مراجعات كتب

تاريخ سورية في “محاضرات” خيري الذهبي/ عمر شبانة

 

 

كانت رواية “التحوّلات”، بأجزائها الثلاثة، أوّل ما جذبني إلى عالم الكاتب العربي السوري خيري الذهبي، الذي يسعده كثيرا أن يصف نفسه بالقول “أنا ابن دمشق، وابن الجامع الأمويّ والزائر المداوم لمحاسنه”.. فقد كانت هذه الرواية، كما أعتقد، علامة مائزة، ليس فقط في مسيرة الذهبي الروائية، بل على صعيد التجربة الروائية السورية والعربية. وأذكر الدرجة العالية من اهتمام الكاتب بالمكان السوريّ عموما، والشاميّ القديم خصوصا، وبالبيت الدمشقيّ العتيق على نحو أشدّ خصوصية.

ولعلّني ما زلت أذكر، من بين مشاهد كثيرة تتعلق بالبيت الدمشقي القديم، ما بين الساحة والبحرة وبين الفرنكة، وبين الخارج والداخل، وبين الجمالي والوظيفي، أتذكّر مشهد انهيار عالم “خالدية” (إحدى أهم “بطلات” الرواية)، بالتوازي مع انهيار نباتاتها “سقطت عن الدرج وأسقطت معها عشرات أصص نباتات الزينة، كانت تتزحلق، وتُزحلق معها أفراح الأيام وألوانها وعطورها، حتى إذا ما وصلت إلى الباحة، وصلت ومعها الأصص تغطيها، وتجعل لها قبراً من الورود”.

الكتاب الماثل بين أيدينا “محاضرات في البحث عن الرواية”، ليس مجرد “محاضرات” في المعنى العلمي للمحاضرة، وهو أيضا ليس بحثاً في الرواية فقط، فالعنوان يختزل كثيراً من المحتويات الحقيقية المتشعّبة للكتاب، ولو شئنا التمدّد والتوسّع، لكان الأصحّ ربّما أن نسميه كتاب البحث عن سورية أولا، “سورية العُظمى” في الرواية وفي التاريخ، وفي الأساطير والأديان والفلسفات وغيرها، فهذه العناصر جميعا تتداخل لتشكّل مادّته الأساسية، وتنسج خيوطه برؤية الكاتب الروائيّ، وبنكهته التي ميّزت كتاباته.

بدايات وتحوّلات

في هذا الكتاب، بداية، نحن حيال خزّان ذاكرة للشام البصرية والسمعية والمقروءة والمحكية التي يمتلكها الكاتب، أعني ذاكرته في ما يخص العالم القديم والمعاصر، وحتى الراهن. خزّان يبدأ بالسؤال الملحّ دائماً حسب ما يقول خيري، وهو: لماذا كانت الرواية الأولى التي تحوز الشروط الفنية المعقولة في مصر هي رواية “زينب”، وهي رواية ريفية، عن علاقات ريفية، وفي بيئة ريفية، وشخصيات ريفية معاصرة أو تكاد؟ ولماذا كانت الرواية الأولى التي تحوز الشروط الفنية الأولى في سورية رواية تاريخية تدور أحداثها قبل أربعة عشر قرناً، رواية تتحدث عن مكان تاريخي متخيل، وشخصيات تاريخية متخيلة، وبيئة ومكان تاريخية متخيلين.. ويعني رواية “سيد قريش” لمعروف الأرناؤوط؟

سؤال خيري هذا ليس سؤالاً حول زمن انطلاقة الرواية وطبيعتها فقط، بل هو سؤال حول “هوية” الكتابة السورية، النابعة من هوية الدولة السورية. فحين نتابع قرءاة خيري، سنكتشف أن سؤاله يتعلق برؤيته للدولة السورية، فهو مقتنع، عن حقّ ربّما، أن ثمة خصوصية لهذه الدولة تجعل منها “لا دولة”، أو دولة غير مستقرّة، لا في حدودها، ولا في قناعة أبنائها بهذه الحدود “الآنية”. هذا هو السؤال الأول في الكتاب، سؤال سيتفرع ويتشعب إلى أسئلة وبحث وجدل تحتل مركز الكتاب، ومحوره الأساس.

ذاكرة ووطن غائبان

يتحدث خيري، في كتابه هذا، عمّا يسميه “ذاكرة نافية للمكان، ونافية للحكام الذين مرّوا على المكان”، ويرى أن هذه الذاكرة هي التي صنعت، وستصنع أهم تيّارين سياسيّين سيسيطران على المنطقة، ويعني التيار العروبيّ، والتيار الإسلاميّ، اللذين سينعكسان ويتمثّلان في أن سورية لم تصدر، طوال القرن العشرين وحتى الآن، حزباً سياسياً واحداً يعلن أن “سورية وطني”، فالكل يؤمن بأن “سورية المعاصرة وطن مؤقت على طريق تحقيق الوطن الكبير”.

في هذا السياق، يتحدث خيري عن علاقة الكاتب السوريّ بالمكان، وإذ نعود معه إلى بداياته، سنرى كيف اندمج هو نفسه مع الجوّ الأدبي الشعبوي الديماغوجي، وتنكّر للمكان كما تنكّروا، وكتب عدداً من الروايات تجاهل فيها المكان، هذا المكان الذي يقول إنه “كان أجمل ما اشتغلت عليه في روايتي المنشورة الأولى “ملكوت البسطاء”. وأخذت أكتب عن مدينة غير ذات اسم”. ويستكمل عن ذاته وهويته وتكوينه “راجعت نفسي متسائلاً: وما الذي يجبرك على التنازل عن مشروعك، وأنت- أدبياً- لم تتشكل في هذه القطرية، بل كنت في قراءاتك، وفي تربيتك العقلية، وفي رحلاتك، ابناً لكونيّة أخرى، فما الذي يجعلك تتنازل عن مشروعك، لإرضاء من ليس مهمّاً إرضاؤه. و… بدأت كتابة روايتي المطوّلة “التحولات” (ميتامور فوزيس، وأعني بها التناسخات)، في ثلاثة أجزاء هي  “حسيبة”، “فيّاض، و”هشام، أو الدوران في المكان”. في هذه الرواية كنت قد تعمدت فتح نوافذ الذاكرة كاملة.. كنت أعيد صوغ ذاكرتي الشخصية، وذاكرتي الأدبية والورقية في آنٍ واحد. أخذتْ دمشق تتكشّف أمام عينيَّ. مدينة- واحة واقعة على طريق الحضارات الكبرى المصرية، المقدونية، والفارسية، الرومانية، والعربية الكثيرة، و… الطورانية، بمختلف تسمياتها، بعد خروجها عن سد يأجوج ومأجوج الذي حبسها عن المنطقة لقرون”.

وفي سياق عنايته بالمكان الدمشقيّ وتفاصيله، يُعنى خيري الذهبي بـ”الجامع الامويّ”، بوصفه “رواية سورية”، معتبرا أنه “معجزة جمع الأديان والمذاهب جميعها في معبد واحد، إنه قبول الآخر، وقبول التعدّد وعدم رفض الآخر. إنه تراث بني أمية الذين دخلوا إلى مدينة يغلب على سكانها المسيحية، فتآخوا وتحابّوا، وأعادوا إلى المدينة تعددية الفترة الذهبية الرائعة في تاريخ البشر، وأعني الفترة الهيلنستية، فترة حكم ورثة الاسكندر الكبير، السلوقيين”.

وهنا علينا أن ننتبه إلى مدى اعتزاز خيري وولعه بالحضارة الهلنستية: أو الهيلنية الشرقية، التي- كما يقول “أنجزت أعظم فلاسفة ومفكري وشعراء وكتّاب العهد الكلاسيكي الشاميّ، ولنذكر منهم الكاتب الكبير جداً لوقا أو لوقيانوس بصيغته اليونانية من مدينة سميساط، ولنذكر ميلياغروس من مدينة جادارا الجولانية، ولنذكر أبوقراط، وأنتيباتر من صيدا، وزينون الرواقي الصيداوي، ولنذكر فلاسفة أفاميا الإشراقيّين”. ففي هذه المرحلة، عاش الشرق “فترة من التآخي والديمقراطية الجميلتين لعدّة قرون، حتّى جاء “البسطار” اللاتيني (روما)، فغيّر كثيراً من بنود المعادلة. فالحرب العنيفة التي شنّتها المسيحية “الدولتيّة” على الوثنية السابقة، من تدمير للمعابد ومن قتل للفلاسفة، ومن حرق للمكتبات، لم تلبث أن تحوّلت إلى كابوس”، وحينما وصل الأمويون إلى الحكم، استعادوا تلك الفترة الذهبية (الهيلنستية) إلى الشام”.

ولنختم رؤيته إلى الشام، نورد ما استعاره خيري من ياقوت الحموي في قوله “وجملة الأمر أنه لم توصف الجنة بشيء، إلّا وفي دمشق مثله، ومن المحال أن يطلب بها شيء من جليل أعراض الدنيا ودقيقها إلّا وهو فيها”. ويتحدّث عن الدمشقيّين الذين “ما تكاد هذه الحرب تهدأ لهدنة قصيرة، ويطلُّ الربيع، حتى يخرجوا إلى “السيران”، يستمتعون بالزهور والعصافير والفرح والأكل في الهواء الطلق والغناء والرقص”. ثمّ يقول إن “دمشق كان فيها ما يزيد عن العشرين نوعاً من المشمش”.

اليوتوبيات

ومن بين فصول الكتاب الأهمّ، ربّما، فصل يعاين فيه المؤلف أنماطا من “اليوتوبيا”، عبر قراءته النقدية “المقارنة” لثلاث من الروايات، لثلاثة من كبار الروائيين العالميين، هم: الروسي زمياتين وروايته “نحن”، والبريطانيّان ألدوس هكسلي في روايته “عالم جديد شجاع”،  وجورج أورويل وروايته الشهيرة “1984”. فهو إذ يتأمّل في هذه الأعمال، على غير صعيد من موضوعاتها المتقاربة، يتوقف خصوصا على سؤال “الجنس والإباحيّة والحل العلمي لها”، وعند وسائل الإخصاب الحديثة، وإنتاج فئات من البشر بمستويات من الذكاء، بحيث تصلح كل فئة لوظائف معينة، من قادة المستقبل، سياسيا واقتصاديا وإدارياً واختراعات..وغيرها، وصولاً إلى فئة العبيد وعمال النظافة وغيرهم، كما تطرحهم رواية هكسلي تحديداً.

وإلى ذلك يتوقف خيري هنا ليؤكد أن القرن العشرين “هو قرن المحاولات المتطرفة للحصول على اليوتوبيا، وهو قرن الهزائم الكبرى للأحلام البشرية أيضاً”، وأن العالم لدى كل المفكرين الأوروبيين “هو أوروبا فقط، وماعدا أوروبا فهو البربرية”. كما يتوقف لدى ما يسمّيه “صدمة الحالمين والمفكرين والفلاسفة والكتاب والشعراء (الصدمة المرعبة) مما فعل ستالين بعد استيلائه على الحكم في روسيا”، حين أخذت الستالينية- حسب زمياتين- في التحول “إلى مؤسسة خارجة عن الناس، وصار همّ المؤسسة الدفاع عن المؤسسة لا عن الإنسان”، ويكمل زمياتين “الشيوعية صارت كنيسة جديدة، همّها حماية مصالح سادة المؤسسة، أكثر من العناية بالفقراء”.

دونكيخوتة وصلاح الدين

من خلال قراءته لرواية سيرفانتيس الشهيرة “دونكيخوتة”، قراءة تشريحية تقع بين السرد والنقد، كما لو أنه يعيد صَوغ الرواية من جديد، يقدم خيري رؤيته للرواية، وهي مرافعة جديرة بالاهتمام، حيال تاريخ العرب في الأندلس، فيكتب عن السنوات الخمس ما بين (1575 – 1580) حيث اجتمع سيرفانتيس مع سيدي حامد بن علي، سليل الغرناطيّين الإسبان المسلمين- الأندلسيين، الذين أخرج آباؤهم من أرضهم مع من أخرج بعد سقوط غرناطة، ليبدأوا رحلة الحلم والبكاء على أرض الميعاد والجمال التي طردوا منها. فيصنّف هذه الرواية ضمن أدب “سير الفرسان العظماء”، المقاتلين الذين سيهزمون المردة والجان والكفار، وينتصرون للضعفاء والمساكين. مقرّرا أن “الأدب الجميل هو أدب هزيمة الإنسان أمام قدره، وليس انتصاره، فلا انتصار للإنسان أمام القدر”. وفي مقابل نسخة سيرفانتيس هذه، التي أوحى له بها “سيدي حامد”، يعلن خيري في ختام قراءته “ما نزال ننتظر قراءة نسخة سيدي حامد بن علي التي وضعها على الجانب الآخر من المتوسط، ويقول فيها إن الموحي بوضع هذا الكتاب هو ميغيل دو سيرفانتيس”.

وعلى نحو مشابه، يعيد خيري كتابة شخصيات تاريخية شهيرة، فيقدّم شخصية صلاح الدين الأيوبي مثلا، لا كما يعرفه العامّة، مجرد ذلك البطل الأسطوري المحرر لبيت المقدس، بل هو “الإنسان” الذي يخضع سلوكه للتشريح السيكولوجي والاجتماعي والفكري، إذ يرسم المؤلف صورته من تفاصيل لا نجدها في “الرواية التاريخية” التمجيدية، تفاصيل تضعه في مصاف البشر لا الأسطورة، ترسم مراهقاته وأحلامه وفرص الحظ التي جعلت منه تلك الشخصية القيادية، على غير ما كان يحلم ويرغب ربما. وقريباً من هذا الأسلوب السرديّ الممتع في تقديم “شخصياته”، يختم خيري بمحاضرة عن شخصية الروائي السوري الراحل فارس زرزور، لنتعرف من خلال شخصه وتاريخه إلى محطات في تاريخ سورية الحديثة، سورية في زمن “البعث” وما اتّسمت به هذه الحقبة من سمات صنعت “مصير” البلاد.

يبقى أن خيري، وأثناء بحثه عن “آباء حقيقيين” له وللرواية عموما، وجدهم، كما يقول في أبي حيان التوحيدي وفي أبي العلاء المعري، وفي ألف ليلة وليلة، ثم تأتي مفاجأته “وحين أمعنت في الحفر، وجدتهم في الكاتب السوري العظيم الذي أدرنا له ظهورنا لأنه جاء قبل العربية، رغم أنه كان يفخر دائماً بالإعلان: نحن السوريين، وأعني به لوقا أو لوقيانوس، أو لوسيان السميساطي، ذلك الذي ترك لنا –بزعمي- الرواية الأولى في تاريخ العالم، والتي سيتأثر خطاها مؤلفو ألف ليلة وليلة، في المخلوقات الخيالية التي ابتكروها طائر الرخ، والحوت العملاق كجزيرة، والأشجار تنبت بشراً يتدلّون منها ثماراً، وسيتأثر خطاها مؤلفو رحلات غليفر وغارغانتوا وبانتاغرويل، والمعري في رسالة الغفران، ودانتي اليجيري في كوميدياه الإلهية”.

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى