صفحات العالم

تجديد للزعامة بالقوة أم تمديد للحرب بالفعل!/ مطاع صفدي

 

ما يريده شعب سوريا هو إسقاط الحرب. لا يعني هذا أن الشعب قد تخلّى عن شعار إسقاط النظام. ذلك أن الحرب لا تسقط إلا بإسقاط عملائها الرئيسيين. ولقد كان النظام ليس هو الفاعل المحوري فحسب، بل المدبّر الأول لمقدماتها البعيدة، ولأسبابها المباشرة، والصانع لوسائلها، والقائد الموجه لأحداثها. كل هذه الوقائع المريرة لاتزال حية رهيبة، وتتابع مع كوارثها الدائمة. حتى تمثيلية الإستفتاء على رئاسة الأسد الثالثة فقط وقعت في ضواحي المعارك اليومية للجغرافية السورية اللاهبة. ما يريد أن يثبته النظام أنه هو سيّد الحرب والسلم معاً، ولكن كما يفهمها هو وأعوانه، وليس كما يدركهما الرأي العام العربي والدولي. فالفاشية المتسلطة متخصصة في فبركة الظواهر الكاذبة؛ فهي التي تنتجها وتكون أول المصدقين لأراجيفها، بالرغم من فضائحها العلنية. لكن الفاشية إن استطاعت مصادرة إرادات الناس، فسوف تعجز عن اغتصاب عقولهم. قد تُساق شرائح كثيرة من الجماهير طوعاً أو كرهاً إلى صناديق الإقتراع. ولعلّهم يعلمون أن أصواتهم لن تحدث فرقاً فيما هو قائم ومفروض بقوة الأمر الواقع وحده. فالإستبداد حسم أمره منذ القديم، لن تتوقف قراراته على ما يقبله الآخر، الوطن، أو يرفضه منها. تقلّص هذا الوطن، لم يعد يتسع إلا لبضعة قصور وقلاع للحكام، وسجونهم ومقابرهم.

فماذا فعلت إذن سنوات الدماء والخراب والمهاجر. لم تغير شيئاً من بنية الإستبداد، بل على العكس أظهرت كل وحوشه المنضوية تحت عباءته السوداء. برهنت على الأقل أن الإستبداد ليس سلطة حكم فقط، لكنه آلة هائلة لإعادة انبعاث فظائع التاريخ الإنساني في أظلم عصوره، مُجتمعةً وموجَّهة نحو شعب وحيد صغير. لم يعد الإستبداد عبر سنوات القحط الأخلاقي، حكراً للفئة الحاكمة الطاغية. فقد تعددت أجهزته المتسلطة. وحدّت شرائعَ الشر المطلق ما بين الكثير من الحدود المتعارضة للمعسكرات المتقاتلة. ضاعت أو خُطفت كلُّ الفروق المترسخة، من بداية البشرية، بين فئتيْ الجلادين والضحايا. بات تبادل الأدوار والمهمات بينهما مجرد أحداث يومية عادية. هذا الإستبداد، في نسخته السورية المتميزة لم يفجر «الفوضى» في السياسة فقط ما بين الموالين والمعارضين في المعسكرات، ما بين الطائفيين والأحرار، بل عمّم الفوضى في كل متحد إجتماعي أو ثقافي أو تربوي؛ كأنما الوطن، كل الوطن، أعلن الحرب على نفسه قبل أعدائه.

بات تعميم الفوضى سبباً موضوعياً لصعوبةِ، بل لإستحالةِ السيطرة عليها، وخاصة من قبل أي فريق من المتورطين في تسعيرها، أو في الإنجذاب إلى حرائقها. حتى حادثة التجديد لرئاسة بقايا الدولة فهي لن تشكل منعطفاً سياسياً فوق العادة، لن يترتب على نتائجها أية متغيرات درامية في يوميات الكارثة السورية المتمادية. فالنظام الذي أمضى سنوات الحرب وهو تحت وطأة التهديد بنهايته: يريد من الإستفتاء الإيحاء أنه قادر أن يفرض بداية أخرى لسلطانه بدلاً من نهايته المنتظرة. وقد جعل بعض أبواقه تصدح بشعارات عن التحول نحو السياسة وانفتاحها على القوى «الوطنية» الأخرى، بما فيها الكثيرون من أصناف المعارضة وألوانها. فالرجل مزمع أن يصبح قائداً للمصالحة الشعبية. كما كان قائداً منصوراً في الحرب(؟). فعلى أقطاب المعارضة إذن أن يستردوا مواطنيتهم في دولة الأسد، قبل أن يلجوا قصره في «المهاجرين». الفاشية لا تتقن مهراجانات الأهوال فقط، فهي كذلك صانعة الأوهام الجماعية، وتعرف كيف تجبر بعض الناس على تصديقها.

واقع التحولات شبه السريالية التي تنتاب الشعب السوري المعذب وهو يعيش الفظائع التي لم يعش مثيلاً لها أي شعب عربي آخر في هذا العصر، لا يمكن اختزالها تحت العناوين الزائفة التي يلصقها النظام بظواهره، كأنما يأمل صاحب النظام ليس فقط بتجديد ديكتاتوريته. ولكنه ينتزع اعترافاً شعبياً ببراءته من جرائم عهده الأسود. فهل هي سوريا الحقيقية التي تمنح جلاديها ورئيسهم صكوكَ البراءة هكذا من دون مقابل، سوى أنها قد ترضى بواقع الحال، وردّاً عن ذاتها من هجوم البدائل الأسوأ بكثير مما رأته وعانته حتى الآن؛ أهم دروس النكبة السورية المتفاقمة أنها تعجّلت بتقديم عينات ونماذج مرعبة عمن سوف يستولي على الحكم فيما لو تهاوى النظام الحالي. إنهم قُطّاع الرؤوس والأيدي، وسُجّان الحريات العامة، وأعداء الثقافة والحداثة، ومجاميع من شُذّاذ الآفاق، ومجانين القداسة الزائفة. هؤلاء الذين خطفوا ثورة الشباب الحر منذ بداية الإنتفاضة.وسوف يختطفون البلاد ومستقبلها وحضارتها في اليوم التالي على يوم التحرير من استبداد الفاشيين القدامى.

هذه المقارنة بين طغيانٍ راهن صار معروفاً بكل خصائصه، ومستنفذاً لمعظم إمكانياته، وبين أشكالٍ أخرى لطغيان مستقبلي مختَطِفٍ لثورة الحرية، مدمِّرٍ لمشاريعها، قاتل لرموزها، قد تختزل نوعاً من منطق تبريري لهذه الشرائح الجديدة من المتحولين عن المعارضة التلقائية إلى طوائف من أشباه المواليين وحواشيهم. ويحدث هذا في الوقت الذي تترنح فيه معظم جبهات القتال. وتتعاظم صعوبات التمويل والتسليح، حتى باتت أقرب إلى طبيعة الوعود المضلِّلة. في حين تتزايد الفروقات النوعية والسلوكية ما بين المعارضة واصطفافاتها المتفارقة فيما بينها، ومع الجبهات المسلَّحة. إنها تلك العِلَل الذاتية التي تنخر كيان الثورة منذ وقوعها في فخ الصراع العسكري الذي نَصَبَهُ لها النظامُ. ومنذ أن عجزت عن حراسة حدودها التنظيمية من أن تخترقها أفواج الجهاديات الصادقة أقلّها، والمرتزقة أكثرها. وتندسّ بين صفوفها أصابعُ الإستخبارات الإقليمية والدولية.

واليوم، ما بعد همروجة الإستفتاء القسري قد يتذكر البعض أن الرأي العام المتتبع لمسلسل النكبة السورية، كان يشغله سؤالان وإن هما وجهان لسؤال واحد، الأول يخص تطورات القتال في جبهاته المتعددة، والثاني يتناول أحوال النظام. لكن طيلة هذه الرحلة الدموية قلما توجّه السؤال العام نحو سوريا نفسها، ماذا يحل بها كدولة ووطن ومجتمع.. وإنسان؟ هذا التساؤل تحاشاه أطراف الأزمة في جبهات القتال، كما في صالونات السياسة. أما الرأي العام الإقليمي أي العربي والإسلامي المجاور، فيكاد تُشغله همومه المحلية، المضطربة في غالبية أقطاره. لكن يبقى الرأي العام الدولي الذي نصب أسيادُه أنفسهم أوصياءَ أبديين على قضايا عالمنا: فقد اعتادت مجتمعاته على ترك أمور مستعمراته القديمة لأجهزة مخابراته، فهي التي تقتنص المعلومات وترسم الخطط، وتكاد تصطنع ظروف التنفيذ، ثم توكل لساستها مهمات الإخراج والصياغة البلاغية، وحسم الصفقات السرية والعلنية. ماذا يحدث لسوريا الوطن والإنسان؟ هذا السؤال هو البؤرة الإستفهامية الوحيدة التي يتفق جميع أفرقاء الأزمة على طمسها، ومحو آثارها الفعلية من أحداث كل ساعة. وآخر واقعة في المسلسل الإنتكابي عينه كان هو «الأمر اليومي» هابطاً على رأس الشعب، وهو أن يطلق الرصاص هذه المرة ابتهاجاً باستمرار عهد الإستبداد لسبع سنوات قادمة.. وما بعدها طبعاً. فلا فكاك لسوريا الوطن من أن تظل حكراً ونهباً مباحاً للصوصها الكبار المعهودين. وأن تظل سوريا المجتمع غاباً لتنافس فئات المصالح والإقطاعيات والطوائف. وأن تظل سوريا الإنسان سجناً كبيراً لأحرار القلب واللسان ولكل مظلوم رافض للظالم ولأعوانه.

هل بات شعب سوريا أسيراً مختاراً لنوع من الإستبداد ضداً على أنواع أخرى منه هو عينه. فالحنين إلى صيغة الدولة المستقرة، ليس مؤدّاه العفو الطوعي أو الإجباري عن سُرّاقها وخاطفيها. فمن حق كل مظلوم أن يرفع السوط عن كاهله، لكنه لن يكون مخولاً بتبرئة اليد الممسكة بالسوط وصاحبها. حقه ذاك هو جزء لا يتجزأ مما يُعرف بمصطلح الحق العام. وهو شأن لن تغطيه مهرجانات الطغاة، بل على العكس تؤكد من جديد مشروعيته ليس في عين فئة، أو حتى في عين شعب، بقدر ما هو حقيقة مطلقة، شكّلت أوسع وأعمق حماية لوجدان الإنسانية عامة في كل العصور.

٭ مفكر عربي مقيم في باريس

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى