صفحات الثقافةمحمد أبي سمرا

تجديد الأمل

محمد أبي سمرا

حرٌّ هو الكائن البشري في دينه وتديُّنه، وحرية الإنسان أسبقُ وأشدّ أصالةً في وعيه وجوارحه ومخيلته من الدين والتديّن. هذا ما يقوله معظم شبّان مصر وشابّاتها، ومن ورائهم الغالبية الساحقة من شعب مصر، في ثورتهم الأخيرة هذه، التي ابتكرها وأسَّس لها شبان “حركة تمرّد” وشاباتها قبل أشهر قليلة. وهم يقولون ايضاً قولاً صريحاً: لا نريد أن يحكمنا أحد باسم الدين، وينصّب نفسه وجماعته وحزبه أولياء على أمورنا الدينية في الحياة الدنيا.

الحق أن مثل هذه الأقوال ليست أقل من معجزة في المجتمعات العربية المصابة بالركود والعجز عن تجديد حياتها السياسية وثقافتها السياسية، وعن تشخيص معضلاتها الكثيرة والكبيرة، المتراكمة والمزمنة، منذ أكثر من ستة عقود. لم يكن لجوء فئات من الأجيال الشابة في هذه المجتمعات إلى التحصّن بالدين والتديُّن تديّناً رسالياً جديداً منذ ثمانينات القرن العشرين، إلاّ وجهاً أو قناعاً لذلك العجز المزمن، بعدما استتبّ الحكم والسلطان في الجمهوريات العربية لحكّام ديكتاتوريين وزمرهم العسكرية والأمنية، وللنهب الاقتصادي، وعزموا على توريث أبنائهم السلطة والرئاسة.

كان قد سبقهم إلى ذلك، ومهّد لهم الطريق اليه جزّار حماة في العام 1982. فغداة تلك المجزرة ردّاً على عنف “جماعة الاخوان المسلمين” السورية، اليائس والعدمي، كافأ حافظ الاسد أخاه رفعت، منفّذ المجزرة، بأن أقصاه وأبعده، تمهيداً لتوريث “سوريا الأسد” لابنه باسل. لكن الدهر غدر بباسل على طريق مطار دمشق الدولي، فأتى الأب – العرّاب بابنه الثاني، طالب طبّ العيون في لندن، بشار، وعهد إلى الزمرتين الأسديتين، الأمنية والاقتصادية القرابية، مهمّة تدريبه وتأهيله ليكون وارث سوريا الجديد الذي يُغرق عرشه بطيئاً بدماء شعبها منذ حوالى سنوات ثلاث.

¶¶¶

المتأهبون الآخرون لوارثة الجمهوريات الديكتاتورية عن آبائهم العرّابين، منهم من قُتل مع عرّابه (عدي وقصي صدام حسين)، ومنهم من نجا ويقبع في السجن يتيماً (سيف الإسلام بن معمّر القذافي) ومنهم من لا يزال طليقاً (أحمد علي عبدالله صالح) مع عرّابه المخلوع عن عرش اليمن. أما من لم ينجب ولداً يرثه (زين العابدين بن علي)، ففرّ من قصره في تونس هارباً إلى السعودية مع زوجته العرّابة مثله.

ومن استجدى شعبه قبيل خلعه عن عرش مصر (محمد حسني مبارك) قائلاً إنه عزف عن توريث ابنه، وإنه يريد أن يموت ويُدفَن في بلده، حيث ولد ونشأ، فقد جعله شبّان مصر وشابّاتها نسياً منسياً. وها هم حاصروا بالملايين قصر رئيسهم “الإخواني” وخلعوه، بعدما ظنّ مع جماعته وحزبه، أهله وعشيرته “الإخوانية”، أن انتخابه رئيساً في غفلة من المصريين، يمنحه تفويضاً دينياً أبوياً عليهم، بوصفه “أمير أمة المؤمنين” الذي انتدبته الإرادة الإلهية و”مكتب الارشاد الإخواني” ليسوسها بـ”السمع والطاعة”، على مثال ما يسوس المرشد رجال مكتبه وجماعته وحزبها.

¶¶¶

شبّان مصر وشابّاتها يحيون الأمل من جديد: من “حركة كفاية” إلى “حركة 6 إبريل” إلى موجة فتيان “بلاك بلوك” إلى “حركة تمرد”، موجات سريعة متعاقبة من شبّان وشابّات، أفراداً ومجموعات أفقية سيّالة ومشرعة، بلا قيادة ومرشد ومكتب إرشاد، وبلا قائد ملهم، إلا تلك الحرية الفتيّة الطازجة الفرحة في الشوارع والميادين.

هل يضع شبّان مصر وشابّاتها، ومن خلفهم الغالبية الساحقة من شعبها، خاتمة ديموقراطية لأوهام الإسلام السياسي؟ فالاحتجاجات المليونية التي أطلقتها “حركة تمرد” ليس مطلبها عزل “الإخوان المسلمين” وإقصاءهم من الحياة السياسية، بل إخراجهم من شرنقة أوهامهم بأنهم أولياء أمر المؤمنين، بعدما حوّلت جماعتهم في مصر – على ما كتب عمار علي حسين – “تنظيمها الإيديولوجي إلى ما يشبه الكائن البيولوجي”.

سلام الى شبّان مصر وشاباتها وشعبها الثائر ضد تحويل التديّن عقيدة سياسية سلطانية مظلمة.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى