صفحات الناس

“تحرير الشام” و”تحرير سوريا”: المواجهة المصيرية/ عقيل حسين

 

 

لطالما بدت المواجهة متوقعة بين “حركة نور الدين الزنكي” و”هيئة تحرير الشام”، لكنها غدت حتمية بعد الإعلان عن تشكيل “جبهة تحرير سوريا” من اتحاد “الزنكي” و”أحرار الشام الإسلامية”، منتصف شباط/فبراير. الأمر الذي دفع قيادة “تحرير الشام” لاستعجال هذه المواجهة، مستخدمة كل ما في جعبتها لتبرير البدء فيها؛ لا لاقناع الرأي العام الذي أصبح خارج الحسابات تماماً، بل لاقناع مقاتليها ومن يمكن جذبه من المقاتلين غير السوريين “المهاجرين” المنفضين عنها مؤخراً. وذلك للمشاركة في هذه المعركة المصيرية، ليس فقط بالنسبة لـ”الهيئة”، بل أيضاً بالنسبة لـ”الجبهة” الوليدة، التي كانت ستهاجم “الهيئة” وتفككها كهدف استراتيجي، متى وجدت نفسها قادرة على ذلك.

والهدف من الإعلان عن تشكيل “جبهة تحرير سوريا” كان لإعادة التوازن مع “هيئة تحرير الشام” في الشمال السوري، بعد الهيمنة غير المسبوقة هناك لـ”الهيئة” منذ الحاقها الهزيمة بـ”حركة أحرار الشام” منتصف العام 2017. منذ ذلك الوقت، بقيت جيوب عصية على “الهيئة”، هنا وهناك، أهمها وأكثرها خطورة الجيب الواسع والقوي لـ”حركة نور الدين زنكي” في ريف حلب الغربي.

المخطط الاستراتيجي بعيد المدى بالنسبة لأبو محمد الجولاني، زعيم “تحرير الشام”، وفريقه، كان القضاء على تلك الجيوب بأقل تكاليف ومن دون أي تعجل، طالما أن أياً منها لا يشكل خطراً على هيمنة “الهيئة”. فإذا كان الوضع السياسي الجديد، بعد هزيمة “الأحرار”، قد فرض “تحرير الشام”، على المجتمع الدولي كقوة أساسية في المسألة السورية، كما يعتقد قادتها، فلماذا قررت التخلي عن حذرها، واستعجال الهجوم على “تحرير سوريا” و”حركة نور الدين زنكي”؟.

خلال العام 2017، حققت “تحرير الشام” مكاسب عسكرية وسياسية مهمة، وأصبحت القوة الأولى ميدانياً على الأرض في الشمال، بعد نجاحها في تدمير أو تقويض معظم الفصائل هناك، كما أنها في الجانب السياسي، نجحت بتسجيل تطورات غير مسبوقة بالنسبة لفصيل جهادي، في ضوء تحكمها بملفات اعتقدت أنها كافية لتفرض على العالم القبول بها والتعامل معها كقوة أمر واقع على الأقل. ومن هذه الملفات أو في مقدمتها، تمركز قوات تركية في الشمال بالتنسيق معها، واتفاق “المدن الأربع” مع إيران، بما في ذلك الجزء الحساس المتعلق ببلدتي كفريا والفوعة الشيعيتين في ريف إدلب، وذلك، بالإضافة إلى الملف الأمني، خاصة في ما يتصل بخلايا “داعش” و”تنظيم القاعدة” في الشمال السوري.

وجعل ذلك من “تحرير الشام” مستعدة لفعل أي شيء يحول دون قيام أي فصيل قوي بقلب الطاولة عليها، وفرض نفسه كقوة معتبرة ترفض أن تكون تابعة أو خاضعة لها، فكيف إذا تعلق الأمر بتنظيم يحمل مشروعاً فكرياً وسياسياً مناهضاً، وله قوة معتبرة على الأرض وقبولاً شعبياً وإقليمياً؟ عدا عن الدعم والرعاية التي حظيت بها “تحرير سوريا” الوليدة، من شخصيات ومؤسسات إسلامية وازنة يمكن أن يُشكّل دعمها لـ”الزنكي” و”أحرار الشام”، عامل قوة كبير للحركتين، حتى وإن اقتصر تشكيلهما الاندماجي على مجرد تحالف مؤقت، ولم يصل إلى مرحلة اندماج كامل كما هو متوقع أيضاً.

“هيئة تحرير الشام” كانت قد خسرت الغالبية العظمى من “المهاجرين” والجزء الأكبر من غطاء التيار السلفي الجهادي لها، مؤخراً، واستغنت عن دعم وتمويل الكثير من المؤسسات والجمعيات والشخصيات السلفية الجهادية والحركية الإسلامية، خاصة من منطقة الخليج، ممن سبق وقدمت لـ”جبهة النصرة” وغيرها من الفصائل دعماً كبيراً في المواجهة والمفاصلة مع “الدولة الإسلامية” خلال السنوات الأربع الماضية، وفي مقدمتها “التيار السروري” و”تيار الأمة”. وذلك طبعاً، بعد الواردات الكبيرة التي تحصّلت عليها “الهيئة” من “اتفاق المدن الأربع”، بالإضافة لسيطرتها على المعابر التجارية. وفي الوقت الذي خرجت فيه “أحرار الشام” من دائرة الفعل، استطاعت “نور الدين زنكي” أن تقدم نفسها لكل تلك الجهات كبديل قوي وقريب فكرياً، ومنفتح في الوقت نفسه على التوحد مع “أحرار الشام”، الابن المدلل للتيار السلفي الحركي في العالم الإسلامي. وهو أمر لا يمكن لهذا التيار الغاضب جداً من الجولاني و”تحرير الشام” تفويته، ما عجل من اتمام صفقة “جبهة تحرير سوريا”، بحسب معطيات متقاطعة.

وهنا لا بد من الإشارة إلى الدور الكبير الذي لعبه من يمكن تسميتهم بـ”اصلاحيي” التيار السلفي الجهادي في إنجاح هده الصفقة، وهو دور يعتبر حاسماً. إذ كان الكويتي علي العرجاني، والسعودي ماجد الراشد، على رأس فريق من الجهاديين القدماء المنشقين عن المنشقين عن تنظيم “القاعدة”، على رأس طاولة المفاوضات خلال الأسابيع الأخيرة الماضية، من أجل اتمام عملية التوحد والاندماج بين “الزنكي” و”أحرار الشام”.

وعلى الرغم من أن الجولاني وفريقه لم يعد لديهم في الفترة الأخيرة تأثير كبير على المهاجرين، ولا أي آمال بعد الفشل المدوي في ايقاف انشقاقاتهم عن “الهيئة” التي تصاعدت خلال الإشهر الخمسة الماضية، إلا أن بيانات “تحرير الشام” حاولت باستمرار استغلال هذا الوتر الحساس، كعادة مختلف الجماعات الجهادية. إذ ركزت “الهيئة” بشكل واسع على قضية مقتل أحد شرعييها، أبو أيمن المصري، على أحد حواجز “الزنكي” قبل اسبوع تقريباً من اندلاع المواجهات، كما اتهمت غير مرة “الزنكي” بتأسيس خلايا اغتيال لقادتها وللمقاتلين “المهاجرين” بالتعاون مع “جيش الثوار”، بالإضافة إلى العديد من التهم الأخرى التي تصب في إطار تجييش “المهاجرين” واستقطابهم للقتال ضد “جبهة تحرير سوريا”.

إلا أن قيادة “الزنكي”، أبدت مرونة في التعامل مع موضوع المُهاجرين، بشكل مسبق وذكي، فاستقبلت العديد من قادة “المهاجرين” من التيار السلفي الجهادي؛ عبدالله المحيسني، ومصلح العليان، وعبدالرزاق المهدي، وعرضت عليهم أدلتها التي تقول إنها تؤكد زيف ادعاءات “هيئة تحرير الشام” ضدها. وهي جهود كانت “الزنكي” تحتاج للقليل منها كي تكون مقنعة لهذا التيار، بالنظر إلى التوتر الشديد والسلبية الطاغية على علاقة “هيئة تحرير الشام” مع قادة الجهاديين في سوريا، المستقلين منهم والمؤيدين لـ”القاعدة”، على حد سواء.

التعليق الذي أدلى به المسؤول عن المقاتلين المغاربة المنشقين عن “هيئة تحرير الشام” عبدالرحمن المغربي، على تصريحات الشرعي العام لـ”الهيئة” عبدالرحيم عطون، في ما يتعلق بالتطورات الأخيرة بين “الهيئة” و”الزنكي”، قد يُسهمُ في توجيه ضربة أخرى لمصداقية رواية “تحرير الشام”. إذ اعتبر المغربي أن تصريحات عطون، وبيانات “الهيئة”، إنما تأتي ضمن “سلسلة من الأكاذيب” دأب عليها الجولاني وفريقه. وقد يسهم ذلك لا في التأثير على مساعي “الهيئة” لاستقطاب مقاتلين مهاجرين إلى جانبها من أجل خوض المعركة الجديدة مع “جبهة تحرير سوريا”، بل أيضاً على استجابة مقاتليها السوريين، الذين ضاعفت المؤسسة الشرعية في “الهيئة” جهودها خلال الأيام الثلاثة التي سبقت المواجهات في أجل ضخ أكبر كمية ممكنة من الدعاية من أجل اقناعهم بخوض هذه المعركة.

ويُعتقد بأن كل ذلك كان مؤشرات مهمة لـ”هيئة تحرير الشام”، دلت على مدى الخطورة التي باتت تشكلها بالفعل “جبهة تحرير سوريا”، الأمر الذي دفع الجولاني ومجلس قيادته للتعجيل باتخاذ قرار المواجهة مع “الزنكي”. وتجنبت “تحرير الشام” في إعلامها الرسمي والرديف، أي اشارة إلى “جبهة تحرير سوريا”، في رغبة منها لتحييد “حركة أحرار الشام” عن هذه المواجهة التي لا يمكن التقليل من صعوبتها، والتي أصبح واضحاً أنها وجودية، ومعركة مصير بالنسبة للطرفين، مهما تدثرت بمبررات وذرائع، حقيقية أو زائفة. معركة على عكس ما يعتقد الجميع تقريباً، ستكون طويلة، ومن الصعب توقع المنتصر فيها.

المدن

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى