صبحي حديديصفحات الرأي

‘تان تان’انتفاضات العرب


صبحي حديدي

راجت أكثر من ذي قبل، والأصحّ القول إنها استيقظت بعد سبات، وانتعشت بعد ركود كان أقرب إلى الانقراض ـ ظاهرة عُرفت في التاريخ الاستعماري باسم عجيب الاشتقاق، ملتبس المعنى، طارىء الاختصاص، هو ‘المستعرب’ Arabist. وأمّا سبب انبعاث المستعربين، وعودتهم إلى احتلال الصدارة في أعمدة الرأي وشاشات الفضائيات الغربية، ثمّ العربية استطراداً واستلحاقاً، فهو انتفاضات العرب، من تونس ومصر وليبيا، إلى اليمن والبحرين وسورية. ولا عجب، والحال هذه، أن تسود على نطاق واسع تسمية ‘الربيع العربي’، وهي ذاتها التي اختاروها بأنفسهم، والتي تنسج على منوال تسميات أخرى سابقة، مستمدة من أوروبا الشرقية بصفة خاصة.

لافت، في المقابل، ومدهش، أن يتلهف بعض العرب إلى احتلال موقع ‘المستعرب’، ونسخ وظائفه القديمة والوسيطة والحديثة المعاصرة، بل مسخها أحياناً إلى محض إعادة إنتاج كاريكاتورية للكليشيهات الأشهر في تاريخ الاستعراب، وأبرزها بالطبع تلك التي تخصّ الإسلام السياسي، وصراع المذاهب والطوائف والفِرَق، وفتاوى التكفير والتحريم، وما إليها. على سبيل المثال، تحتلّ مواقف ابن تيمية (1263ـ1328) مساحة كبيرة في سجالات مدوّنة إلكترونية تحمل التسمية ذاتها، The Arabist، وكأنّ المذهب السلفي المتشدد هو محرّك الانتفاضات العربية. كما نعثر على سجالات أخرى تجزم بأنّ الانتفاضات ليست ربيعاً، بل سايكس ـ بيكو جديدة (وهذه المقولة الركيكة صارت ديدَن موشور عريض من رافضي الحراك الشعبي العربي، ابتداء من ‘الممانعين’، مروراً بأبواق أنظمة الاستبداد، وانتهاء بأمثال محمد حسنين هيكل).

ورغم أنّ المدوّنة تركّز على الملفات المصرية، بما لا يُقارَن بسواها في الواقع (إذْ أنّ مصر هي مقرّ التحرير)، إلا أنّ بعض الآراء الأخرى تتناول البلدان العربية التي شهدت انتفاضات شعبية، بروحية تدوين متعاطف تارة، ومحايد طوراً، وإنْ كانت طرائق الاستشراق التقليدية لا تغيب إجمالاً عن التدوينات، أو الروابط التي تحيل إلى موادّ أخرى خارج الموقع. لهذا فإنّ جوشوا لانديس، الأكاديمي الأمريكي وصديق النظام السوري، ضيف شبه دائم على الموقع؛ ومثله تُستضاف موادّ متعاطفة مع النظام، نُشرت في الموقع الذي أطلقه بنفسه: Syria Comment. ومن الطريف، أخيراً، أنّ التعريف بالمدوّنة يقول إنها ‘موقع إلكتروني عن السياسة والثقافة العربية’؛ إلا أنّ الصورة التي تتصدّر صفحاتها منقولة عن إحدى قصص ‘تان تان’… التي، إلى جانب عنصريتها، لم يُعرف عنها أي تعاطف مع العرب!

وبالعودة إلى أصل الظاهرة، كان مستعربو الغرب متعددي المنابع والأهواء والمواهب، فمنهم الأكاديمي أو السفير، ومنهم الأديب أو ضابط الاستخبارات، ومنهم المعلّق السياسي أو عالم الآثار؛ ويكفي، لهذا، أن يسرد المرء لائحة من أسماء كبارهم: ريشارد برتون، الليدي هستر ستانهوب (أو ‘ملكة البدو’ في اللقب الظريف!)، توماس إدوارد لورانس (العرب)، جرترود بيل، هاري (عبد الله) فيلبي، دانييل بليس (مؤسس ‘الكلية البروتستانتية السورية’ التي ستتحوّل إلى الجامعة الأمريكية في بيروت). ثمّ، في اللائحة المعاصرة، ثمة ريشارد مورفي، هيرمان إيلتس، روبرت بلليترو، دافيد نيوتن (السفير ما قبل الأخير للولايات المتحدة في عراق صدّام حسين)، والسفيرة الشهيرة أبريل غلاسبي، التي أبلغت دكتاتور العراق بأنّ الولايات المتحدة ليس لها رأي في نزاعه الحدودي مع الكويت.

وهؤلاء قوم يختلفون، في التصنيف والتعريف، عن المستشرقين الذين تكفّل الراحل إدوارد سعيد بتفكيك مآربهم ومشاربهم وأجنداتهم، فضلاً عن تبيان فضائل بعضهم، وقبائح معظمهم. أو قلْ، في تسويغ اجتراح توصيف جديد يُفرد لهم خانة منفصلة أو مستقلة، إنهم تلامذة أبناء للمستشرقين الآباء، يسخّرون طرائق الاستشراق في خدمة الأغراض الجيو ـ سياسية والدبلوماسية والأمنية للقوى العظمى، الغربية غالباً. كذلك يمكن للبعض منهم أن يمتهن، بين حين وآخر، خدمة سلسلة من الأغراض ‘الثقافية’ في الظاهر، تظلّ بريئة حسنة النيّة حتى تسفر عن أهدافها الباطنة، فتكشّر حينئذ عن أنياب جديرة بالضواري وحدها.

وفي هجائهم كان الصحافي الأمريكي روبرت د. كابلان قد أصدر، منذ سنة 1993، كتابه الشهير ‘المستعربون: رومانس نخبة أمريكية’، بدا بمثابة مسمار جديد يُدقّ في نعش تلك الفئة العجيبة. وكاتب هذه السطور ينضوي في عداد فئة (لعلها ليست أقلية) ترى أنّ ذلك المحاق كان فأل خير، وليس نذير خسران، لأنّ قضايا العرب لم تفقد الكثير من وراء تشييع استعراب ساد حقبة من الزمن، ثمّ باد واندثر، أو انقلب إلى ضدّه تماماً. إلا أنّ مستعرباً غربياً، ولد في لندن أو باريس أو برلين، يندر أن يتجاسر على اختزال سياسة العرب وثقافتهم إلى مشهد من رسومات ‘تان تان’، يصوّر شارعاً عربياً يختلط فيه المغاربة بالصعايدة، والقبعة الأوروبية بالطاقية الشعبية وغطاء الطوارق، فضلاً عن البناطيل والتنانير والجلاليب. فكيف يستسهل هذا الـ’كيتش’ مستعربون عرب ـ لكي لا يضيف المرء: عاربة! ـ ولدوا في الرباط أو في القاهرة، وتتناول تدويناتهم مسائل حساسة، عن الثورة والطغيان، الديمقراطية والاستبداد، الدين والدولة، الإسلام السياسي والعلمانية…؟

أم أنّ إحدى فضائل الانتفاضات العربية أنها، أيضاً، حراك ثقافي عميق يستهدف تفكيك رومانس هذه النُخَب، ذاتها؛ المستعربة من حيث المهنة والزعم، المنتهية إلى خدمة الاستشراق من حيث الفعل والمآل؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى