صفحات الناس

تاريخ ميلاد/ لقمان ديركي

 كنا سابقاً نتأفف من شهادة التعريف التي كان مطلوباً منا كتابتها في المخفر عند استئجار منزل في إحدى مدن سوريا، فقد كان على المستأجر أن يضع أسماء عائلته كلها، بدءاً من الوالد المحترم ومروراً بالأم الفاضلة وانتهاء بالإخوة والأخوات، هذا ناهيك عن الأولاد. لكن يبدو أن شهادة التعريف هذه أضحت لا شيء أمام المعلومات التي تطلبها السفارات من السوريين الآن، فهذه السفارات باتت لا تكتفي بأسماء الإخوة والأخوات، بل وصارت تطلب مواليدهم أيضاً، طبعاً السنة التي ولدوا فيها غير كافية، إنهم يريدون أن تسجل تاريخ ولادة كل فرد من أفراد عائلتك في اليوم والشهر والسنة، فتتذكر عند هذا الطلب الذي عليك أن تملأه الآن المرحوم عبد الحليم حافظ، وتبدأ بالغناء بصوتٍ عال في السفارة معه، في يوم.. في شهر.. في سنة، ويستغرب منك موظف السفارة اللهجة المصرية بين ثنايا الأغنية، أو لستَ سورياً؟!! يسألك الموظف الأوروبي، فلا تستغرب كيف انتبه، ذلك أنهم أضحوا خبراء في اللهجات الشرق أوسطية، وخاصة السورية في هذه الأيام، فيبدأون بالتحقيق معك، لا بد وأنك مصري تدَّعي بأنك سوري كي تكسب حق اللجوء إلى أوروبا، ولا تنتهي من هذه المصيبة إلا بألف يا زور بعد أن تفهمهم بلهجتك السورية القادمة من إحدى المناطق المنكوبة حصراً، فهم حتى باللهجات السورية باتوا ضالعين، تفهمهم أن طلبهم لتواريخ ولادة إخوتك العشرة باليوم والشهر والسنة دمَّر أعصابك فجعلك تتذكر أغنية عبد الحليم حافظ التي تشبه الطلب تماماً، فيضحكون من نكتتكَ، ويسجلون عندهم اسم الأغنية كي يسمعوها فيما بعد زيادة في المعرفة.

الغرب صار يعرف نمرة بنطلون كل واحد منا، حتى المخابرات عندنا لا يملكون المعلومات التي يملكونها عنا، ولكنهم يبتسمون، فالأمر عندهم سهل، لدى المواطن عندهم أخ أو أخت فقط لا غير، وهم يحفظون أعياد ميلاد بعضهم البعض بشكل اعتيادي، بينما نحن، وآخ من كلمة نحنُ، يملك الواحد منا أكثر من ستة أو سبعة إخوة، وهم لا يحتفلون بأعياد ميلادهم، فنحن نخجل من الاحتفال بأعياد ميلادنا، نذوب خجلاً إذا غنينا هابي بيرث دي تويو، سنة حلوة يا جميل، فنخفف دمنا الذي أصبح أخف من الخفيف الآن ونغني: كبر جحشنا سنة، كي نكسر حاجز الخجل الأحمر على الخدود المتخشبة، فكيف بالله عليك يا موظف السفارة الأجنبية تطلب منا ذكر أعياد ميلاد كل هؤلاء.

 وتبدأ يا معلم بحفلة التليفونات الخارجية، ذلك أنك في تركيا، والاتصال بالداخل صار اسمه اتصالاً خارجياً، يا حيف، وتتصل بأمك يا عين أمك في المعضمية بدمشق لكن هيهات، لم يعلق الخط، تسمع صوت الصبية الإلكترونية يأتيك على خلفية أصوات قذائف ولعلعة رصاص ينبئك بأن الرقم المطلوب خارج التغطية. تقسم مليون يمين لنفسك أنك سمعت صوت الرصاص رغم عدم نجاح الاتصال. تتصل بشقيقك في حرستا قرب دمشق عسى ولعل يعلِّق الخط، ويعلِّق، فلقد صعد إلى برج المعلمين الشهير والمهجور خصيصاً لوجود التغطية هناك ليجري عدة اتصالات، ويستقبل اتصالكَ بلهفة ما بعدها لهفة، ويسألك عن حالك وأحوالك، وأنت متلهف لمعرفة عيد ميلاده، وتسأله بسرعة كي لا تأكلك الدقائق وتنتهي الوحدات، يضحك شقيقك وتضحك خلفه الدوشكا والمدافع والراجمات، يا أخي والله ما عم أمزح معك، هيك بدهن السفارات، بدهن يانا نحب بعض ونحفظ أعياد ميلاد بعض، طالع هويتك من جيبك ونقلني باليوم والشهر والسنة تاريخ تشريفك إلى الدنيا، ويضحك أخوك، وتضحك خلفه القنابل والأربيجيهات، موسيقاه التصويرية قوية، هات تاريخ الميلاد يا إبن الحلال.

 وتلوم نفسك المصلحجية كيف أنك لم تحفظ تواريخ ميلاد كل هؤلاء لأنو طلع في ضرورة لهالشي، وتصرخ بأخيك أن يعطيك تاريخ الميلاد، تضحك القذائف، تضحك المروحيات، يتحدث القناص ويصمت أخوك، هات تاريخ الميلاد، لكن لا جواب سوى صوت الرصاص، لم يعطِكَ تاريخ ميلاده، لكنه ـ على الأقل ـ أعطاكَ تاريخ الوفاة.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى