صفحات الناسضحى عاشور

تحت البلاطة/ ضحى العاشور

 

 

“إنصاف لابن عمّها جمال”، جملة ولدت مع إنصاف، ورافقتها مثل إعاقة أليمة أليفة لا سبيل للفكاك منها. كان جمال راضياً عما امتلكه وهو صغير، لكنه أيضاً كان زاهداً بمُلك لم يسعَ له ولم يطلبه أصلاً. فما إن اشتدّ عوده حتى لملم ما استطاع من أموال الناس المكتتبين على شقق سكنية في جمعيته الوهمية، “التضامن”، وفرّ هارباً، مشهراً إفلاس شركته، مخلفاً وراءه فواجع وجراح طالت نحو مئة أسرة تجرأت على الحلم المشاغب بالسكن في شقة مستقلة عن بيت أهل الزوج.

“أخرِجوا ما تحت البلاطة”، كلمة السرّ التي التقطتها إنصاف وفتحت بها أبواب بيت المال أمام جمعية ابن عمها المزعومة. بضع كلمات آمرة واثقة تعرف “البئر وغطاه”، حيث لم يعتد ناس ثمانينات القرن الماضي إيداع مدخراتهم البسيطة في “مصرف سوريا المركزي”، رغم محاولاته البائسة لحثهم وتشجيعهم، عبر طرح “شهادات استثمار” و”حسابات توفير” تتيح بعض الفوائد، واحتمالات ربح جوائز سحب.. إلخ.

الكثير من الأسر كانت تخشى التعامل مع المصارف بسبب عُرف ديني مفاده تحريم الاستنفاع بالفوائد والأرباح على مال مجمّد. والحال أن معظم أموال مصرف الدولة لم تزل مكدّسة دون توظيف على غير عادة مصارف دول العالم! هذه الخاصرة الضعيفة في الهيكل المصرفي كانت المدخل المُفضل عند النساء

حكاياهنّ

لإقناع الأزواج باستبقاء المال في المنزل، ما يُتيح لهن تسريب بعضه وتخزينه في مخابئ غير مألوفة ضمن حشوات الفراش أو في بطون أكياس المونة وسواها من الأماكن السرّية التي يُشار إليها باسم “تحت البلاطة”.. خاصة أن السوريات غير المنتجات عموماً يتحرّجن من إيداع أموال باسمهن يقتطعنها من مصروف البيت غالباً، وإن قادتهن الحيلة إلى إيداعها بأسماء أولادهن مثلاً، فقوانين المصرف واقفة لهن بالمرصاد، إذ تسمح للمرأة أن تضع مالاً باسم أولادها، لكن تمنعها من سحب هذا المال، فالأب هو المسؤول عن أولاده قبل بلوغهم الثامنة عشرة، وهو الذي يتصرّف بأموالهم حتى لو كانت الأم هي من وضعت المال في حساباتهم.. بصرف النظر عن مصدره، سواء كان عملها أو إرثها أو هدايا الأقرباء أو مصادر أخرى شائعة في بلدنا، كالقطع الذهبية التي تغتنمها من الزوج أو أمه بعد معارك مضنية وخناقات ومناكدات، تبدأ باستخدام السلاح الأبيض مثل الإضراب التصاعدي الذي يبدأ بالامتناع عن الابتسام ثم عن الكلام وبعده عن الطعام، يليه الإضراب عن العمل المنزلي والواجبات الزوجية، وصولاً إلى تصعيد “النضال” بالأساليب العنفية اللفظية أو الحركية التي تسفر عن بعض الاشتباكات الساخنة مع الأولاد أولاً لتهدّد بإشعال الحرب في البيت كله. ما يستدعي تدخلاً سريعاً لإطفاء نيران الغيرة من الجارات والقريبات، أو لهيب الحقد الدفين على المردود البخس الذي تجنيه لقاء الخدمة المنزلية المؤبدة بأجر لا يتجاوز قيمة طعامها وسكنها والضروريات. ثمة مصادر أخرى للمال، لكنها محفوفة بالمخاطر زيادة على كونها مُهينة للنفس، ألا وهي مدّ اليد إلى جيب الزوج أو الكذب عليه والمبالغة بأسعار بعض الحاجات النسائية التي يخجل السؤال عن ثمنها، وغيرها كإدعاء الإصابة بأمراض نسائية حيث لم يكن وارداً وقتذاك مرافقة الرجل لامرأته إلى الطبيبة النسائية أو القابلة (الداية).

شتان بين إنصاف ولولشان

في حكاية “لولشان” المنتشرة في المشرق العربي بنسخ مختلفة، تهرب هذه إلى السماء ومن هناك تمّد شعرها الطويل جسراً يتسلّقه حبيبها ليصل إليها. هكذا فعلت إنصاف ومثيلاتها اللواتي يعرفن بالحدس وبالعقل والمنطق ربما، كيفية بناء الجسور بين الأمنية ووسائل تحققها. فلم يفتها أن تجدل وعودها في ضفيرة متراصة لتكون حبل نجاة يطمئِن قلق جمال وتهّيبه من الارتباط بها. لكنها ضربت صفحاً عن ملاحظة أن الشَّعر الذي تحول إلى جسر في الحكاية كان متجذراً في الرأس، ينبع منه ويصّب فيه. أما ضفيرة إنصاف فكانت تنبع من بركة آسنة لحنين مبهم إلى أيام الصبا وأوهام الحب المقّدر والمكتوب على الجبين، ولا تفضي إلا إلى مخاوف تأتيها في الكوابيس بصورة أفعى هائجة تسعى لبّث سمومها في جسدها، لتستيقظ غارقة بالعرق والخزي والدموع فتشهق: الله يلعنك يا جمال!

المشايخ الدراويش الذين يجوبون منطقة ما وراء الجامع الكبير في حلب، عادة ما يتناهبون “الزبونات” المعذبات، مهدّدين: “فكّي الصرّة قبل ما تنزل عليك الضرّة”، و”إذا مرادك تعيشي برضا طالعي ما تحت البلاطة”.

لكن هيهات، ومن غيره في عالمها لتناجيه وتسترضيه وتبثّه تفاصيل شقاءاتها اليومية، فتراها ترجع تائبة متوّسلة: أين أنت يا جمال؟ حتى الملائكة حفظت اسمك لكثرة ما ناشدْتُك أن تعود، أشتهي منك كلمة تطعم صبري لأقوى على انتظارك، لقد نذرت عمري لك..

لم يفلح الدعاء ولا الرجاء في استعادة جمال، ولا استطاعت العرّافات ولا قارئات الكف أن يحدّدن ميعاد ظهوره المتمدّد من يومين إلى شهرين أو عقدين، كما فشلت كتب تفسير الأحلام في استرجاعه، وقبلهم سئم إلحاحها المشايخ الدراويش الذين يجوبون منطقة ما وراء الجامع الكبير في حلب، والذين عادة ما يتناهبون “الزبونات” المعذبات، يستقبلونهن بهوس التكّسب مهدّدين: “فكّي الصرّة قبل ما تنزل عليك الضرّة”، و”إذا مرادك تعيشي برضا وبساطة طالعي ما تحت البلاطة” أو “مدّي يدك على عبّك (أي صدرك) خلّي الله يحبك”.. حتى فناجين القهوة ضجرت من أوهام إنصاف (التي امتهنت حرفة قراءة الفنجان) وأخذت تعاقبها بتكرار الخطوط المتشابكة المقطعة والغيوم السوداء الكثيفة. فبعد كلّ حساب، للقهوة كبرياءها الذي تعتّز به وهي تختال متمايلة في أيدي عشاقها، ولم تعدْ تتسامح مع مزاج إنصاف الكئيب الذي يتعجل قلب الفناجين على قفاها ويسفح دون تقدير آخر الرشفات وأطيبها! ليتك يا إنصاف تحاكين كرامة قهوتك التي تهدرين.

يوم الانقلاب

وصلت الصبية العشرينية إلى بيت إنصاف بهدف استكمال بحث عن زواج الأقارب وخطورته على صحة الأبناء مستقبلاً. لم تكن تدري أن معلومة عابرة سترميها جزافاً سوف تصيب مقتلاً عند إنصاف، لكن ليحييها بدل أن يُميتها، ما دام الوهم هو القتيل، فأهلاً بموته. قالت الفتاة في سياق شرحها الطويل هذه الجملة: في الغرب يكاد زواج الأقارب أن يكون محرماً وخاصة من أولاد العمومة الذين هم بمثابة الأخوة الذين يحّرم الزواج منهم!

عقلك براسك تعرف خلاصك

بلى، كل شيء يبدأ من الرأس! تردّد إنصاف مبهورة باكتشافها الجديد. ومن هو جمال؟! إنه ابن عمي الذي كان بديل أخي الذي لم يولد، هو رفيق الطفولة والشقاوات، وهو اليافع المتهور والشاب المحتال الذي سرق أهله وجيرانه ومعارفه البسطاء وسخرّني لخدمة مآربه الوضيعة دون أن يكلف نفسه عناء شرح أو تفسير أو اعتذار، وهو جمال الذي أشّك إن كان جميلاً وأنا التي أغمضت عيني عن سواه وتبعته كظله. غير أنه كأخ لا أقدر على نكرانه، كما يستحيل أن أتزوجه حسب مشيئة أبي وعمي الحريصين على بقاء ارث العائلة داخلها بدل أن يذهب لغريب قد أتزوجه.

سنوات مضت والمشغل الصغير يكبر على مهل. عادت النساء إلى مرحهن وكدّهن، واثقات، ولو منهكات تحت وطأة العمل في المنزل وخارجه.

أخرِجوا ما تحت البلاطة

تعالوا نشرب قهوة، دعت إنصاف معارفها وصديقاتها، لن نقلب الفناجين بعد الآن، وسأُحرِّم على نفسي بيع الوهم لكنّ. تعالوا نتشارك في مشغل خياطة صغير ونتقاسم العمل والربح. سنصرف كما نشاء من أموالنا على أنفسنا وأولادنا، لن نستجدي أحد، ولن نخبئ “قرشنا الأبيض ليومنا الأسود”، ليس هناك أسودَ من يومنا الذي جعلنا نسرق ونكذب ونمتهن النكّد والتذمر والتذلل، ليس أبشع من أن تسرقي زوجك لتشتري رضاه عنك من بياعي الوهم، ولا أقذر من أن أشترك بجريمة نصب واحتيال (دون علمي) بداعي الوفاء للحبيب.

سنوات مضت والمشغل الصغير يكبر على مهل، عادت النساء إلى مرحهن وكدّهن، واثقات ولو منهكات تحت وطأة العمل في المنزل وخارجه.

ــ الفضل لك يا إنصاف خانم، أنت أم الكل، صحيح ما رأيك أن نسمّيك أمّ… ماذا تقترحين؟

ــ أي اسم، إلا أم جمال، رغم أن له في القلب حبّة.

ــ قولي ندبة!

ــ الله يسامحنا جميعاً، إلى العمل يا بنات.

* كاتبة من سوريا

السفير العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى