صفحات الناسعارف حمزة

تحت خط الفقر بكثير

عارف حمزة

كنتُ أظن أنّ فقراء أفريقيا يتفسّخون، في انتظار الرحمة، تحت سياط شمس أفريقيا المداريّة، وسياط أمطارها المداريّة القويّة، إلى أن ذهبنا إلى جنوب الحسكة؛ حيث وجدنا هناك أطفالاً ببطون منتفخة، وينظرون إلينا بعيون بقر وحشيّ. حدث ذلك في عام 2002 عندما جاءت مجموعة من منظمة الأغذية العالمية و»اليونيسيف« للاطمئنان على خطة توزيع السلاّت الغذائيّة في منطقة «جنوب الردّ» التابعة لمحافظة الحسكة، حيث توجد قرى فقيرة جداً هناك، ولا توجد لديهم أدنى الخدمات، التي يُمكن المحافظة فيها على كرامة حيوانات الرعي حتى! وكنّا كمتطوّعين نذهب معهم، للمرّة الأولى، بعد ستة أشهر من بدء البرنامج الإغاثي في توزيع عشرين كيلو طحين وعشرين كيلو أرز وعشرة كيلوات من السكر وعشرة ربطات من المعكرونة وسمن وزيت كسلة غذائيّة شهريّة كافية لكلّ عائلة، لنكتشف بأنّ المفرزة الأمنيّة، المتواجدة هناك للحفاظ على اسم الدولة، كأوّل الخدمات الأبديّة حتّى قبل وصول الكهرباء والمدارس والصرف الصحيّ، قد وزّعت في الأشهر الست الماضية كيلو طحين وكيلو رز ونصف كيلو سكر شهريّاً فقط لكلّ عائلة!. لذلك أصبنا بالذعر عندما كادت الناس أن تقبّل أيادينا ونحن نوزّع عليهم تلك الكميات الضخمة، التي كان رجال الأمن يسرقونها من أفواههم، بلا أدنى شعور بحاجة أولئك الفقراء. كيف كان يصل بهم الأمر لسرقة طعام الفقير؟ وعندما مات الأطفال من الجوع، كيف لم يتحرّك فيهم ضمير واحد لإخراج علب حليب الأطفال المسروقة لإنقاذ حياة بقيّة الأطفال الفقراء، الذين كانوا لا يتأخّرون عن اللحاق بأقرانهم. ثمّ إذا تطوّع الكبار لسلوك طريق الجريمة، من أجل إنقاذ حياة عائلاتهم، وفق تدريبات الأحقاد على كلّ شيء، تنزل بهم أقصى العقوبات، لمجرّد أنّهم قلّدوا رجال الأمن، الذين لم يُحاسبهم أحد على أفعالهم الشنيعة تلك؟

بكت الصبية الألمانيّة عندما علمت أنّ جلّ الغذاء الذي يتناوله الأطفال، وعائلاتهم هناك، هو الخبز والشاي. ولم تتابع أسئلتها حول ضعف الأطفال الرضّع، وانتفاخ بطونهم بشكل واضح، عندما اكتشفت، بنظرة خبيرة منها، منها ضمور الأثداء لدى الأمهات بسب الجوع الشديد. الصبية الألمانيّة بكت، بينما أبطال المفرزة الأمنيّة كانوا يتابعون حساباتهم في عروق أولئك الفقراء.

كنّا نشتري من أكشاك المدينة الجامعية في حلب علب تونا كبيرة مكتوب عليها «هدية من طلاب جامعات الدانمرك إلى طلاب جامعة حلب»!. كنّا فقراء حتّى في جامعاتنا، يا إلهي. وكانوا يشحذون باسمنا وعلى حسابنا في أرجاء المعمورة، ثمّ يبيعون هدايا الفقراء تلك لأولئك الفقراء. في هذه الحالة كان كبار الوزراء يُقلّدون أبناءهم في المفارز الأمنيّة في نهب الشعب، والحطّ من قدره.

ثمّ جاءت هذه الحرب الشرسة على الشعب سريعاً، وصارت القنوات الحكوميّة تتبجّح بأنّ الحكومة توزّع آلاف السلات الغذائيّة على المواطنين في المناطق المنكوبة، بينما كانت تصل من الخارج وليس من الحكومة، بعد نهب الكثير منها، وأخذ العمولات من المنظمات كي تسمح لها بالوصول لفقرائها من المواطنين!!. وكان الشرط الأكبر من تلك المنظمات عدم إشراف «الهلال الأحمر السوريّ» على تلك الإغاثات، بسبب السمعة السيّئة ، ويا للأسف، في كونها منظمة حكوميّة، غير مستقلّة، مرتبطة بالأجهزة الأمنيّة مباشرة، وكذلك بسبب السرقات والأخطاء العمليّة في التجارب السابقة. وبسبب الرفض المتواصل من الحكومة السوريّة لهذا الشرط، تم الرضوخ من قبل تلك المنظمات التي كانت تفكّر بالفقراء أكثر من خوف الحكومة الوطنيّة عليهم!

تقول المنظمات ذات الصلّة بأنّ نصف الشعب السوريّ صار تحت خط الفقر. وهذا خطأ جسيم؛ لأنّ هذه النسبة، أو قريباً منها، كانت تحت خط الفقر منذ عشرات السنين، مع تعاظم منظومة الفساد في البلاد، بينما صار أكثر من ثلثي الشعب السوري، بعد هذه الأشهر الطويلة من الحرب على جميع الأصعدة، تحت خط الفقر بكثير. فعند قصف منطقة بالمدفعية والطيران لم يكن لدى كثير من العائلات ثمن إيجار حافلة للنجاة بأرواحهم!. الى هذا الحدّ وصل الضنك على الشعب. ففي الوقت الذي هربت العائلات من المدن والمناطق المنكوبة بمدّخرات حياتهم، تم نهبهم من قبل عناصر الحواجز والشبّيحة، فمضوا في طريق النجاة بجيوب فارغة، ثمّ سيجهدون في أماكن النزوح كي لا يبيعوا أطفالهم، أو أجسادهم، من أجل لقمة العيش. وإذا عادوا الى بيوتهم سيجدونها مدمّرة، أو منهوبة، ليبدأوا حياتهم، إن بقوا أحياء بالصدفة، من تحت الصفر بكثير أيضاً.

ثمّ تطوّرت الأمور لجعل مناطق النزوح نفسها، التي لم تتعرض للدمار الشامل بعد، وكانتقام من النازحين ومستقبليهم، منطقة غلاء فاحش، بتضافر جهود التجارة السوداء، وامتناع الحكومة عن التفكير بالشعب. وليس سراً أنّ كبار التجّار، ومستوردي المواد الغذائيّة والطبيّة والعسكريّة، هم من البطانة الحاكمة، وهم مَن يلعبون بالليرة والدولار، في تهديد واضح لتدمير الشعب السوري، بثلثيه على الأقل في الباطن، وليس الاقتصاد السوري كما هو الواضح في الظاهر؛ لأنّه أصلاً لم يكن هناك اقتصاد سوريّ بالمعنى الحقيقيّ للمصطلح الاقتصاديّ؛ طالما كان الأمر مبنيّاً على براعة الناهبين والفاسدين، كأشخاص أكبر من الدولة نفسها، ولم يكن الأمر متعلّقاً بالخطط أو برامج التنمية.

كان الفقراء يزدادون في الماضي فقراً وعدداً، والأغنياء يزدادون، من عائلات ومناطق معينة، غنى وجشعاً، بينما صار الفقراء يموتون بهناءة الآن. بهناءة بقر وحشيّ بريء.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى