صفحات المستقبل

تحـــــــــوّلات العَلَم السوري!

عبير حيدر *

تعرض العلم السوري للتغيير مرات عديدة خلال تاريخ سوريا الحديث. في العام 1918، كانت سوريا أول دولة عربية ترفع علم «الثورة العربية» بألوانه الأربعة (الأبيض، الأخضر، الأسود، الأحمر) فوق مبنى البلدية في ساحة المرجة. سرعان ما رفضته فرنسا وبدلاً منه فرضت علماً أزرقاً، (لون راية مدينة باريس) في زاويته العلوية عَلم فرنسي صغير كرمز للانتداب، وذلك عند إعلان حكومة دمشق 1920. ومع تشكيل أول جمعية تأسيسية في سوريا عام 1928، أقرت لجنة صياغة الدستور برئاسة المجاهد إبراهيم هنانو في البند الرابع منه شكل ولون العلم السوري كالتالي: «يكون طوله ضعف عرضه ويقسم أفقياً إلى ثلاثة ألوان متساوية متوازية، أعلاها الأخضر فالأبيض فالأسود، على أن يحتوي القسم الأبيض في خط مستقيم واحد على ثلاثة كواكب حمراء ذات خمسة أشعة». إضافة إلى بنود أخرى تؤكد أن سوريا دولة واحدة غير قابلة للتجزئة ونظام الحكم جمهوري برلماني. رفضت فرنسا الدستور الذي يحدد صلاحياتها كدولة منتدبة، وعطلت بسببه الجمعية التأسيسية، فعمت الاحتجاجات والإضرابات البلاد رفضاً لتلك الإجراءات، ما أجبر فرنسا على الانصياع لطلب القوى الوطنية السورية وتم إصدار الدستور كاملاً مع الإبقاء على مواده الأساسية في أيار 1930، حيث رُفع العلم السوري المنصوص عليه في الدستور لأول مرة في سماء سوريا في حزيران 1932، كما رفرف عالياً بعد جلاء الفرنسيين عن الوطن في 17 نيسان/ابريل 1946. وبقي هذا العلم نفسه معتمداً في المادة السادسة من الدستور الأول الصادر بعد الاستقلال في 5 أيلول/سبتمبر 1950، واستمر حتى الوحدة بين سوريا ومصر 1958، حين اُستبدل بعلم الجمهورية العربية المتحدة وهو «علم مقلم طولياً أحمر فأبيض فأسود مع نجمتين خضراوين في الشريط الأبيض). إلا أن الخلاف مع مصر وإنهاء الوحدة أعاد إلى سوريا علمها القديم، وظلت تستخدمه حتى مرحلة التقارب مع حزب البعث في العراق سنة 1963 الذي أدى إلى أن تتشارك الدولتان العلم نفسه «علم مقلم طوليا أحمر فأبيض فأسود مع ثلاث نجمات خضراء». بعدها استخدم علم آخر لفترة وجيزة إثر الوحدة التي ضمت سوريا ومصر وليبيا وذلك في العام 1971، قبل أن تعود سوريا إلى علمها الحالي ـ علم الجمهورية العربية المتحدة ـ الذي اُتخذ قرار باعتماده بعد تعديل المادة السادسة من دستور عام 1973 بالقانون رقم 2 تاريخ 29/3/1980.

مع الانتفاضة الشعبية في 15 آذار/مارس 2011، كان الفعل الأول والمعبر عن تمايز الحراك الشعبي عن النظام هو رفع علم الاستقلال من قبل المتظاهرين. وبعد مرور قرابة العامين، بدأ علم الثورة يظهر في بعض المناسبات الخاصة بالحراك الشعبي، مضافاً إليه عبارة «الله أكبر»، ما أثار نقاشات حادة بين الناشطين والنخب السورية، بين مشجع لهذه العبارة ورافض لها، لا سيما مع بروز الجماعات ذات التوجه الإسلامي، وخاصة «جبهة النصرة» السلفية في مشهد الحراك المسلح. فالثوار الذين رفعوا في بداية التظاهرات الهلال إلى جانب الصليب وحملوا القرآن إلى جانب الإنجيل، مرددين شعار «الشعب السوري واحد»، كان هدفهم الأساس التأكيد على وحدة نسيج الشعب السوري ووحدة مصيره وتحقيق حلمهم المنشود ببناء دولة المواطنة الديمقراطية.

إن إضافة عبارة «الله أكبر» الإسلامية في جوهرها على علم الثورة في مجتمع هو خليط من الطوائف والمذاهب، ظهر كبداية شرخ في الوحدة المجتمعية الداخلية وتغريب لفئة من مواطنيها. فشكل العلم ولونه يجب أن يحتكم إلى الدستور الذي يحدد طبيعة الدولة وشكل المشاركة السياسية فيها، والواجب تشكيله حالما يسقط النظام بالاتفاق بين ممثلين عن كل ألوان الطيف السوري. لقد ترافق وجود عبارات دينية على بعض أعلام الدول العربية وغيرها، بظروف سياسية محددة كالحالة في العراق، حيث أضاف نظام صدام حسين عبارة «الله أكبر» على علم العراق في 14 كانون الثاني/يناير 1991، بعد اجتياح الكويت، في محاولة لتأجيج مشاعر العراقيين للالتفات حوله وللحصول على دعم العالم الإسلامي. مثلما كان الأمر في نشأة الدولة السعودية التي اعتمدت «نص الشهادتين» على علمها الأخضر الذي هو في الحقيقة علم الحركة الوهابية قائدة الدولة فكراً وممارسة. كما أن دولة باكستان اعتمدت على علمها الأخضر نجمة وهلالاً كرمز لهويتها الإسلامية بعد انفصالها كممثلة للغالبية المسلمة في شبه الجزيرة الهندية. وأما إيران فلم تستخدم كلمة «الله» وعبارة «الله أكبر» على علمها إلا بعد انتصار الثورة الإسلامية وإعلان الجمهوريةً الإسلامية.

مع أن هناك دولاً أوروبية تحمل أعلامها رموزاً دينية، إلا أن دساتيرها تكرس علمانية الدولة وفصل الدين عن الدولة. فعلى سبيل المثال، يعكس علم جمهورية ايرلندا، بلونيه البرتقالي والأخضر، طبيعة التنوع المذهبي في المجتمع الايرلندي بين طائفتين رئيسيتين (البروتستانت والكاثوليك). ومع هذا فدستورها يعتمد القانون المدني. ولا بد من الإشارة إلى أن إسرائيل من الدول التي يحمل علمها رمزين دينيين هما نجمة داود تتوسط خطين أزرقين مستوحيين من شال الصلاة عند اليهود، ما يؤكد الفكر الديني للدولة الذي يستثني كافة السكان من غير اليهود، وخاصة مع وجود حوالي مليون ونصف مليون فلسطيني (مسيحي ومسلم) كمواطنين في الدولة. معظم الدول التي حملت أعلامها رموزاً وعبارات دينية أملتها ظروف سياسية واجتماعية، فإما لأنها كانت تعيش حالة من الصراع الديني والمذهبي شكل نواة استقلالها، أو لكونها أعلنت نظام الحكم الديني في دساتيرها. وهذا يختلف عما قامت من أجله الثورة السورية، فلا هي اندلعت على أساس ديني أو مذهبي، ولا قامت من أجل إعلان سوريا جمهورية إسلامية. فهي بدأت وما زالت تمثل حراكاً شعبياً عاماً في وجه نظام استبدادي يتشكل من مختلف الطوائف والمذاهب الدينية.

* كاتبة من سورية

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى