتطلعات ثقافة النساء في الطبقة العليا والطبقة المتوسطة العليا، وقد شرحت أفكارها باستخدام أمثلة من الإعلام الواسع الانتشار سواء المحلي أم الغربي. إلى جانب استخدام د.هاشمي للتكنولوجيا في محاضراتها مثل العروض التقديمية مع التركيز على الخبرات الحياتية، هذا الأمر أدى إلى أن تشهد جمعية الهدى صعوداً درامياً على مستوى التأثير بين نساء الطبقة الوسطى العليا والمهنيات في بعض الأحيان. لقد جعل الاتجاه نحو ارتداء الحجاب أو على الأقل تغطية الرأس باستخدام «دوباتتا» (وهي قطعة منفردة كانت تستخدم مسبقاً في الأعمال التزيينة) فقط من قبل نساء هذه الطبقة، حضور الهدى ملحوظاً. وما يلفت النظر في هذا الأمر هو أن جمعية الهدى أخذت تساهم في نشر حالة من التدين داخل الأوساط العليا غير المتدينة، الأمر الذي فسره البعض بكون نساء النخبة اللاتي يلتحقن بجمعية الهدى إنما يسعين لملء فراغ اللامعنى في حياتهن، وكما يشير أحد المراقبين «لقد حصلن على نصيبهن من الفساتين المفتوحة ومن حفلات الشاي، والآن جاء نصيبهن من الدين».

وهنا يمكن أن نسجل ملاحظة بخصوص هذا التحول والذي يخالف الرؤية «التطورية» التي تطغى على رؤية بيات. ففي مقابل الانفتاح على رؤية دينية إصلاحية، نجد في نموذج جمعية الهدى عودة إلى شكل من أشكال التدين الفردي، أو حالة من الأسلمة لدى نساء النخب العليا غير المتدينات، كما أن ما تسجله الباحثة في هذا السياق هو أن هذه الجمعية بقيت تعمل وفق ذات المنطق الذي تخيله المودودي حيال الجماعة الإسلامية بوصفها تمثل حزباً طليعياً -وفقاً للنموذج اللينيني- يقوم على جذب نخبة المتعلمين والمهنيين في شمال الهند، والتي ستأخذ على عاتقها الاستيلاء على الدولة وتغيير المجتمع. وهنا نجد أن الهدى تأخذ «الطليعة» على محمل الجد وإن كانت على نحو غير سياسي. إذ يؤكد مدرسو وطلاب الجمعية معاً على أهمية نساء الطبقات المتعلمة ونساء النخبة، إذ يصبحن قدوات لمن هن أدنى منهن ثقافياً واجتماعياً، وهو ما عبرت عنه إحدى الداعمات للجمعية من خلال القول «أن الإسلام لا يدرس بينما نجلس على حصر ممزقة». ورغم أن الجمعية حاولت مؤخراً اتخاذ بعض الخطوات تجاه الجمهور الحضري المتعلم في الشرائح الدنيا والوسطى، مع ذلك لا يزال تركيز المنظمة منصباً على نساء الطبقة العليا والطبقة الوسطى العليا المدينية. وبذلك نجدها حافظت على ذات السياسات الإسلامية التقليدية في استقطاب الفئات المتعلمة، ومع ذلك تقر الباحثة أن هناك تطور ما بعد إسلاموي –وفقاً لمقاربة بيات- يمكن رصدها من خلال إهمال جمعية الهدى التأكيد على ضرورة التغيير السياسي كأساس للتغيير الاجتماعي والذي لا زال يؤسس الجماعة الإسلامية إلى اليوم. بيد أن هذا –وفقاً لاقتدار- لا يعني أن المنظمة تتقارب من نموذج العلماء التقليديين الذي يعارضون أيضاً اهتمام الجماعة الإسلامية السياسية. ويعتبر الاهتمام الجندري/النوعي هو الأمر الوحيد الذي يميز الهدى عن العلماء التقليديين.

كاتب سوري

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى